الجمعة ٢٥ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٩
بقلم مصطفى أدمين

الـ«هو»

مهداة إلى جميع أطفال العرب

من نافذة «النصرية» الصغيرة المطلّة على البساتين الشرقية، وضع محمد يده على جبينه اتقاءً لشمس الشروق؛ لعلّه يتبيّن شيئا في الأفق؛ فيراه قادما، ويخبر الجميع بالرؤية المشؤومة. ولا شيء. الأفق هادئ تماما. وغطّت شمس الصيف المستفيقةُ الأراضيَ الصفراء بقشرة من ماء وهمي محيِّرة.

ومدَّ البعير عنقَه.... هو الآخر يتوقَّعُ قدومه المخيف.

في عينيّ البعير قلق ونرفزة. والكلبُ جرى بعيدا وهو يلهث لهاث الخوف؛ وأدار الحمار برأسه إلى حائط حزين، وراح يبكي بمرارة:«كُتِبَ عليَّ أن أكون الضحيّة الأولى إلى الأبد»، قال الحمار في نفسه. أبدا لن يستطيع إقناع ظالميه بأنه حيوان ذو أحاسيس مرهفة ولا يتقبَّل الظلم.

يقول:«لماذا حكمت السماء عليَّ بأن أكون موضوع سخرية واحتقار؟»

والجيران يقفلون بيوتهم بأقفال غليظة. لن يدَعوه يدمِّر ما بنوه السنة الماضية بالمشقة. في السنة الماضية وفي مثل هذا الوقت، كان أل«هو» قد خرَّب في ثلاثين دقيقة ما بنوه السنة الفائتة. حتى صار من المستحيل على أهل القرية ذكر اسمه؛ مخافة أن «يحظر» بمجرد أن يذكروه.

في ركن من أركان البيت، تضحك الجدَّة من القلق الذي لا مبرِّر له، والذي سيطر على جميع العقول. (طبعا يقول لها حفيدها محمد فأنت على شفى حفرة من الموت، ولا يهمُّكِ أن يأتي أل«هو» ويعكِّر صفوَ حياتنا).

النساء هرولن في كل مكان ليخبِّئن أي شيء، لأن ال«هو»، لما تقع عيناه على أي شيء، فإنَّه يناله بالقوة ويدمِّره؛ ثم يطالب بشيء غيره ليلقيَ به إلى نفس المصير.

أنذر محمد وجبينه يتصبّب عرقا:

إنه قادم.

ونزل من «النصرية» يتعثر في جلبابه، وتسلَّق شجرة اتقاءً لعيني أل«هو». فلو تراه عينا أل«هو» لجاز أن يعتبر نفسه في عداد المعطوبين.

وتعالت ضجّة، ونهق حمار من الخوف، وصهل حصان، ونبح كلب بعيدا، وقعقع بعير مكبّل القوائم، ولاذت الكتاكيت إلى جحور الثعابين من فرط الخوف، أملا في مصير أفضل من ذاك الذي عليها أن تلقاه مع أل«هو».

من بعيد علت سحابة غبار؛ وانبثقت منها شاحنة تتأرجح بين يمين الطريق ويسارها؛ لتصطدم تارة بسور البستان المسمى «قصر» وطورا بالحجر الذي يحدُّ وادي «أسيف».

لما بلغ الغبار ببوابة الدار المدبّسة بمسامير غليظة، حلَّ هدوء رهيب. ولما انقشع الغبار، ظهر أل"هو":

طفل صغير ذو رأس مدوّرة شعثاء، وأذنان كيدين تقيمان الصلاة، وعينان حادّتان تدوران في محجريهما بحثا عن أي شيء يصلح للتدمير، وأنف صغير في حجم رأس البنصر يتشمّم أي كائن حيِّ صالح للإرهاب، وبسمة شيطانية صغيرة، لكن مرعبة.

اذهب لحالك أيّها البليد! قال أل«هو» لسائق الشاحنة التي أقلّته؛ وفي الحين فرقع محرك الشاحنة، وسارت بسرعة البرق عبر البساتين وهي تميل تارة إلى اليمين، وطورا إلى الشمال، مخلِّفة سُحبا من السُّخام. المسكين ذلك السائق، ما صدّق أنه تخلص من الكارثة.
أين أنتم يا أوغاد؟ صاح أل«هو».

لم يتلقَّ أيّ ردٍّ، فانحنى والتقط حجرا، وطوّح به في السماء؛ وبعد ثانية، سقط محمد من على الشجرة التي اختبأ فيها؛ وصرخ من الألم؛ وهرولت أمه لتسعفه، ولكن قدمها زلّت، وسقطت على صخرة مرمر، وتكسّرت أظلُعُها هي الأخرى.

لم يُعِر أل«هو» أي اهتمام لما حصل، وبقي في الخارج يخطِّط لأمر مّا؛ بينما ظلَّ أهله في الداخل ينتظرون في توجّس.

طال انتظارهم، ولكنّه لم يدخل.

وطال الصمت. فقرر العمّ أن يخرج ليرى ماذا يفعل العفريت ابن أخيه. فصرخ من الدهشة لما رأى أل«هو» وقد ربط عربة ثقيلة إلى جحش نحيف، وما كاد العمُّ يقفز لنجدة الحيوان المسكين حتى دفع أل«هو» العربة لتسقط في حفير عميق ساحبة معها الجحش. وجرى هارباِّ إلى البيت وتبعه العم متأخرا ببضعة ثواني؛ فوجده قد شرع يجزُّ أذن حصان بسكين كانت معه. بينما بدأت مجموعة من الكتاكيت تحتضر لما أشبعها العفريت الصغير رفسا وركلا. وكان أل«هو» قد أرغم حمارا على أكل كمية من الصبار الشائك، وقسم ظهر شاة حبلى، وضرب بعيرا على فمه حتى سال منه الدم، وجرَّ كلبا من ذيله وصدمه بالحائط، ومرّر أنشوطةً حول عنق قطٍّ، وجرجره حتى تدلّت عيناه من محجريهما، وأسقط كوم بصل كان معلقا على علوِّ ثلاثة أمتار، وبعثره، وكسَّر جرّة زيت وخابية ماء، واصطاد عقربا ورمى به في حجر زوجة عمِّه، وفكّك قطع الفنوغراف مصدرِ الترفيه الوحيد في قرية لم تصلها الكهرباء بعد، ونفش الصوف الذي تعبت النساء من حلجه وغسله، ولطّخه بالتراب، وهمَّ بإدخال ابنة عمه إلى فرن متَّقد، وأضرم النار في محصول فول مكوّمٍ في فناء البيت...

والكلُّ يصرخ ويبكي ويتألّم، بينما الجدَّةُ تضحك وتقول:

اصبروا عليه! إنه مجرّد طفل.
والعمُّ يندب حظه ويصرخ:

أمي! إنه سيقضي معنا ثلاثة أشهر، أتفهمين؟ ثلاثة أشهر...

والجدة تضحك:

ومع ذلك علينا أن نصبر، فإنه مجرد طفل، وسوف يكبر ويصير رجلا نحبه.

كبر ال«هو»، وصار رجلا محترماً يعمل ببلدية «الدار البيضاء»، ولم ينسَ أصله البدوي، وتزوج وأنجبَ طفلا يشبه تماما الطفلَ الذي كانه، طفلا أرادَ لهُ أن يتعرّف الحياة في البادية، ولهذا كان يرسلهُ إليها في كلّ عطلة صيفية؛ مع سائق سيِّء الحظ...

مهداة إلى جميع أطفال العرب

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى