الأربعاء ٣٠ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٩
بقلم عمر حمَّش

أبوابُ الجحيم

خرج اليهود، فزحفنا إلى السرايَّ تحت الطبولِ الراجفة، ولقد رغبتُ دخولها خاليةً؛ فسبقتُ الناسَ إلى سورِِها المتعالي، رميتُها بدهشتي، فتمطّتْ مثل بغيٍّ فات زمانُها، وأوسعتْ، فدخلتُها فاتحا من غير سيفٍ، فعاودني الزمانُ - ذاتُ الزمان – فجمعتُ أنفاسي غيرُ هيابٍ، ثمَّ عبرتُها، لكنّ وجهَ حاكمها العبريِّ اعترضني في ساحتِها، وقد لوّح،
ثمَّ صاح متجهما:
أمسكوه!

فصحتُ:
 مََنْ يُمسكُ مَنْ؟

وتوغلتُ، فهاجمتني القيودُ في ممراتِها، وصفدتني، وعدتُ على أبوابِ الجحيمِ أُسحبُ من بابٍ إلى بابٍ؛ حتى وصلتُ بابَ مسلخِها؛ فشخصتُ فيهِ كما الذبيح، كانت الزنازين طابورين من ضباع، وتعلّق الصمتُ، ثمَّ تفجرّ، وتعبأ البهوُّ بالنواح، وجاءتني الصيحةُ

ذاتُ الصيحةِ -:
 إلى الصنبور!

فبُح حلقي:
 وأين الصنبور؟

وفي عينيّ ركضَ الرجالُ عراةًَ، وتفتحَ اللحمُ، والدماءُ تدفقتْ، وسمعتَُ منا صياحَ رجالنا:
 الله، الله!

وعادوا يردون على صياحِنا بسبِّ ذاتِ الإله!

فأضحى الكونُ يصْفِرُ، وفي الخارجِِ رجفُ الطبلِ مات، وخطوتُ منصاعا في جوفِ العطَنِ إلى بابِ زنزانتي، فانفتح، فاستعرضَتْ إسمنتَ أرضِها، وبلاطة مرحاضها القاتلة، وفي الدهليزِ صَرّتْ على الأبوابِ كومةُُ المفاتيح، فشحبَ أصحابي، وتأرجحت أسناننا، عدنا انتفضنا للصريرِ، كمِ انتفضنا للصرير!

وانزاحَ بابٌ في الجوارِ كما الجبل، فجاءني همسُ الرفاق:
 من في الكيسِ يُسحبُ، ليعودَ أنينا في حطام؟

وقامتْ عينايّ إلى نقشِِ اسمي، فجاءني من الجدارِ كتفُ رفيقٍ، فعدتُ أصعدُه؛ لأسرقَ لمحةً من شمسِ اللهِ، وسقطتُ عن كوّتِها على وسخِ البلاط، فزحفتُها، ليتلقفني في زاويةٍ البهوِّ (أبو حديد)!

جردني أبو حديدٍ، ثمَّ وضعني تحت الصنبورِ كما عملني الله!
 لا تحرك رأسَك!

وبدأ الماءُ يدقُّ الدماغََ قطرةً، قطرة، ظلَّ يدقُّ كسهامٍ في ذاتِ النقطة، فصارت رأسي كتلةَ ثلجٍ، صارتْ ليست لي، ويعاودني أبو حديدٍ تحت الصنبورِ، ليلطمَ بالأنبوبِ موطن ذكورتي، لطمةً تتلوها الأخرى!

يبترُ لحمي، ويصيحُ:
 سأقطعُ نسلك!

يلاعبني أياما ثمَّ يسحبني بلا عينين؛ عينايّ في علمِ الغيب!

ويوقفني بلا يدين، يداي نسيتُهما في الأصفاد!

يصرخُ:
 افتح.

يباعدُ ساقيّ بهراوتِه؛ لأصيرَ صنما كما الرقم ثمانية، وأصيرَ لوحا يسبحُ في الغيمِ!

ثمَّ يصرخُ على خصيتيّ كبطلٍ، ويرفسني مثل حمارٍ، فأشهقُ أنا على الأرض، أشهقُ، وأقولُ: مِتّ!

*******

من أقاصٍ بعيدة جاءتني الزغاريدُ والهتافاتُ، فراوغتُ البهوَّ كمبعوثٍ تحت رجفِ الطبلِ، ثمَّ فررتُ!

كانت ساحةُ السرايَّ تضجُّ بالآلاف حول منصةٍ عالية، فدرتُ كما الطريد!

وضجَّت الجموعُ:

 الزعيم، الزعيم!

ورأيتُه في لباسِه الخشن يأتي، وقد تعرّقتْ تحت كوفيته جبهته المتعبة، وخمنتُه قد رآني، فصحتُ متتبعا شارة إصبعيه:

 يا ريس!

قمتُ؛ لأجري، قلتُ: ألثمه. قلتّ: أحادثه. وقلتُ: سأكشفُ ما فعلَ اليهودُ!
وعبرتُ الزحام، وقد ضاع وزني، وحلّقتُ على غمام، وتمنيتُ لو كان لي مئةُ حلقٍ أهتفُ به، ولو لي ألفُ ذراع، وحملقتُ، فوصلتني أنفاسُ الزعيمِ لاهثة، وجمعتُ بقايايَّ، ونقّلتها، فصدمني على المنصةِ وجهٌ أعرفه، ثبتُُّ نظري، فتيقنتُ، فصرختُ:

 الحاكمُ!

وطارد صوتي في صدري كالحريق:
 يا ريس!

لكنّ الزعيم ظلَّ يهتفُ!

فصحتُ:
 يا إخوان!

فلم يسمعني حتى مجاوري، فدارتْ بي عفاريتُ، ثم رمتني في فراغٍ، وسمعتُ حلقي:
 يا ريس!

لكنَّ الحاكمَ العبريّ على المنصةِ قد خطا، ليظهرَ جوارَه أبو حديد، وأخذا يلوّحان، فشهقتُ تحت الأقدامِ، وغرقتُ في غيمةٍ صلصلت فيها القيودُ، وأبوابُ الزنازين عادتْ تصطفُ على عجلٍ!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى