الأحد ١ أيار (مايو) ٢٠٠٥
بقلم هشام عوكل

الاندماج والابتعاد بين البلجيكيين والعرب

لا بد من التسليم بأن العالم العربي لا يعرف كثيرا عن بلجيكا ولا تعرف عنه الكثير برغم وجود جالية عربية مهمة نسبيا على أرض هذه البلد ووجود مبادلات اقتصادية كثيفة بين الجانبين.

1 . صورة بلجيكا في العالم العربي

تقترن بلجيكا في أذهان الناس في العالم العربي عموما ببعض الأسماء مثل بروكسيل (باعتبارها عاصمة لأوروبا) وأنفير (ثاني ميناء في أوروبا). ويعرف العسكريون العرب FN بينما يعرف تجار الأسواق التقليدية السجاد البلجيكي و "كريات البليار" . أما بائعو السيارات فيأتون إلى بلجيكا لاقتناء السيارات المستعملة. ولايزال المصريون يتذكرون بشيء من الحنين "ترام" القاهرة الذي صنعت عرباته في شارل روا (بلجيكا) كما لا يزال الشيوخ من أهل القاهرة يتحدثون بإعجاب وإطراء عن البارون إيمبان الذي حقق نجاحاً تجارياً باهراً في بلاد الفراعنة. ويمكن القول إجمالاً إن بلجيكا معروفة في المغرب العربي أفضل مما هي معروفة في المشرق. فبلجيكا تستثمر كثيرا في صناعات النسيج التونسية وتشتري الغاز الجزائري كما تستضيف جالية مهاجرة، مغربية بالخصوص، تقدر بحوالي 155000 نسمة. وهناك فضلا عن هذا تعاون ثقافي وتقني مهم بين بلجيكا والمغرب العربي.

غير أنه بالنسبة لكثير من العرب تبقى بلجيكا قبل كل شيء بلدا أوروبيا صغيرا يقع بين هولندا (المشهورة بأبقارها الحلوب وبصنوف أجبانها علاوة على الشركات المتعددة القوميات العملاقة مثل شيل وفيليبس) وألمانيا (التي تتمتع بشهرة راسخة) وفرنسا الحاضرة في كل مكان في العالم العربي ولاسيما في الواجهة الجنوبية الشرقية للبحر الأبيض المتوسط.

ولاشك أن رجال الأعمال العرب يعرفون السوق البلجيكية ويعقد الماهرون منهم في هذا البلد صفقات مربحة. لكن عندما يتعلق الأمر بالصفقات الكبرى، فهي تبرم عادة في غير هذا البلد. فما أقل البنوك العربية التي استقرت في بلجيكا وما أقل الأموال العربية المستثمرة فيه، مع أن مبلغ الاستثمارت الخليجية وحدها في الغرب لا يقل عن 100 مليار دولار، يضاف إليها حوالي 600 مليار دولار تمثل أموال الأثرياء العرب المنتمين إلى برجوازية رجال الأعمال. والهيئة الاستثمارية العربية الوحيدة المعروفة نسبيا في بروكسيل هي المنظمة الكويتية للاستثمار والفضل في ذلك يرجع إلى شبكة Q8.
ومن الأسباب التي تفسر هذه الظاهرة كون الأثرياء العرب (وخاصة الخليجيين منهم) يتكلمون الإنجليزية وكونهم يميلون إلى إنجلترا والولايات المتحدة أو يؤثرون الواحات الضريبية المتمثلة في لوكسمبورغ وسويسرا، ومن هنا قلت معرفتهم ببلجيكا.
والحقيقة أن أفضل سفراء بلجيكا في العالم العربي هم هؤلاء الآلاف من الطلبة العرب الذين تخرجوا من الجامعات البلجيكية، ولاسيما الفرنكفونية منها. وأكثر هؤلاء ينتمون إلى المغرب العربي ثم، بدرجة أقل، إلى مصر وسوريا ولبنان وفلسطين والأردن. وكثير منهم يحتلون حاليا مناصب المسؤولية ويمثلون من غير شك رسلا لنشر الفرنكفونية، غير أن الجامعات لا تحتفظ بصلاتها معهم، فقليلا ما تتاح لهم فرص الاستفادة من دورات إعادة التدريب في بلجيكا، ولذلك يفقد هؤلاء الطلبة القدماء كل صلاتهم ببلجيكا مع مرور الوقت حتى لا يبقى لهم من هذا البلد إلا ذكريات الشباب. أضف إلى ذلك أن تشديد سياسة منح التأشيرة والانخفاض الملحوظ لعدد المنح المقدمة من بلجيكا ومجموعاتها السكانية، كل ذلك ساهم في التقليص بنسب ضخمة من عدد الطلبة العرب المسجلين في الجامعات البلجيكية خلال عقد التسعينات.

وباستثناء ثلة من رجال الأعمال يعدون بالعشرات وآلاف من الطلبة العرب، يمكن القول إن العرب لا يعرفون عن بلجيكا إلا القليل، أقل على كل حال مما يعرفون عن بلدان أوروبية أخرى تماثلها تقريبا في الحجم، مثل النرويج وهولندا وسويسرا أو النمسا.

ويكفي أن نقرأ الصحف العربية الواسعة الانتشار لندرك مدى قلة الاهتمام ببلجيكا. ولم يستطع أحد من الوزراء البلجيكيين السابقين الذين "اخترقوا جدار" اللامبالاة أن ينال الشهرة ويحظى بالتقدير في العالم العربي غير الوزير سباك، وذلك راجع من غير شك إلى مواقفه الشجاعة من القضية الفلسطينية. وبالمقابل لم تؤد تصريحات وزير بلجيكي سابق حول الإسلام ـ هذا الوزير الذي أصبح فيما بعد أمينا عاما لمنظمة حلف شمال الأطلسي ـ إلا إلى زيادة تعتيم صورة بلجيكا في العالم العربي.

قد يقف المرء موقف الاستغراب أو عدم التصديق من تصريحات الوزير البلجيكي للشؤون الخارجية لكن لو قمنا بإجراء تحقيق واسع في عين المكان عن صورة بلجيكا في العالم العربي فستكون النتائج بالتأكيد بالغة الدلالة. لا لأن صورة بلجيكا في العالم العربي سلبية بل لأن العرب يشعرون بأن بلجيكا تدير لهم ظهرها، مفضلة أن توسع نشاطها في القارة الأفريقية.

2 . صورة العالم العربي في بلجيكا

إذا كان العرب لا يعرفون بلجيكا فإن البلجيكيين يعتقدون أنهم يعرفون العالم العربي. ألا يتوافدون بالآلاف على الشواطئ التونسية أو المغربية بحثا عن الاسمرار ؟ ألا يصادفون في كل ناحية من شوارع بروكسيل مهاجرا عربيا ؟ ألا يتأثرون في حياتهم اليومية بأسعار النفط والغاز "العربيين" ؟ ألا يقذفون على مدار السنة بوابل من صور الدم والعنف في الجزائر أو فلسطين ؟ ألم يتابعوا "المسلسلات التلفزيونية" عن قضايا "الحجاب الإسلامي" و"الآيات الشيطانية" لصاحبها سلمان رشدي ؟

وهكذا يختزل الإنسان العربي بالنسبة لكثير من البلجيكيين في جملة من الصور : صور تشبه البطاقة البريدية التي يرسلها السائح إلى أهله وأصدقائه في البلد ؛ صورة غرائبية في الغالب تمثل الجمل والصحراء والسوق التقليدية والمرأة المحتجبة وباختصار عالماً غريباً غير مألوف. وليست هذه الصورة قبيحة في حد ذاتها ولكن أثرها السلبي يكمن في أنها تختزل واقع العالم العربي الشديد التنوع في بضع "ومضات". وتكرار نفس الصور يفضي آخر الأمر إلى الاعتقاد بأن العالم العربي يعنى امرأة متحجبة على ظهر جمل يعبر الصحراء متجها نحو السوق.

ثم هناك صورة أكثر خدعة ودسا وهي صورة السينما، فهنا التمويه واضح وأسلوب التأثير وتوجيه الرأي خفي دقيق. فالسينما تركز في بضع لقطات كلما يتعلق بسوء الفهم التاريخي القائم بين الغرب والشرق، بين الإسلام والعالم المسيحي، بين العرب وأوروبا، فتصبح الصورة التمثيلية كلها ثنائيات متعارضة. وهكذا ينظر إلى الشرق غالباً على أنه نقيض الغرب، فهو العاطفة مقابل العقل، والعنف مقابل الهدوء، والتقليد مقابل الحداثة، و"الحريم" مقابل نظام الزوجة الواحدة، والحكم الفردي مقابل الديموقراطية، وباختصار الوجه الآخر للذات الغربية المثالية.

وقد أجريت دراسات معقمة وشاملة حول الدور السيئ الذي لعبته السينما في تمثـيل المـشرق العربي. ومن الأفلام التي تندرج ضمن هذا النوع يمكن أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر : Pépé le Moko, Casablanca, Thief in Damascus, Laurence dصArabie وRaiders of the lost Ark وRaiders, Sahara, The Sheik, Harum وScarum وThe Son of the Sheik, Ishtar, Harem, Pétrole Pétrole وJamais sans ma fille.

والصور التي تبثها السينما هي الأصعب محواً، وهي التي تعمل في الغالب خفية على تكييف تصورات الأشخاص عن الشرق والإسلام والعالم العربي.

وهناك في الأخير الصورة التي تتشكل من خلال الاحتكاك بالمهاجرين العرب، فأكثر البلجيكيين يكونون صورة عامة عن العالم العربي من خلال منظار الهجرة المشوه للحقائق. ولا غرابة بعد هذا أن يشتد عجب البلجيكيين عندما رأوا عازفا لبنانيا على البيانو وهو عبد الرحمن باشا يفوز في مسابقة الملكة إليزابيث وكاتبين عربيين، المغربي الطاهر بن جلون واللبناني أمين معلوف، يحوزان على جائزة غونكور، ثم عندما رأوا أخيرا الروائي المصري نجيب محفوظ يحصل على جائزة نوبل للآداب. إن هناك كثيرا من العرب بلغوا شأوا بعيدا في ميادين شتى، ولكن قلما يذكر إسهامهم في الفنون والعلوم، وكأن هذا الإسهام لا يعني أحداً أو لعله يزعزع بعض المسلمات الراسخة في الأذهان.

وهكذا يحل العربي في المخيال الجماعي للغربيين ـ ومن ثم للبلجيكيين ـ محل اليهودي والسوفياتي سابقاً، باعتباره عنصرا "غير مرغوب فيه" وبالتالي "سيئ السمعة".

ويكفي القيام باستطلاع بسيط لمعرفة إلى أي مدى تعشش هذه الصور السلبية في أذهان غالبية البلجيكيين وتؤثر في سلوكهم. وأنا أقول الغالبية لأننا نجد في بلجيكا كما في سائر البلدان الغربية أقلية من الناس عرفت بحكم مهنتها أو بدافع حبها للعالم العربي كيف تكتشف هذا العالم وتسخر طاقاتها لرد الاعتبار له في المخيال الجماعي.

3 . الصحافة البلجيكية والعرب

غالباً ما تلقى مسؤولية تشويه صورة العرب على وسائل الإعلام، وهو حكم يحتاج إلى تدقيق بالنظر أولاً إلى اتساع وعمومية مفهوم "وسائل الإعلام". فهناك الصحافيون والصحف والإذاعات وقنوات التلفزيون. ومن البدهي أننا لا نستطيع أن نلصق بقناة تلفزيونية (بلجيكية) أو بصحافي وصمة "مناهض للعرب". ففي هذا البـلد كـما فـي كل البلـدان صحافيون يختلفون في الميولات والمشارب؛ فصحيفة La Dernière Heure مـثلا لا تكـن الحب للعرب، ولكن صحافيي La Dernière Heure لا يتهمون مع ذلك بالعنصرية، بل هذه التهمة بعيدة عنهم. وهناك صحيفة Le Soir التي تبذل كثيرا من الجهد في استجلاء الأحداث والبعد عن الإثارة وشرح حقيقة الوضع في العالم العربي بصورة مفهومة. ولم تقصّر صحيفة La Libre Belgique الكاثوليكية أيضا في هذا المضمار، فالتحليلات والافتتاحيات التي تخص بها كثيرا من القضايا العربية لا تنقصها الدقة والصواب، وهي موفقة في غالب الأحيان، لا لأن هؤلاء الصحافيين يسعون إلى دغدغة مشاعر العرب وخطب ودهم أو إلى إخفاء تناقضاتهم، بل لأنهم على أقل تقدير يتجنبون الانسياق مع التحليلات الصبيانية التي تبدو خارج السياق وخارج التاريخ وخارج المجتمع.
غير أن إذاعة وتلفزيون بلجيكا هي التي تقوم بالدور الحاسم فيما يتعلق بالعالم العربي. ولا يمكن القول مع ذلك أنها تروج لصور سلبية، وقد قدمت تقارير صحافية جيدة من إنجاز صحافيين مقتدرين. والصحافيون البلجيكيون معروفون عامة بكونهم يمارسون مهنتهم بكفاءة وشعور بالواجب، وليس لهم من قضية يتجندون لها سوى تتبع الوقائع والإخبار عنها. ولنذكر هنا عَرَضاً برنامج "Sindbad"، الذي يتميز غالباً بجودته العالية والذي ساهم كثيرا في تعريف البلجيكيين على الباحثين والفنانين ذوي الأصول العربية، وعمل على كل حال على كسر الصور النمطية الأكثر رواجاً.

وبالمقابل نلاحظ هزالة الأخبار الدولية في التلفزيون البلجيكيRTL، ولاسيما ما يتعلق بالعالم العربي. ولكن حتى هذه القناة تقدم تعاليق سديدة تصدر عن صحافيين على وعي بإشكالية العالم الثالث. ولكن هؤلاء يشكلون مع الأسف نسبة غير كبيرة ولا يجدون غالباً "المؤازرة" من الإدارة. وعلى أي حال، فقناة RTL قناة تجارية قبل كل شيء، وهي لذلك تخضع لطغيان "الأوديمات" (قياس درجة إقبال الجمهور).

والواقع أن الصحافيين سواء في الإذاعة أو في التلفزيون تتوارد عليهم الأحداث المتلاحقة عن العالم العربي بسرعة جنونية. ومن ثم لا يتاح لهم متسع من الوقت في الغالب للتأني والشرح. وكلما دعي شخص للتعليق على الأحداث في الجريدة المتلفزة يطلب منه أن يتحدث في دقيقة أو دقيقتين، وهو وقت لا يكفي إلا لترديد العبارات المعروفة التي تلوكها الألسن في كل مناسبة، ولا يستطيعون غير ذلك. وهكذا يبقى العالم العربي الذي تسلط عليه حركية الأحداث المتسارعة ضوأها الكاشف لغزا كبيرا. فلم يحدث قط أن كثر الحديث عن العراق وفلسطين كما كثر الآن، ومع هذا لم يساهم كل ذلك في توضيح الوقائع واستجلاء المشكلات.

ومن شدة الالتصاق بالحدث ينتهي الأمر إلى احتجاب الحقائق العميقة وانفلاتها من الأيدي، كما أن الإلحاح في حشو أدمغة المستمعين بالأخبار يفضي بها إلى أن تضيق بما حَوَتْ، وتنتهي التغطية الإعلامية الكثيفة لبعض المشكلات والجامعة بين الغث والسمين إلى إيهام المتلقي بأنه أخذ من كل شيء بطرف. وهكذا يطغى الإخبار على التثقيف وتفضل سهولة الانسياق مع التيار العام على صرامة الشك.
وينال العالم العربي كغيره من المناطق الجغرافية حظه من الآثار السلبية الناجمة عن ذلك كله.

فلا ينبغي إذا الإنحاء باللائمة على الصحافيين لأن الخطأ يرجع إلى طريقة صوغ الخبر في المجتمعات الديموقراطية وفي الاقتصاد الحر، وتلك قصة أخرى كما يقال.

4 . العالم العربي والمدرسة البلجيكية

ماذا يتعلم التلاميذ البلجيكيون عن الإسلام والعالم العربي ؟ كثيرا ما يستوقفني هذا السؤال لأن المدرسة تمثل أهم مؤسسة بعد الأسرة في إقامة العلاقات مع المجتمع والاندماج فيه. ففي المدرسة يتفتح الذهن للمعرفة العلمية وينمو الفضول المعرفي والروح النقدية.

ولمعرفة كيف يدرس العالم العربي والإسلام في المدارس البلجيكية كان لا بد من تفحص الدروس والكتب المدرسية بإمعان وتأن. فماذا كانت النتيجة ؟ لا نجد إجمالا إلا بضع صفحات حول الحضارة الإسلامية ولا شيء تقريبا عن المليار مسلم الموجودين حاليا في العالم. أما المعلومات عن العالم العربي بسكانه البالغ عددهم 270 مليون نسمة فشذرات قليلة لا تكاد تذكر. كما لا يجد القارئ سوى إشارات عابرة عن إسهام العرب في تطور العلوم فيما بين القرنين الثامن والرابع عشر، وعن صعود الإمبراطورية العثمانية فيما بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر وعن الاستعمار الأوروبي، وتمزيق العالم العربي في القرنين التاسع عشر والعشرين، وعن نمو الحركة الوطنية العربية (ق.20) وعن الأحداث العاصفة التي يشهدها العالم العربي حاليا. فأي تلميذ بلجيكي سمع أسماء العلامة الخوارزمي (850-750 ميلادية) والعالم الرياضي الفارابي (950-872) والفيزيائي الفرازي (المتوفى سنة 777م.) وعالم الفلك المقديسي (ق.10م.) والكيميائي العبادي (807-877م.) والفيلسوف ابن سينا (1036-980) أو عالم الاجتماع ابن خلدون (ق. 14م.) ؟

وإذا كانت كتب التاريخ تذكر الحروب الصليبية، فقد سكتت بالمقابل عن حملة نابليون على مصر وعن استعمار الجزائر وشق قناة السويس و "الثورة" العربية الكبرى (1918-1915) والمقاومة الفلسطينية للمشروع الصهيوني الرامي إلى زرع دولة يهودية في فلسطين قبل سنة 1948، وتصفية الاستعمار في العالم العربي (1970-1920)، كما لا تشير إلى العلاقات الحالية بين العالم العربي والغرب.
ومن الصعب حقيقة إدراج درس معمق عن العالم العربي وعن الإسلام في برنامج مدرسي مثقل بالمواد، لكن بالنظر إلى زخم الأحداث الراهنة في العالم العربي من جهة وجو العداء السائد من جهة أخرى، هل يبلغ العجز بالمدرسة البلجيكية ألا تجد من الأفكار والوسائل ما يمكنها من تطعيم برامجها ولو بالحد الأدنى من المعلومات بحيث تساعد الطلبة على تمييز الأحكام المغلوطة وكشف النقاب عن تزييف الحقائق في العالم العربي ؟

ومن البدهي أن موازين القوى غير متكافئة. فالتلميذ البلجيكي قد يجوز له أن يتجاهل تاريخ العالم العربي ولغته وآدابه وإنتاجه العلمي. أما التلميذ العربي فيتلقى قدرا أكبر من المعلومات عن الغرب عامة، حتى وإن لم تتوفر له معرفة أفضل عن بلجيكا وصيرورتها التاريخية وخصوصياتها الحالية..

ولاشك أن الترابط بين "تاريخي" الغرب والشرق كان من القوة بحيث كان يتراءى لنا أن من العبث محاولة فهم أحدهما بمعزل عن الآخر.

5 . العالم العربي والجامعة البلجيكية

كانت الجامعات البلجيكية عادة أكثر انفتاحا على العالم الأفريقي وذلك بحكم الاستعمار ! فكان التعليم الوحيد الذي نجده في هذه الجامعات عن العالم العربي يتعلق خاصة باللغة والأدب العربيين (في لييج وبروكسيل وغوند ومونس وبالأخص في جامعة لوفان الكاثوليكية). وتعليم اللغة العربية في جامعة مونس حديث نسبياً، وهو يرتبط بتدريس الترجمة الفورية. وكثيرا ما يتولى هذا التعليم شخص واحد أو فريق واحد صغير جدا.وأحدثت بعض الدروس المتعلقة بالفلسفة العربية في بعض الجامعات، بينما ركزت جامعات أخرى اهتمامها على علم الآثار، وبخاصة الدراسات المصرية القديمة. ومما يجدر بالإشارة في سياق هذا الحديث أن بلجيكا قد كونت أخصائيين مرموقين في مجال علم الآثار، شاركوا في حفريات في سوريا ومصر والعراق والأردن وفلسطين.

لكن كان اهتمام الجامعات البلجيكية بقضايا العالم العربي المعاصر ضئيل الشأن في مجمله. ولا ينكر أن مركزا صغيرا قد أنشئ في جامعة بروكسيل الحرة، غير أنه تلاشى بعد رحيل مديره السابق. والمركز الوحيد للدراسات العربية الجدير بهذا الاسم حاليا في بلجيكا هو مركز الدراسات والأبحاث حول العالم العربي المعاصر (CERMAC) الموجود في جامعة لوفان الكاثوليكية والذي أنشئ سنة 1975. وقد استطاع هذا المركز أن يفتح عيون طلبة جامعة لوفان الكاثوليكية ويبصّرهم بمشكلات ورهانات العالم العربي المعاصر. وتحقيقاً لهذه الغاية، تزود المركز بمكتبة متخصصة، وغدا يقدم تعليماً على شكل محاضرات وحلقات دراسية، كما يقوم بإنجاز أبحاث وتنظيم ندوات وأيام دراسية، إضافة إلى ذلك يصدر المركز نشرة أسماها "Cahiers du Monde Arabe Contemporain" (دفاتر العالم العربي المعاصر) صدر منها حتى الآن 148 عددا. وعلاوة على مركز الدراسات والأبحاث حول العالم العربي المعاصر(CERMAC)، تضم جامعة لوفان الكاثوليكية معهداً للدراسات الاستشراقية ما زالت منشوراته وترجماته للنصوص العربية القديمة مرجعاً يعتد به.

غير أن الحصيلة إجمالا تبقى دون المستوى المطلوب. فإذا ما استثنينا بعض الدروس في علم الآثار الشرقية والعمارة الإسلامية التي تلقى هنا أو هناك، لا نكاد نجد خارج جامعة لوفان الكاثوليكية وإلى حد ما جامعة مونس، تعليما يعنى بالعالم العربي في واقعه الحالي. وحتى إن وجد مثل هذا التعليم فهو محصور في مراكز صغيرة جدا وأضيق من أن يرى أثرها في الخارج، وما تلقاه من الدعم من السلطات العامة ومن صندوق البحث العلمي أقل من أن يتيح لها القيام بأبحاث طويلة النفس.
فلا يستغرب بعد هذا أن تفتقر المصلحة الدبلوماسية البلجيكية، برغم تجربتها وإخلاص كثير من دبلوماسييها العاملين في البلدان العربية، إلى اختصاصيين حقيقيين في السياسة والاقتصاد العربيين. وبالمقابل ليس هناك حسب معرفتي سفارة إسبانية أو فرنسية واحدة في بلد عربي لا يوجد فيها على الأقل مستعرب واحد أو في كل الأحوال متخصص في العالم العربي.
وصحيح أن كل دبلوماسي لا يحتاج بالضرورة إلى معرفة معمقة بالبلد الذي يعمل فيه، ثم هو يستطيع أن يتعلم مع مرور الوقت وتراكم التجارب، ولكن كم من الوقت يضيع في ذلك مع أنه كان من الأجدر أن يستغل في إجراء اتصالات وفي الدفاع عن مصالح بلجيكا والمجموعات السكانية المنضوية فيها.
ومن جهة أخرى قلما تلجأ الشركات البلجيكية الكبرى العاملة في البلدان العربية إلى الاستعانة بالاقتصاديين أو الأخصائيين في التسويق أو التواصل المتمرسين بتقنيات التواصل مع العالم العربي.

ومما لا شك فيه أننا لا نستطيع أن نطمع في إقامة معهد كبير للعالم العربي في بلجيكا على غرار معهد العالم العربي بباريس أو دار البحر الأبيض المتوسط في إيكس ـ أون ـ بروفانس، غير أن الاستمرار في ترديد مقولة أن بلجيكا بلد صغير ذو إمكانيات صغيرة سيؤدي آخر الأمر إلى الإساءة إلى المصالح الاقتصادية لبلجيكا وإلى تقليص إشعاعها الثقافي في الخارج، والعالم العربي هو "الخارج" الأقرب.

6 . العالم العربي والاقتصاد البلجيكي

لاشك أن من المبالغ فيه التأكيد بأن رجال الأعمال البلجيكيين قد اكتشفوا العالم العربي بعد "الصدمة النفطية" الأولى. وبدون أن نعود إلى الماضي السحيق، يمكن التذكير بعلاقات التبادل القديمة بين بلجيكا والعالم والعربي: فمنذ العصور الوسطى كانت تصدر المنسوجات من بروج (بندقية الشمال) نحو الشرق الأوسط، وفي مرحلة تاريخية أقرب إلينا، أي في القرن التاسع عشر، كانت المصالح البلجيكية مهمة في مصر. فقد أحرز البلجيكيون شهرة عظيمة في مجال المواصلات بالوسط الحضري (الترام) وفي مجال السكك الحديدية. وكان القاهريون منذ أمد بعيد يعرفون شارل روا أكثر مما يعرفون بروكسيل. وكان يمكن أن يستثمر البلجيكيون هذا الرصيد الضخم ولكنهم شاءوا غير ذلك. غير هذا المنحى.

وكانت عودة الشركات البلجيكية إلى السوق العربية قد ارتبطت بارتفاع أسعار النفط في سنتي 1974-1973، وكانت بذلك ترغب في انتزاع حصتها في سوق جديدة لها قدرة على السداد. ونهم لا يشبع. وشارك ما لا يقل عن ألف شركة بلجيكية في هذا السباق المحموم، بعضها كانت قد اكتسبت من قبل خبرة بالميدان وبالتالي لم تجد صعوبة في فرض نفسها كما هو الحال بالنسبة لشركات ACEC, Distrigaz, Petrofina أو Tractebel. وبعضها يسير على غير خطة واضحة المعالم فكانت تطمع في إبرام الصفقات أكثر مما تسعى إلى إقامة علاقة بعيدة المدى. وهناك في الأخير الشركات الصغيرة التي تعيش ليومها.
كانت الحصيلة إذا ضعيفة. وإذا كان البلجيكي يعتبر عامة في نظر رجال الأعمال العرب إنساناً جدياً وأميناً وجديراً بالثقة، فإن بعض الشركات البلجيكية بالمقابل قد اعتمدت سلوكا غير لائق ولا مراع للأصول، منطلقة من فرضية سخيفة مؤداها أن "عرب الصحراء لا علم لهم بعالم الأعمال"، وبالتالي لا خوف على من يخدعهم وينصب عليهم. وهذا بطبيعة الحال جهل بحقيقة أن العربي وخاصة الغني شديد الحرص على ماله. وبهذا السلوك أضاع البلجيكيون على أنفسهم صفقات مربحة. غير أن معظم الشركات البلجيكية أبانت عن كفاءة عالية واستحقت بذلك التقدير.

وهناك عقبة أخرى أعاقت توغل الشركات البلجيكية في السوق العربية، وتتمثل في ضعف بنيات الدعم المخصص للصادرات البلجيكية، فهذه البنيات لم تكن دائما في المستوى وذلك راجع من دون شك إلى قلة إمكاناتها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الفرنسيين قد خلقوا مناصب للتوسع الاقتصادي على إثر صدور قانون بهذا الشأن سنة 1919. وبلغ عدد هذه المناصب حاليا 183، وهي مبثوتة في أرجاء العالم منها 26 منصبا في 12 بلدا عربيا. وليس في مقدور البلجيكيين لضآلة مواردهم أن يجاروا منافسيهم، فضلا عن أن التنافس الداخلي بين البلجيكيين أنفسهم لا يساعد على تحسين الوضع. فقد فوجئ بعض الملحقين التجاريين بل وبعض السفراء أيضا وهم يدافعون بحمية عن مصلحة "بيتهم" الولوني أو الفلامونكي، غافلين عن المصلحة الوطنية لبلجيكا.

7 . المبادلات التجارية بين بلجيكا والبلدان العربية

تعتبر البلدان العربية شريكا لا يستهان به في المبادلات الخارجية لبلجيكا. لكن إذا كانت الواردات من هذه البلدان تمثل نسبة 9% والصادرات نسبة 4.5% سنة 1980، فإن الصورة قد تغيرت تماما أواخر سنة 2004، ليس فقط لأن النسب في تناقص، بل لأنها قد انعكست بحيث أصبحت الصادرات البلجيكية تفوق من حيث القيمة الواردات. فقد بلغت قيمة الصادرات 166 مليار اورو مقابل 90 ملياراً فقط بالنسبة للواردات، وبالتالي تحقق بلجيكا رصيدا إيجابيا بقيمة 52 ملياراً.

وينبغي أن نشير إلى أن أسعار النفط بلغت أوجها سنة 1980 (35 دولاراً للبرميل في سوق سبوت) بينما تراوحت سنة 2002 في حدود 27 دولاراً للبرميل. والأهم من ذلك أن حصة البترول من إجمالي الواردات البلجيكية من المجموعة العربية قد انخفضت في حين تنامت أهمية بلدان المغرب العربي في المبادلات الخارجية لبلجيكا. وهكذا أصبحت تونس هذا البلد المغاربي الصغير تعادل المملكة العربية السعودية في ميزان المبادلات الخارجية لبلجيكا (24,4 و23,8 مليار فرنك بلجيكي على التوالي) أضف إلى ذلك أن تجارتها مع بلجيكا أكثر توازنا.

تمثل حصة بلجيكا في المبادلات التجارية للاتحاد الأوروبي (90 مليار وحدة نقدية أوروبية) 5% وهي في انخفاض بالمقارنة مع عقد التسعينات. وتدخل ضمن هذه الحصة المبادلات الخارجية البلجيكية مع العالم العربي التي تبلغ قيمتها 180 مليار ، أي ما يعادل 8,5 مليار وحدة نقدية أوروبية.
وتتمتع بلجيكا بكثير من المزايا النسبية، لكن يظهر أنها خلدت إلى الراحة خلال العقود الأخيرة وتركت بلدانا عديدة أخرى كإسبانيا تتقدمها في هذا الميدان وقد كانت من قبل بعيدة وراءها.
ويتعين على منطقة والونيا خاصة التي لا تزيد مبادلاتها مع العالم العربي عن 14% من إجمالي المبادلات البلجيكية، أن تبذل جهودا أكبر لاكتشاف عالم قد يصبح مع استتباب السلام منطقة اقتصادية واسعة صاعدة. ومن دواعي السرور أن نلاحظ مع ذلك أن زيارة واحدة لمجموعة من رجال الأعمال البلجيكيين إلىالعالم العربي أواخر سنة 2004 قد أسفرت عن عدة عقود تقدر قيمتها بعشرات الملايين.

8. الدينامية الجديدة لمنطقة والونيا وللمجموعة الفرنسية في سياق العلاقة مع العالم العربي

لا يتسع المقام هنا لتقديم موجز عن العلاقات القائمة بين منطقة والونيا ـ بروكسيل والعالم العربي. لكن ما ينبغي أن يسترعي الانتباه هنا هو المنظور الدولي الجديد لمنطقة والونيا وللمجموعة الفرنسية لبلجيكا. فمن الواضح أن هناك دينامية جديدة تتحرك وهي التي أتاحت تعزيز الدور الذي تضطلع به المنطقة الوالونية والمجموعة الفرنسية لبلجيكا في العالم. وهذا النشاط واضح فيما يتعلق بالعالم العربي ويتجلى على مستوى قسم العلاقات الدولية والمفوضية العامة للعلاقات الدولية والجمعية من أجل تشجيع التربية والتكوين في الخارج أو على مستوى الوكالة الوالونية للتصدير. وهو راجع إلى مختلف الاتفاقيات المبرمة بين المنطقة الوالونية والمجموعة الفرنسية كل ذلك مكن من تحقيق التنسيق وخلق علاقات تكامل وانسجام بين المصالح، مما زاد من فاعلية الجميع وعزز حضور بلجيكا في العالم العربي.

وهكذا أنشأت الوكالة الوالونية للتصدير على المستوى الاقتصادي سلسلة من المناصب تتعلق بالملحقين الاقتصاديين والتجاريين في العالم العربي (آخرها في القاهرة) كما استحدثت مفوضيات والونيا-بروكسيل (آخرها في الرباط). كل هذه الإجراءات اتخذت بدافع الحرص على تنشيط الصادرات الوالونية نحو البلدان العربية، وهي صادرات لا تمثل سوى 14% من إجمالي الصادرات البلجيكية التي تقدر ب 116 مليار (نهاية سنة 2003)، وهي نسبة يجب أن تؤخذ بحذر لعدم توفر إحصائيات موثوق بها عن المنطقة. غير أن البنك الوطني يقدر الصادرات الوالونية سنة 2002 بحوالي 920 مليار فرنك، وهو ما يمثل بالفعل نسبة لا تكاد تزيد عن 14% من مجمل الصادرات البلجيكية (أي 6.673 مليار سنة 2001).

ومن مجموع هذه الصادرات تستأثر أوروبا بحصة الأسد (بلدان الاتحاد الأوربي + البلدان غير الأعضاء فيه) أي ما يعادل نسبة 87%، مقابل 1% بالنسبة لشمال أفريقيا و 1,33% بالنسبة لبلدان الشرق الأوسط والأدنى، وهي ـ بعد ـ نسب منخفضة بمعدل 16% بالقياس إلى سنة 2002، مما يعني أن على منطقة والونيا أن تبذل الجهد لاستعادة حصص في السوق. ومن هناك تجدد اهتمام الوكالة الوالونية للصادرات بالعالم العربي.

وعلى المستوى العلمي والثقافي، وقعت المفوضية العامة للعلاقات الدولية مع عدد من البلدان أو المؤسسات العربية اتفاقيات جامعية خاصة تتعلق ببعثات الأساتذة واستقبال المتدربين وتقديم المنح وتبادل الخبراء في إدارات الشبيبة أو القطاع الجمعوي، والتعاون في مجال المسرح والسينما أو الموسيقى بل حتى بالمشاركة في معارض الكتاب وفي معرض "القراءة بالفرنسية وبالموسيقى"
وينبغي أن نخص بالذكر في هذا الصدد التعاون مع فلسطين. فلم تنتظر المفوضية العامة للعلاقات الدولية والجمعية من أجل تشجيع التربية والتكوين في الخارج استكمال إجراءات التوقيع على الاتفاقية بين منطقة والونيا ـ بروكسيل والسلطة الفلسطينية لبدء تعاون مثمر بهدف دعم تعليم الفرنسية وخلق علاقات شـراكة كـتلك التـي تـربط بيـن مـدرسة السـياحة والإدارة الفندقية ببيت لحم ومعهد A. Haulot (بروكسيل)، وتشجيع نشر السينما الفرنكفونية البلجيكية في فلسطين والمساهمة في توفير التدريب في مجال تقنية التصوير الفوتوغرافي واستقبال فرق مسرحية فلسطينية ببروكسيل وفي منطقة والونيا أو دعم المؤلفات المكتوبة بالفرنسية من قبل باحثين فلسطينيين.

وإذا كان التعاون مع فلسطين قد انتعش بفضل جهود المفوض العام السابق السيد روجي دوهيب، فقد خطا خطوات جديدة في سلم الارتقاء

9 . العمال العرب في بلجيكا

يبلغ عدد سكان بلجيكا حوالي 10 ملايين نسمة، ولا يتجاوز العرب بمختلف جنسياتهم في هذا البلد حالياً 155.000 نسمة. وهو عدد لا يمثل سوى 1,5 % من مجموع السكان. وهي نسبة بعيدة عما يسميه السياسيون "الحد المسموح به". فعلى سبيل المقارنة يمثل الأجانب في بلدان الخليج الستة (مجلس التعاون الخليجي) التي يبلغ عدد سكانها الإجمالي 26 مليون نسمة، مالا يقل عن 7 ملايين، 50% منهم من أصل آسيوي. كما نجد أن 80 % من سكان قطر هم من أصول أجنبية.
وقد يعترض على هذه الحقائق بأن الأوضاع مختلفة وأن المقارنات واهية. ومع ذلك فإن نسبة الأجانب في بلدان الخليج مقارنة إلى السكان الأصليين تقدر بواحد إلى أربعة. وتصل هذه النسبة في بعض البلدان مثل قطر ثلاثة إلى أربعة.

وما معنى هذا ؟ معناه أن "الحد المسموح به" يختلف من بلد إلى آخر باختلاف العرض والطلب في سوق العمل ويتغير وفق أهمية التاريخ الوطنية ووفق تصور الهوية الجماعية لكل بلد.
وما يثير الإشكال بالنسبة للبلجيكيين فيما يظهر هو، من جهة، تمركز المهاجرين العرب (وخاصة المغاربيين) في بعض المناطق مثل بروكسيل (وفي بعض أحيائها) مما يجعل وجودهم لافتا للأنظار، وهو، من جهة أخرى، تشبث المهاجرين بعادات وتقاليد بلدانهم الأصلية ؛ وأخيرا رفض المهاجرين ظاهريا الاندماج في المجتمع المضيف.
والواقع أن المهاجرين كانوا في كل زمان (البولنديون والإيطاليون والبرتغاليون والإسبان والأتراك) يؤاخذون بنفس العيوب : وهي أنهم يعيشون مجتمعين ويكررون السلوكيات الاجتماعية لبلدهم الأصلي ولا ينصهرون في المجتمع المضيف.

فيما مضى كان الهدف المفضل للعنصرية العادية هم اليهود والبولنديون والبرتغاليون والإيطاليون. أما اليوم فقد حل العرب والمسلمون محل هؤلاء. ومن قبل كان يعاب على الإيطاليين أنهم "قذرون وقحون مخادعون كسالى"، واليوم تتجدد نفس الاتهامات وتلصق بالمهاجرين المغاربيين. ويظهر أن الرأي العام لا يحتاج ـ أو تنقصه الرغبة أو الوقت ـ إلى فهم سوسيولوجية ظواهر تمركز السكان وانبعاث الحماس الديني أو إحياء بعض الممارسات الاجتماعية الجماعية.

وفي خضم هيجان العواطف الذي أثير حول قضية سلمان رشدي، ومقتل المخرج فيخ أصبح من الصعب معالجة قضية الهجرة بطريقة متزنة وهادئة وإنسانية، والحال أن هناك حقائق أولية عن الهجرة يجب التذكير بها تفاديا للوقوع في مزالق خطيرة :
1. ليست هناك في بلجيكا جهود تشاورية ومدعمة من الدولة من أجل انخراط الجالية المهاجرة في المجتمع. وهذا الخصاص يتجلى بوضوح في مجال التمدرس والإسكان والتأهيل المهني. وهكذا اتضحت استحالة انصهار المهاجرين في المجتمع المضيف (إما أن يقبلوا أن يعيشوا كما نعيش أو يغادروا!) بل حتى اندماجهم صار صعبا. وانتخاب مجلس إسلامي مؤخرا يعد في هذا الصدد خطوة بالغة الأهمية.

2. يقف الجيل الثاني من المهاجرين العرب في مفترق الطريق، وهو يعيش حيرة كبيرة حيث تتجاذبه ثقافتان : الثقافة التي تلقاها من الوسط العائلي والثقافة التي يعايشها في محيطه الطبيعي. والأولى هي التي ينبغي منطقيا أن ترضخ للثانية. فسواء أحببنا أم كرهنا فإن الجيل الثاني والثالث من المهاجرين العرب سينتهي به الأمر إلى الذوبان في بوتقة النموذج الثقافي الغربي، كما ذابت قبله كثير من الأقليات. لكن ذلك لن يتم بدون تضحيات.
إن غالبية المهاجرين العرب في بلجيكا مسلمون سنيون يمارسون شعائرهم الدينية سواء في المسجد أو في بيوتهم. وهم يتحلون بالتسامح ويحرصون على إعطاء صورة إيجابية عن دينهم. ولا يريدون في معظمهم إلا شيئا واحدا وهو أن يعيشوا في سلام ويعملوا لكسب قوت ذويهم. وهناك شيء واضح تؤكده الاستطلاعات وهو أن الجيل الثاني أقل تطبيقا لشعائر الدين والجيل الثالث سيزداد بعدا عن هذه الشعائر (مقارنة إلى جيل الآباء).

وبالمقابل نجد عند أقلية من المسلمين إسلاماً متشدداً ينمو ويوسع نطاقه في قلب المدن الأوروبية. وهذه ظاهرة عامة. ففي كل بقاع العالم الإسلامي نشهد ظهور جماعات تنادي بالرجوع إلى إسلام صاف ومتشدد. ولكنها ظاهرة تعزى إلى الشعور بالحيرة والضياع أكثر مما تعزى إلى الحمية الدينية. وهذا الجيشان الديني يشكل مصدر خوف في أوروبا التي قطعت الصلة بين الكنيسة والدولة منذ أمد بعيد.
وإن مواجهة كل مظهر من مظاهر الغلو الديني بالعنف (كما حدث في قضية الحجاب الإسلامي) قد يؤدي في رأيي إلى إحداث توتر في العلاقات بين المجموعات السكانية وهو أمر نحن في غنى عنه. وأفضل سياسة هي العمل بخلاف ذلك على تقديم صورة قوية عن قيم التسامح اللائكي والتعددي في إطار نظام ديموقراطي يحظى بالاحترام.

وإن ما يميز بين الهجرة العربية الحالية والهجرة الإيطالية في الماضي هو أن العمال العرب مسلمون. وهؤلاء في تصور الكثيرين لا يشكلون فقط فئة اقتصادية بل يمثلون أيضا فئة دينية وثقافية. ومن هنا فإن المهاجرين لم يعد ينظر إليهم على أنهم عمال غير مؤهلين يعانون الاستغلال، بل على أنهم مختلفون. وكما يقول ألان تورين : >كان المهاجرون بحكم وضعيتهم الاقتصادية في أسفل السلم فإذا هم يصبحون بسب دينهم خارج الدائرة.

وهذا التغيير في تمثل ظاهرة الهجرة العربية ينطوي على مخاطر جسيمة وهي تكون المعازل السكنية وظهور حركات عنصرية صريحة.
ولما كانت وسائل الإعلام تعتمد التعميم والتهويل وتضخم من شأن المجموعات الصاخبة مع أنها أقلية وتبالغ في تغطية بعض "القضايا" فهي لا تساعد على وقف الانزلاق الخطير المتمثل في الخلط بين الأمور الذي هو ألد أعداء الاندماج.

ويجب أيضاً أن نتقبل فكرة أن 95 % من المغاربة المولودين في بلجيكا من أبوين مغربيين لا يعودون إلى المغرب للعيش فيه. ولاشك أنهم حين يعيشون في بلجيكا يحلمون ببلدهم الأصلي الذي زينته في مخيلاتهم حكايات آباء يدفعهم الحنين إلى نسج صورة مثالية عن الوطن البعيد. لكنهم حين يعودون إلى بلدهم الأصلي تراهم يترقبون بشوق ساعة العودة إلى "بيتهم" في بلجيكا. أليست معضلة جميع المهاجرين الجوهرية وقدرهم ألا يعرفوا على وجه التحديد أين "بيتهم" الحقيقي. ولعل هذا هو السبب في أن البلجيكيين من أصل أجنبي (وهم كثيرون) يحملون عادة "نظرة وديعة" تخلو من النزعات الريفية التقليدية التي تستشري في هذا البلد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى