الخميس ١٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠
بقلم أحمد الحارون

عطاءٌ....فى ثياب ِ منع ٍ

قذف أحمد قلمه بعيداً، أرخى نظارته، راحت عينه تطرقُ زجاجَ نافذةِ مكتبه ليرى ضوءَ الشمس ،أصبح من خلاله لا يحتاج إلى ساعةٍ، لمح أصيلاً يخيمُ على نهاره، قذف أرقامه فى دفاتره التى تأكل أيامه جمعاً وطرحاً وضرباً، خرج مغاضباً تاه وسط زحام أفكاره، تحسس جيبه، احتضنت أنامله ورقات نقود بالية، شعر أنهما صنوان، فالدنيا تتلاعب به كعملات تقذفها الأيدى لا رأى لها ولا اختيار، سار لا يلوى على شئ ، تذكر بيته.... كان يأمل فيه سكنا وولدا لا يجدهما، أحس بغربة تقذف به فى بئر لا قاع له، يحمل عبوسا بعدد أهل الأرض،انتبه لقد سلك طريقا مختلفا، أراد أن يذهب إلى أبعد نقطة فى الكون، لا يسكنها أحد، الأرض على أتساعها تضيق عليه كدائرة صار مركزها هو نفسه قطرها، فلا محيط لها ولا أوتار ولا قطر ينبأ عن عمقها، وجد نفسه وحيدا على شاطئ بحر، يسمع لأمواجه هديرا كالذى بداخله، تمنى أن يقذف بهمومه فى كبد البحرعل انتظام نفسه يعود إليه، أطبقت عينه جفونها، داعبت أقدامه سطح الماء تحاول أن تقبض على أمان يفقده، أسند ظهره لرمال كم عبثت بها أيدى وأوحال البشر؟ ترك أنامله تحنو على حبات رمال فى رفق لا يدرى أيهما يشكو للآخر؟ هدأت نفسه قليلا سكنت يده فى الرمال.

تسللت اليمنى تنادي على أختها اليسرى ليتعانقا على صدره، لكن اليسرى لم تستجب، انتبهت اليمنى هل مكروه ألم بأختها؟ رفعت صوتهاقليلا، لاحظت أنها تسمع لكن يبدو عليها غضب .سالتها:ما بكِ؟ انفجرت اليسرى أفكر فى أمرى أنت أيتها اليمنى لك السبق والفضل فى كل شئ تتركين لى أسافل الأشياء وأدناها، تسلمين تكتبين تُطعمين تمسكين أطايب الأشياء، حتى فى الحيديث الشريف البركة ُ لكِ وحدك، ويوم القيامةأصحاب اليمين فى الجنة، أما أصحابى ففى.....، وإن ألم بك شئ حزن صاحبنا عليك ولا يعيرنى اهتماما، ومن فرط ما تقومين به من أعمال صرتُ عاجزةعن أداء معظم المهام، كم أتألم.؟ ماذا تركتِ لى غير...و....؟
تناوم أحمد واندهش وراح يتابع بشغف.

ربتت اليمنى على ظهر أختها برفق: هونى عليكِ يا أختاه، فأنا بدونك عاجزةٌ، فقد خلقنا الله لتتمم إحدانا الأخرى، ويجبر بعضنا كسر بعض، هذه سنة الله فى كونه.

فانظرى حولك لم تشكُ الأرض من فساد من يمشون عليها، ولا السماء منت على أختها بأنها علوية ومحل الملائكة وأسباب الحياة، وذرات الماء التى تصنع البحر بجوارك، فلا التى بالأسفل ضجرت كونها تحتضن بعض الأحياء فى القاع، ولا ذرات السطح تعالت على أختها بقربها للهواء، وكونها محط أنظار الشعراء وتحمل للناس أشياءهم، ولا جذر النبات ضاق بحاله ذرعا فى جوف الأرض يبحث أسباب الحياة تاركا الضوء واللين لساقه الأخضر، حتى فى سنبلة القمح نراها منتظمة حباتها متراصة، فلا التى فى أعلاها اختالت زهوا ،ولا التى فى أسفلها تزمرت، فكل حبة تؤدى مهمتها أيْاً كان وضعها وموضعها، ثم انظرى إلى البيوت من حولك لبنات البناءمنها ما يُوضعُ فى الصدر ويُزينُ ومحل الثناء والإعجاب، ومنها ما يوضع فى....ويخالطُ كذا ...وكذا...، ثم انظرى أختاه ضعفك كان لكِ أم عليكِ؟ حين أُمسك المقص لأهذب أظافرك أجدك مستمتعةهانئة وهادئةوأناملك منتظمة، لا خلل فيها... لا جرح... لا إعوجاج، لكن حين تؤدين أنت المهمة أتوجس منك خيفة، أراكِ ترتعدين كمن يمسك مقراضا ليقرض ألسنة لا أظافر، فانتقلت قوتى وفضلى إليك أما أنا .....؟

ألا ترين أنى أقوم بأكثر الأعباء تاركة اياكِ تعبثين تلهين وتمرحين، لا أطلب منك شيئا ولا أمنُّ عليكِ لأن هذا من واجبى وصميم خلقتى، فتح أحمد فاه غير مصدق وتابعت اليمنى الحديث يا أختاه: هل تخلى الحمار عن مهامه لأن صوته أنكر الأصوات؟ هل حمله الأسفار ومصاحبته العلماء والحكماء هذبت ولو قليلا من نُكرة ِ صوته؟ ربما كان صوته على ما فيه من أذى لأقرانه وخليلته هو صدح البلابل وترانيم العشاق.

ثم انظرى الى الغنى يتعب ويكدح ثم يأخذ من ماله إلى الفقير والمحتاج، تاركا له دِعةً يهنأُ فيها، ثم يسأله دعوة مستجابة.

يا أختاه : ليس كل حى ٍّ يأخذ الحياةَ على شرطه هو، وإلا كانت كل نهاية عقوبة له وخسران، فلابد أن نفنى ونسعد صاحبناونلبى احتياجاته، ونأمل أن يأخذنا للجنة ينعم وننعم بها، ولا نحصر ذواتنا فى هموم نفنى بها.

انظرى إلى صاحبنا النائم لا يعرف مفهوم عطاء الله، فمجرد أن حُرِمَ الولدُ نكثَ على عقبيه، تكاد روحه تفلت من بين جنباته ، لا يدرك أن عطاء الله عطاءٌ، وأن منع الله عطاء، يأمل الولد ولربما حرمه الله اياه لأن فيه هلاكه، رغم أنه يدندن فى الكهف، ولم يفهم درس أما الغلام فكان أبواهُ مؤْ منيْن ِ فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا، لو قنع المحروم بحظه لرأى كل أطفال الناس أولاده، ولو عرف ثواب الصبر لسعد بحظ المنع أكثر من حظ العطاء، فالروح لا تعرف الموت أو الألم، لكن تحيا فى حظها من الثبات واليقين، وتستقر مادامت مؤمنة مستقيمة، وفى النفس الواسعة للسعادة حقائق تزيد وتكبر، وللهموم حقائق تضيق وتتلاشى، فإن ضاقت نفسك يا أختاه فأنت الضيقة، اهتز أحمد طرباً رقص فؤاده، نظر إلى السماء، شعر بشمس الشتاء لوحة معلقة فى سحاب تناجيه، وكأن النهار يُضاءُ بقمر لا شمس، جاءت اليسرى على استحياء تعانق وتعتذر لأختها، قال أحمد:مسكينة زوجتى إن الحياة فى عين المرأة وأفكارها لا تعدو عن حبيب فى رجلها كبيرا، وحبيب فى ولدها صغيرا، فإن عدمت الثانية فلا أحرمها الأولى، وشعر بقلبه وكأنه تعلق بسماء ثامنة أو تاسعة، فعاد لزوجته فأرسل ابتسامة من طرف خفى، وكتبت اليمنى عقد زواج جديد على ثغرها، وشهدت ووثقت اليسرى على خصرها، وتمنى أن يكون لقلبه ولعينه أفواه حتى......
يعوض زوجته ما فات فى الأيام الخالية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى