الثلاثاء ١٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠
بقلم أسامة عبد العليم

قراءة في أدب «فــيدور دستويفـسكي»

هل كان دستويفسكي – المتوفى منذ مائة وأربعة وعشرين عاماً – يعي حقاً ما كتب.

إن زعمت بأنه لم يع ما كتب فأنا بذلك أقر بأنه كان ملهماً ، وإن قلت بأنه كان يعي حقاً ما كتب فأنا بذلك أؤيد مقولة إحدى الناقدات الأمريكيات "..بأنه لاداعي أبداً لكتابة الرواية بعد دستويفسكي وتولستوي لأنهما قد فعلا كل شيئ في الرواية .... " .

دخل دستويفسكي عالم الرواية مدخلاًَ عظيماً ، حيث ولد عملاقاً شأن بعض العظماء ، فروايته الأولى المساكين جعلت كبار النقاد في عصره يهتفون لميلاد هذا العملاق ، ولم يكن هذا من باب الإطراء بل كان تنبؤاً بما كان بعد ذلك .

مساكين دستويفسكي تلك الرواية بسيطة التركيب والتي جاءت على هيئة رسائل يتبادل فيها البطلان سرد أحداث الرواية في شفافية رائعة ، ومأساوية تغمس القلب في غمر من الحزن والروعة ، وبأسلوب لم يدع للملل فرصة ليتسلل إلى القارئ ، ومن غير أن تفقد خيطاً واحداً من خيوط العمل الفني ، أقول إن تلك الرواية البسيطة كشفت عن كاتب يقدر البناء الفني ، وبالرغم إنني أتفق مع الرأي القائل إن عظمة دستويفسكي إنما ترجع إلى تحليله النفسي الرائع لشخصياته ، ووصوله لمناطق في النفس البشرية لا يصل إليها أصحاب هذه الشخصيات انفسهم ، ويصعب على المرء أن يدرك كيف وصل إليها هذا الشخص المصروع ، لا إننا نهضمه حقه إذا قلنا هذا إن الرجل قد أحاط بكل شيئ في عالم الفن الروائي ، ومن أبرزها - في نظري - البناء الفني .

ففي " المساكين " اتخذ أسلوب الرسائل المتبادلة بين بطلي الرواية ، ولنتساءل لماذا الرسالة ؟ وهل كان يمكن ان يضع الرواية في إطار آخر؟

بالطبع كان يستطيع ، إلا أن الرسالة المكتوبة – وفي عصره بالذات – كانت أفضل طريقة للتواصل بين شخصين ، أضف إلى ذلك ظروف البطلين ؛ فالفتاة مريضة لاتكاد تبرح شقتها ، أما " مقار" فهو شخص فقير خجول ، والمجتمع الروسي المحافظ إلى حدٍ ما في هذا الوقت .

ومن جانب آخر فا الرسالة وسيلة ناجعة لكسف جوانب النفس لأن الكتابة تتيح للإنسان فرصة أكبر لإظهار مشاعره واحاسيسه بلا خجل أو مداراة .

وفي " الجريمة والعقاب" سلك مسلكاً آخر وهو السرد ، وبالطبع لم تكن الرسالة مناسبة لإخراج رواية بهذا الحجم ، وعن مثل هذا الموضوع ، وقد اعتمد فيها دستويفسكي على عدة معطيات منها مثلاً غرفة راسكولينكوف ، والتي كانت مسرحاً للأحداث ، مع إن الجريمة وقعت في شقة العجوز، وهي غرفة صغيرة ، قذرة ، خالية تقريباً من الأثاث ، لاتدخلها الشمس ، مظلمة معظم الأوقات ، لذا فهي تعد معادلاً موضوعياً لذهن راسكولينكوف المظلم المريض ، الذي يعيش فيه صاحبه أكثر مما يعيش في الواقع الخارجي ، إن هذه الغرفة / الذهن بيئة صالحة لنمو الجراثيم ، واختمار الدوافع لاكتمال فكر الجريمة.

ظلت الغرفة هي الرابط بين الأحداث ؛ فقد دبر لجريمته فيها ، ونال عقابه فيها كما أن سره انكشف فيها ، وقد نجح دستويفسكي في معالجة شخصية المجرم في هذه الرواية من كل الزوايا مما دفع سجموند فرويد إلى أن يدرس شخصية راسكولينكوف لطلابه على إنها النموذج المثالي لشخيصة المجرم ، يرجع ذلك لأن راسكولينكوف ذلك الشخص المثقف مرهف الحس ، صاحب الخلق الرفيع ....... ما كان ليقتل إلا كان مقتنعاً اقتناعاً مرضياً بفكرة القتل ، لأنه كان يعتبر قتل إنسان ليحيى آخرون هدفاً نبيلاً ، وهذا ما يراه المجرم لأنه يعتبر أن القتل شيئاً طبيعياً ، أو أنه حقاً من الحقوق فمادامنا نتخلص من شخص سيئٍ عدمه أفضل من وجوده ، فإننا بهذا نحقق العدالة فعندما يموت الشخص عديم الفائدة نضمن بذلك أن نفسح مجالاً ليحيى آخرون ، ويساوي في هذا المبدأ بين عظماء التاريخ الذين يقتلون المئات ليحيى الآلاف وبين القاتل الذي يقتل امرأة عجوز ليرفع الظلم عن أخته وعن باقي من يعانون ، إن فكراً كهذا لا يخرج إلا من ذهنٍ مريض تختمر فيه مثل هذه الأفكار الهدامة ؛ هذا الذهن/الغرفة برع دستويفسكي جداً في إيجادها ليدور كل شيئٍ فيها ، لأن هذه الجريمة هي جريمة فكرية قبل أي شيئٍ .

إن الفقر والظلم الاجتماعي والطبقية والقهر هي العناصر التي تنتج الروائح الكريهة والجراثيم تحت مزابل الجرائم ، كان دستويفسكي يصرخ بشدة في وجه مجتمع طبقي لا يقيم للفقير وزنا ، أراد أن يشد أذن هذا المجتمع القاسي أن انتبه لما أنت ماضٍ في سبيله ، إن المزبلة هنا هي غرفة / ذهن راسكولينكوف التي تعفنت فيها المبادئ والثقافة والفكر لتخرج أيدلوجيا تبيح لصاحبها قتل امرأتين لا حول لهما ولا قوة ، وحتى من غير فائدة تذكر .

لذا كان لابد عند معالجة رواية مثل هذه تحركها أيدلوجيا معقدة كهذه أن تكتب في إطار السرد ، الذي تسمح المساحات الفنية فيه بالهبوط لأعماق الشخصية عن طريق المباشرة حيناً وعن طريق المنولوجات حيناً آخر ، لذا لم يكن هناك أبداً داع لوجود راوٍ ، لأنه ببساطة لن يكون موجوداً ليحيط بكل هذه التفاصيل الدقيقة ، إلا إذا كان راسكولينكوف نفسه ، وهذا لم يكن لأن هذه الشخصية المريضة لن تفصح عن نفسها بهذا العمق .

كذلك لم الجريمة والعقاب في حاجة لشخص آخر يربط بين الأحداث والشخصيات لأن معظم الأحداث دار في الغرفة ، لذا كان راسكولينكوف هو البطل وجريمته هي محور الرواية وغرفته هي الرابط بين الأحداث ، والبطل هنا قام بكل شيئٍ ؛ فقد أوجد دوافعه للقتل ، وهو المسئول عن انكشاف ستره ، فقد أوقعه خياله المريض وعقله الزائغ في الشرك ؛ فلولاه ما علم أحد بأنه الجاني ، فقد أخفى كل شيئٍ بمهارة شديدة ، إلا شيئاً واحداً لم يقدر على إخفائه وهو إحساسه بالجريمة .

أما في الإخوة كارامازوف - آخر أعماله – فالأمر يختلف فلم الأدلوجيات تصطرع في ذهن واحد ، بل عدة أذهان / عدة أماكن ؛ صومعة زوسيما ، حانة إيفان/ غرفة ديمتري / منزل الأب / منزل كاترينا / منزل جروشنكا ..... إنها أطراف متنازعة ومتناقضة تتنازع نزاعاً حاداً ، يدور كل منها في فلكه ، ويدور الجميع في فلك الشهوة ، إنها تسير في أفلاكها تتوازى ولاتتلاقى ، حتى بعد نهاية الصراع لم تلتقِ ، فالصراع ينتهى فقط لأن أطرافاً منها خرجت عن مسرح الأحداث .

لك يكن الصراع قائماً بين ديمتري وأبيه فقط بل كان دائراً بين الجميع ، ولم يكن الإخوة كارامازوف إلا ممثلين عن الشعب الروسي الذي كان يموج بالاضطرابات في هذه الفترة ، وكان غليانه تحت ثرى الثورة التي النطلق بعد ثلاثة عقود لاأكثر ، فدستويفسكي الذي أراد أن يصالح القصر بهذه الرواية أشار من طرف خفي لرؤيته للصراع الذي قد يهدأ ولكن لاينتهي .

ولأن أطراف الرواية متعددة اختار الكاتب لها وجود راوٍ وقد كان هذا مناسباً جداً لأن مثل هذه الأسرة ومثل هذه الأحداث لابد أن تنتشر وخصوصاً في مدينةٍ صغيرةٍ كتلك ، وقد وضح الراوي لنا أنه من نفس المدينة .

وقد اختار دستويفسكي هنا رابطاً رائعاً بين الأحداث ، هذا الرابط هو إليوشا الاخ الأصغر في هذه الأسرة المهترئة ، وإليوشا يحبه الجميع ويحترمونه ، وهو إن كان ضمن الأحداث إلا إنه ليس طرفاً فيها ، وهذا ما منحه فرصة التنقل بين الشخصيات / الأماكن وبين الأحداث أيضاً ، فإليوشا هو عدسة الكاميرا التي تصور لنا أهم مشاهد الرواية .

وهنا سؤال يفرض نفسه هل نستطيع أن نعد إليوشا شخصية مثالية ؟

القراءة الأولى للرواية قد تشير إلى ذلك ولكن بعد قراءة متأنية نلاحظ أن إليوشا هذا الشخص الطيب الرائع ؛ الذي يتسع صدره للجميع ، ليس مثالياً هو الآخر بل إن دستويفسكي نفسه لم يرم إلى ذلك بل وضح في أكثر من مناسبة أن إليوشا وإن كان خارج الصراع إلا إنه مذنبٌ بشكل أو بآخر ، فهو كارامازوف أيضاً والوحش الكارامازوفي مخبوءٌ بداخله وإن كان غير ظاهرٍ ، كما إنه مستعد لأن يوصل رسائل زوجته إلى عشيقها كما ادعت ليزا .

هل كان خارج الصراع لأنه كان مثالياً ؟ أم لأنه لم يدخل حلبة الصراعِ بعد ؟ وإن كان إليوشا غير مثاليٍ إلا إنه جسد أفضل الصفات التي توجد في الشعب الروسي آنذاك أو قل تلك التي يتمناها دستويفسكي لشعبه .

ولأن إليوشا شخص واحد والمسافات بعيدة ، والأحداث متلاحقة ، ولأنه كان يغيب أحياناً وبشكل طبيعي عن مسرح الأحداث ، وضع الكاتب شخصية أخرى تلعب دور الرواي ، كان هذا الرواي بعيداً عن الأحداث من جهة كونه ليس طرفاً فيها وقريباً من جهةِ أنه من نفس المدينة ، وهذا الشخص لا يمثل الكاتب لأنه سمح لنفسه بالظهور في مشهدٍ واحدٍ فقط وهو مشهد المحاكمة ، أتاح وجود هذا الرواي الذي يقوم بقص روايته عن طريق تنقلات إليوشا وغيرها للكاتب أن يمسك بكل خيوط الرواية ببراعة شديدة .

و الراوي هنا يختلف عن الرابط / إليوشا ، كما إن الرابط ليس مكاناً كما هو الحال في الجريمة والعقاب ؛ بل هو شخص ليستطيع التنقل بين الشخصيات / الأيدلوجيات وبين الأمكنة وبين أطراف الصراع التي تتصارع ولا تتلاقى إلا نادراً ، وعندها تقع الكوارس .

والرابط هنا طرف في القضية لذا كان عليه أن يشارك في الأحداث ، لا أنْ يرويها ، يستطيع أن يجد حلولاً وسطاً وليس حلولاً جذرية ، يخفف من حدة الأحداث ويلطف الجو .... وان يكون واسطة بين الجميع ، فهل كان دستويفسكي يريد أن تكون الأمة الروسية وسطاً بين الجميع أم إننا نحمل النص أكثر مما يحتمل ؟.

أما في " المستذلون المهانون" فنجد أن دستويفسكي جمع بين شخصية الرابط بين الأحداث ، وبين الراوي في شخص واحد هو " إيفان بتروفتش " ذلك الشخص الرائع الذي صنع منه دستويفسكي رابطاً جيداً ، وراوياً ممتازاً وقد منحه من المميزات ما يؤهله لهذه المهمة على خير وجه .

فإيفان بتروفتش تربى مع ناتاشا منذ الصغر ، وهذا ما اتاح له ان يكون قريباً من أبويها ، وان يدخل بيتهم في أي وقت سواءً في " أشميمينفكا " أو في بطرسبرج ، كما يبرر له كذلك أن يكون صديقاً مخلصاً لناتاشا ، التي أحبها حباً يائساً ، ثم يخلص لها حتى بعد ان غرقت لأذنيها في حب الأمير إليوشا ، ومع إن هذا الموقف من إيفان لا يستسيغه معظم الرجال إلا إنه حب النبلاء في زمن ليس بعيداً عن زمن الفروسية ، ومع إن هذا الموقف صعب على النفس البشرية إلا إن ذلك أهل لإيفان أن يحبه الجميع ويحترمونه .

ومن جهة أخرى فإيفان بتروفتش كاتب اشتهر مؤخراً فالجميع يعرفونه حتى من لم يلتقِ به يكون قد سمع عنه ، فروايته الأولى جذبت إليه الأنظار ، وجعلت الكثيرين يتلهفون على لقائه بما فيهم الأمير الأب والكونتة وباقي الوسط الأرستقراطي ، ولأنه لما يزل فقيراً ، فقد أتاح له فقره أن يتعرف على " سميث" مشهد البداية ، لأنه كاتب فقد دفعه الفضول لأن يستأجر غرفة العجوز سميث بعد موته ، فتعرف على حفيدته " هلينية" أو نلي تلك الطفلة العجيبة التي تحمل الكثير من الألغاز ولا تبوح بأسرارها دفعة واحدة ، تلك الطفلة هي نتاج خطيئة الظلم والقهر، وعدم إحساس الغني بالفقير ، نلي هي وأمها مستقبل ناتاشا وأمثالها ممن يقعن في براثن الأغنياء غير الآبهين بإحساس الفقراء ممن يحبونهم ويثقون فيهم .

وتعتبر شخصية إيفان بتروفتش فريدة في أعمال دستويفسكي ؛ لأنه في هذه الشخصية بين الراوي والكاتب والرابط بل واحد شخصيات الرواية وأظنني لا أكون مجانباً الصواب إذا قلت بأن مثل هذه الشخصية فريدة في عالم الرواية ، وهذا مالم يتوافر لأبطاله السابقين أمثال راسكولينكوف ، وإليوشا ومقار ديفوشكين .

لذا لم يكن من العجيب أن يكون البناء الفني في المستذلون المهانون أكثر تنميقاً ووضوحاً وأقل غموضاً عن البناء الفني في الجريمة والعقاب و المساكين والإخوة كارامازوف التي كانت آخر أعماله ، ذلك لأن البراوي في مستذلون مهانون كان كاتباً فلابد إذاً أن يصدر عنه شيئٌ رائع لأنه محترف لفن الرواية ، أما في الإخوة كارامازوف فقد كان الرواي شخصاً عادياً فكان من الطبيعي أن يكون سرده أقل حرفيةً عن سرد الراوي في مستذلون مهانون .

كان رائعاً أيضاً أن تكون الجريمة والعقاب مثل مجموعة من الآبار التي يغرق فيها القارئ ، فلا يكاد يفلت من بئر حتى يسقط في آخر ، كان هذا لأنها رواية تتحدث عن النفس البشرية ، وما النفس البشرية إلا بئرٌ عميقٌ.

لذا أعود وأتساءل هل كان يعي حقا ما كتب؟


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى