الأربعاء ١٣ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠
بقلم عبد الله بن يونس

قصيدة حب متأخرة جدا

التقيت سحر صدفة، عندما كنت أتكئ على جدار السّور الغربي الواطئ لكلية 9 أفريل، أتأمّل شمس المساء الغاربة على هضاب عقبة السْواسي البعيدة، في انتظار درس الأدب الحديث الذي يبدأ على الساعة السادسة والنصف. واقتربت الفتاة، ووقفت تتأمل المساء غير بعيد عنّي. كانت السنة الدراسية في بدايتها وقتها. وكان طلاب التبريز يقتربون من بعضهم البعض بحذر من أجل التعارف، وخاصة إذا تعلق الأمر بالجنسين المختلفين. ولذلك بقيت الفتاة تتأمل المشهد حذرة. وبقيت أنظر أمامي مباشرة ، وأنا أمنع نفسي من الالتفات إليها، وفي الوقت ذاته أركز جميع حدسي لأكتشف من تكون حتى من طيفها الذي أشعر به قربي، ومن رائحة عطرها ونسق تنفسها الذي لا أكاد أسمعه. وبعد برهة قصيرة بدأ بيننا الحديث، ونظرت ملء عينيّ إلى فتاة ذات قوام ممشوق وبشرة بيضاء لامعة، وشعر أشقر هائج، وقد انعكست عليها لمعة الغروب فزادتها توهّجا عجيبا، وكانت ملامحها هادئة وخالية من الإثارة تماما، مما أتاح لي أن أتذوّق جمالها على مهل فيغوص داخل روحي. وبعد تعارفنا انقدنا بتلقائية إلى الحديث عن ذلك الغروب الذي جمعنا.. ثم تحدثنا عن الفصول، فقالت إنها تفضّل فصل الرّبيع لما فيه من خصب وجمال. وقلت لها إنني أحبّ فصل الخريف لأنّه أصل الخصب كلـّه. بدا لها موقفي غريبا، وطلبت مني شرحه، فرحت أحدّثها عن الخريف الذي تكتمل فيه دورة الحياة مع نضج الرّمّان والتّمر، لتبدأ الطبيعة من جديد، من غيومها وأمطارها إلى بذورها وحقولها. وقد هيّجني جمالها الهادئ وانشدادها إلى كلامي، فأكسبني شعريّة في التعبير لمستها في كلماتي وصوتي، وفي وقع حديثي عليها. وقبل أن نفرغ من حديثنا وصل الأستاذ، فسارعنا إلى الالتحاق بالقاعة، وأنا أتقلب بين مشاعر متضاربة، بين متعة الحديث معها وتأمّل جمالها، وبين سرعة مجيء الأستاذ قبل أن أفرغ لها ما في فؤادي. وقبل أن ندخل القاعة قلت لها:

 سأكتب لك رسالة.

وابتهجت أساريرها كلـّها وردت:

 حقا؟ متى؟

 غدا. سأكتبها الليلة، وأحضرها لك غدا.

وأمضينا حصّة الدّرس جنبا إلى جنب، وأنا أعيشها بصمت عاشق. لقد أدركت بحسي الذكوريّ الدّقيق أنّ سحرا انجذبت إليّ كما انجذبت إليها، وأنّ معجزة حب عظيمة توشك أن تنشأ بيننا. ولذلك اكتفيت بعد الدّرس بتوديعها، لأنّ الكلام العابر وقتها لم يعد مناسبا لنقل ما شعرت به.

لكنني في البيت، وفي وحدتي الليلية وفي رفقة الإحباط البارد كالموت لم أكتب لها رسالة، بل كتبت قصيدة. وعندما التقينا في اليوم الموالي هرعت سحر تسلـّم وتسأل عن الرّسالة. فأخبرتها وأنا أغالب نفسي لأحافظ على هدوئي:

- لقد كتبت قصيدة. ولن أعطيك إياها لأنها محبطة. أنت فتاة جميلة وحديثي معك سيسوّد أيّامك. أحسن لنا أن نبقى صديقين من بعيد، وأن تبقى لحظة اللقاء تلك على صفائها الأول في غفلة البؤس الذي يملأ أيّامي.

واستغربت سحر كلامي ذاك، وامتعضت منه. ورأيت أمامي ملامحها تذوي كنبتة عطشت ما إن بسقت من التراب.. ومن يومها لم أرها.

لقد كنت وقتها عاطلا عن العمل في عامي الرّابع بعد التّخرّج. وكنت أغالب الأيّام بشتّى الحيل حتّى لا أموت، وحتّى ذهابي إلى الكلـّيّة وتسجيلي في التـّبريز كان حيلة من الحيل، لم تنطل عليّ لأكثر من أسبوع. ولذلك تركت الجامعة لسنتين كاملتين. ثمّ عدت بعدهما إلى دروس التـّبريز أخاتل نفسي، وأملأ أيّام عطالتي. فوجدت بلالا، وهوعاطل مثلي يغالب عطالته بالتبريز مثلي. فسألني عن أحوالي، وهومستغرب من انقطاعي عن الكلية لسنتين. قال لي وقتها:

 ظنناك التحقت بالوظيفة.

 أنا لا أزال مثلكم. أصارع العطالة.

 كيف أمضيت السّنتين إذن؟ على الأقلّ هنا في الكلية نحن نتسلـّى بتبادل أوجاعنا، ونتناول الغداء والعشاء في المطعم الجامعيّ.
 ها أنذا قد عدت بينكم، وستجد رفيقا على الغداء وعلى العشاء فلا تقلق.

وذهبنا بعد "دروس الغـَلـْبـَة" إلى المطعم الجامعيّ بالرّابطة لنتعشّى، والمسكين يشكوإليّ تبرّم عائلته بعطالته، ويصوّر لي امتناع والده عن مكالمته ونظراته الشّزراء كلـّما رآه في بيته... ثم أخذنا الحديث إلى ذكر زملائنا الذين غابوا عنّا فذكر لي سحر. وقال:

- لقد بقيت سحر تسأل عنك وتبحث عن وسيلة للاتّصال بك، إلى حدود شهر أفريل. المسكينة.. لقد شويتَ قلبها.. لم تتوقف يوما عن السؤال عنك حتى سافرت إلى ألمانيا وأخذت سؤالها معها.

ولشدّما حزّ في نفسي كلام بلال ذاك. أذكره الآن بعد عشر سنوات كاملة.. مازلت أرى رأسه يميل إلى اليمين قليلا، وعيناه تضيقان، وكلماته تلك ينطقها متباعدة يتخلـّلها الكثير من الصّمت البارد، معبرا من خلالها عن مشاعر غامضة لم أفهمها إلى اليوم. كما لا أزال أرى صورة سحر واضحة تحت التماعة ذاك المساء، وأرى نفسي أحادثها عن الخريف، بتلك الشاعرية التي تنهل من ميخائيل نعيمة وإيليا أبي ماضي.

أعمل الآن مدرّسا في معهد حكومي منذ ثمانية سنوات، ويفصلني عن سحر إثنتا عشرة سنة. ومع ذلك لا أزال أذكر كلمات بلال، وأتخيّل سحرا وهي تطوف على الزملاء وتسأل. ترى كيف كانت ملامحها وهي تسأل؟ وأيّ إحساس خلـّفتُ لديها بغيابي ذاك؟ وهل كنت منصفا معها بغيابي؟ وبعدم إطلاعها على القصيدة؟ ولماذا أعود إلى هذه المسألة بعد كلّ هذه السنين؟ ولماذا أصرّ على تسمية البطالة عطالة؟ إنه الاسم ذاته الذي أطلقته عليها وقتها.

لقد أخذت العطالة ثمانية سنوات من شبابي وسرقت كلّ عنفواني وتحمّسي للوظيفة وقتها وللتعليم. لقد باشرت العمل بعد كلّ تلك السنين متعبا أيما تعب، حتى أنني الآن لا أذكر أنني فرحت يوم تمّ تعييني، ولا أذكر أوّل يوم واجهت فيه تلاميذي. كلّ ما أذكره عن تلك المرحلة هوالأوجاع الكثيرة. أذكر ضياعي بين مهن كثيرة جدّا، تقريبا كلّ المهن الشريفة التي لم تكن في ذلك الوقت تحتاج إلى رشاوٍ أووسائط، من المرمّة إلى التجارة في الأسواق الشعبية، إلى الدّهينة، إلى الحدادة، إلى النجارة، إلى الدروس الخصوصية... وأذكر تلك الليالي المرعبة، حيث يستحيل النوم والتفكير ومشاهدة التلفاز والقراءة والاستماع إلى الموسيقى... حيث يصبح كلّ شيء بلا معنى، فلا يبقى لي غير أن أمشي مسافة عشرين كلمترا تقريبا عبر دَوَّارْ هيشِرْ وصولا إلى طريق باجة ثم إلى باردوحتى مجلس النواب، ثم عبر طريق بنزرت وصولا إلى قصر السعيد وحي التحرير، ومن هناك أنعطف لأتوغـّل في حيّ التضامن وصولا إلى حيّ الشباب حيث أسكن. وهدفي من تلك الرّحلة كلـّها أن أكدّ جسدي بالمشي ستّ ساعات متواصلة، فيصبح قادرا على النـّوم. وأذكر حالة العطالة تلك... لقد عطلت مشاعري وعقلي وروحي وعلاقتي بعائلتي وبالكثيرين من أصدقائي بل عطلت حتّى علاقتي بذاتي.

وأعود الآن بعد كلّ هذه السنين، لأطرح الأسئلة: لماذا عقدت كلّ تلك الآمال على الوظيفة؟ لماذا سمحت للوزارة بأن تعطّل حياتي ثمانية سنوات كاملة وأنا أنتظر وظيفتها؟ ما الذي كان أمامي لأشغله وقتها، وأنا المتخرج بشهادة الأستاذية من قسم اللغة العربية بكليتي؟ لماذا لم يفارقني شعور الاغتراب والحزن في كل المهن التي مارستها؟ لماذا فشلت في كلّ محاولات التأقلم وشقّ الطريق بعيدا عن الوظيفة؟ لماذا فارقتني خلجة ُ القلب تلك ما إن اختليت بنفسي لأكتب إلى سحر رسالة؟ لماذا كنت متميّزا طيلة سنوات دراستي كلها، ثم رسبت في الاختبار النفسي التقني مرّة وفي مناظرة الكاباس ثلاث مرات؟ لماذا رسبت في الكاباس ثلاث مرات متوالية في الشفوي بعد نجاحي في الكتابي؟... لماذا تركت سنوات العطالة تلك هذا الجرح العميق في روحي؟

لا أجد لمواجهة هذه الأسئلة كلـّها غير كتابة هذه الكلمات وإرفاق القصيدة تلك. أهديها إلى سحر، وإلى بلال، وإلى كلّ إنسان في أرجاء الأرض عاطل عن العمل. أقول لهم جميعا: هذه بعض آلامي.

القصيدة: وهي بعنوان: سحرْ

سحرٌ عند السّحرْ

ديكٌ يصيحُ، حشرجة ٌ

تملمُلٌ... ظلالٌ تهبُّ...

دوابُّ..

صُداحٌ في أعالي الشّجرْ

جاءت سحرْ..

وصلت سحرْ..

طلعت سحرْ..

* *

طيفٌ قريبٌ

سحرٌ.. جسدٌ غريبٌ..

عينان تتساءلان.. عينٌ تجيبُ..

كفـّان تتأرجحانِ.. تاجٌ سليبُ...

تأخذ التاجَ سحرْ

تضع التـاج سحرْ

تنتصب على عرش البشرْ

تشمُخُ.. تجلسُ.. ترتاحُ.

تقول:

- بسرعةٍ طلع الصّباحُ!

 قد سبقتْ الشّمسُ ميقاتها.

قد كسر عادتـَه الصّباحُ

لك يا سحرْ.

- القرية ُ عارية ٌ.. الشـّجرُ دون أوراقٍ

والحقولُ دون زهرْ!

 قد كشفت القرية ُ عُريها..

قد حلـّت العصافيرُ محلَّ أوراق الشـّجرْ

لك يا سحرْ.

- والزّهَرْ؟.. أين الزّهرْ؟

أين الرّبيع؟.. أين الخطاطيفُ؟

ما للبيادرِ نائمة ٌ لا تنتظرْ؟

 خجل الرّبيعُ.. خجل الزّهَرْ

خجلت الخطاطيفُ.. أفسحت لعاشقةٍ تمُرْ

ها يا سحرْ.

- لا أرى طبلا.. لا مزاميرَ..

الصّبية ُ لا يتراكضونْ..

كأنْ لا زفـّة َ للعروسِ هذا الصّباحَ..

كأنْ لا حليبَ ولا ثـَمَرْ؟

 عشيرتنا تزفّ عند المساء.

وهي لا تقطع عاداتها لعاشقةٍ جاءت على غفلةٍ

عندَ السَّحرْ

ها يا سحرْ.

- كان ميعادَنا الصّباحُ..

ألمْ تـُشِعْ في عشيرتكَ الخبرْ؟

والمساءُ!

رواحٌ لهذي العشيرة رواحُ

فلننتظرْ..

 لا يا سحرْ..

عشيرتنا لا تزفّ عروسا في فصول الضـّجرْ.

- ولمَ الضـّجرْ؟؟

 الأرضُ مُجدبة ٌ.. الرّيعُ هزيلٌ..

والجوعُ كبُرْ.

- ولمَ كبُرْ؟

 لأنّ الخريفَ كان قد جاءنا دون مطرْ

ها يا سحرْ.

* *

سحرٌ تمضي.. سحرٌ تغيبُ..

نام الرّقيبُ

خفتَ الوَجيبُ

حلّ في القلبِ النـّحيبُ

رحل الفرحُ العجيبُ...

هجر الحبيبُ هجرْ

لم يبقَ إلا الضـّجرْ

ها يا سحرْ

* *

سحرٌ وجهٌ مليحٌ

عينان صافيتان..

شعر كأكمام الذ ُّرهْ

طِلـَّة ٌ.. ثوبٌ وريحُ

طيفٌ... سحرٌ حديثُ..

بسمة ٌ... ألقٌ شحيحُ..

سحرٌ.. قلبٌ جريحُ...

حزن ليلٍ سحرْ

سحرٌ.. ريفٌ بعيدٌ..

رفاقٌ.. عسلٌ.. عبثٌ بين القبورْ..

خوف ميتٍ نُشِرْ

سحرٌ ذكرى سحرْ

فلقة ُ الصّبحِ سحرْ

روضة ُ الرَّوْح سحرْ

بلسم الجرحِ سحرْ

سحرٌ... غيمة دون مطرْ

ها يا سحرْ.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى