الاثنين ١٨ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠
بقلم غزالة الزهراء

شمس لا تغيب

صوت الجرس يقرع الأسماع عن كثب.

إنها الثامنة إلا ربعا.

خليط من الذكور والإناث تدفقوا في الفناء الواسع وصخب المثابرة يلون عيونهم بغد ماسي مبهر، متألقة نجومه.

رفرفت الفوضى البريئة في الأجواء كالحمام الزاجل صانعة بمهارة فائقة ابتسامات مشرقة، راقصة لمستقبل عريض، فضي، لامع.

إنها هناك تتعبد في محراب الوحدة بخشوع، لا تولي اهتمامها البالغ لأحد وكأنما ترفض رفضا قاطعا ربط علاقات حميمية مع من يحيطون بها. كيف لها أن تحيا حياتها بمدها و جزرها وهي بمنآى عن الناس؟ وهل تشعر باستقرارها النفسي المتزن وهي متكمشة كقطة رمادية في قوقعتها تلك؟ لابد أن في حياتها سرا يختلج وإلا لما كانت تستسيغ الاعتصام في قلعة الصمت المريبة، وتجتر تلك اللحظات المذهلة، المبطنة بحشد من الألغاز و التناقضات.

ترتدي مئزرها الجميل، الشديد البياض، وتطلق ضفيرتيها الرماديتين وراء ظهرها تغازلهما نسائم الصبح، وابتهالات المساء.
تبدو طاهرة كوجه البراءة الناصع البياض، وكحنان شفاف يندلق بيسر.
إنها جميلة في جمال الثلجة البيضاء، ولكن سحابات من الحزن تعكر ذلك الجمال الطبيعي، وتلفها لفا كقصيدة مهملة لا عنوان لها، ولا لحن.

تقدمت منها بضع خطوات، همست بالقرب منها مخافة أن تصدني صدا عنيفا، وتجرح مشاعري جرحا عميقا: الجو رائق اليوم. أليس كذلك؟
تأملتني مليا وكأنها تعاتبني عتابا مرا على إفساد لحظات السكون التي غلفتها آنذاك، ثم قالت بصوت تسوده كآبة أزلية غابرة:ما الفائدة إذا كان الجو رائقا أم لا؟ أترين فرقا واضحا في ذلك؟
جوابها الصريح الذي تلقفته أذناي أثار دهشتي، وإعجابي في آن واحد.

من ذلك اليوم تآلفنا، ونمت صداقتنا، وتناسلت، وأزهرت.
أفصحت لي ذات يوم ذارفة دموعا حرى أحرقت مقلتيها: والدتي مزقت رسوماتي، وألقت بها في سلة المهملات غير عابئة بما يحدث لي من انهيار نفسي مفاجئ، الرسم في نظرها عبث لا يجدي نفعا، إهدار للوقت فقط.

ووالدك. ألم يدافع عن رسوماتك؟ ألم يقف في صفك لينصفك؟
أبدا، لقد أيدها.
واخوتك. ماذا فعلوا إزاء هذا الموقف المحرج؟
لم يحركوا ساكنا، كلهم من طينة واحدة، إنهم متشابهون.

غرقت في بحيرة الصمت للحظات، ثم تابعت تقول وكأنها تود أن تفرغ ما في صدرها المنهك الجريح: لازلت متشبثة بموهبتي كما يتشبث الغريق ببصيص أمل يلوح له في أفقه الفسيح.

في اليوم الموالي أخذت عيناي المتلهفتان تنقبان عن حمامتي المسالمة التي لا تتقن فنون الزيف، والتضليل، والنفاق. لم أعثر لها على أثر وكأن الأرض انشقت وابتلعتها في جوفها ابتلاعا.

لقد كان حضورها الفريد ملغى من أساسه، وطالت غيبتها، وتمددت إلى شهرين كاملين خلتهما قرنا أو قرنين أو يزيد.
كنت على الدوام شاعرة بفراغ قاس رهيب يطبق علي بفكيه، يخنق أنفاسي، يدميني، ويضطهد مشاعري.

تساءلت في غمرة من قلقي، وتشتتي، وضياعي: هل ضرب أهلها حصارا خانقا حولها، وأوقفوها عن مواصلة دراستها، وأرغموها على الزواج بمن لا ترضى، ولا تحب؟ هل قتلوا في نفسها الطموحة موهبتها التي تأججت كالنار الحارقة بداخلها؟ وهل أصدروا في حقها حكما متعسفا انهارت له نفسيتها الطيبة؟

تمر خمس وعشرون سنة مبطنة بسم البعاد، وهذيان الفراق، وتعمقت الفجوة السحيقة بيننا لننضم نحن الاثنتان إلى زمرة الشوق الدفين، والعذاب المبرح.

تنبثق كالأقحوانة العطرة من سنوات عجاف، وتفوح أعطافها برياحين الذكرى الغالية فبللتني بزخاتها الممزوجة برونق الحاضر وتهاليله.
جريدة هذا اليوم ألفيت على إحدى صفحاتها حوارا شيقا أجراه صحفي ماهر مع صديقتي(حمامة).

وعدت بذاكرتي القوية إلى الوراء، إلى سنوات الدراسة التي وثقت العلاقة الحميمة بيننا.
إنها حمامة حبيبتي، عرفتها من خلال السطور الممتعة التي كتبت بشأنها، إنها هي، إنها شمس لا تغيب.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى