الأربعاء ٢٧ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠

عين واحدة

سما حسن

لا يمكن أن اسامحه على ما أصابني منه، وجدت نفسها بمنتهى السذاجة وهي تردد هذه العبارة لنفسها لأن الجميع من حولها قد نسوا الأمر أو تناسوه واعتبروا أن ماحدث قضاء وقدرا، سنوات ثلاث تفصل بينها وبين شقيقها الوحيد، كانت جميلة رائعة، بشرة مخملية بيضاء وشعر أسود كليل نسي أن يزوره القمر، وعينان واسعتان بريئتان وكأنما تطلان على روحها وما بها من براءة، أما حين جاء هذا الأخ الذي انتظرته الأم بعد شقيقتين فكان كلما سألها أحد كم لديها من الأولاد تمط شفتيها اسفا وتطرق: معي بنتان……

أما حين جاء الولد المنتظر فأصبحت تقول : معي ولد وتهمل ذكر البنتين…………

حين بدأ الصغير يلهو في باحة البيت، بدأت تصرفاته الرجولية تظهر في أثناء لعبه، وكلما ألحق الأذى باحدى شقيقتيه، تهرع الأم وتقبله من فمه وتنظر بعين الفرحة له وتنظر بعين الرجاء للشقيقتين بأن يسامحانه على ما اقترف في حقهما، أما حين يعود الاب من عمله فكانت تروي له وهو يخلع ملابسه المعرقة وتناوله البشكير النظيف الجاف من على الباب الخشبي لغرفة نومهما، تروي له ماذا فعل الصغير بشقيقتيه فيغرق الأب ضاحكا…….

أصبح الصغير مولعا بألعاب القنص، وازداد شراسة لا تحتملها ملامح وجهه المستدير، فترى تلك العدوانية تنطلق من ملامحه فيكاد يتفجر وتتبعثر العينان في جهة والأذنان في جهة وتتساقط أسنانه كحبات الذرة الجافة على الأرض بدوي مسموع، يلتقط الحصاة الصغيرة من على الأرض ويضعها بين الضلعين الخشبيين اللذين يشبهان الرقم سبعة واللذين يربطهما برباط بلاستيكي مطاط حصل عليه من علبة الخياطة المعدنية الصدئة خاصة أمه والتي كانت تضع بها الابر والخيطان، وحين يحكم وضع الحجر فانه يشد الحبل المطاطي بأقسى مايستطيع مداه ثم يترك الحصاة تنطلق بلاهدف……..

وفي كل مرة يكون الهدف أمام الحصاة اما مؤخرة احدى شقيقتيه أو كتفها أو ظهرها أو جبهتها، وحين تصرخ الصغيرة مستنجدة بأمّها فإن الأمّ توبخها بأن تحتمل لهو شقيقها وتنقل مهارة الصغير بالقنص للأب وهو يجفف وجهه بالبشكير النظيف الجاف.

في هذه المرة كان الهدف هو عينها، صرخت وهرعت الأمّ من المطبخ على صراخ الصغيرتين وفوجئت بنافورة دماء تنهمر من عين الصغيرة، وتصب على الأرض فيما وقف الصغير على مقربة من باب البيت يستعد لانتظار التعليق أو العقاب على فعلته، ولولت الأمّ واستعانت بجارتها لنقل الصغيرة إلى المستوصف القريب من البيت، وان هي إلا ساعات حتى خرج لها الطبيب الشاب بعبارة واحدة: لقد تم انقاذ الطفلة من موت محقق ولكنها فقدت عينها للأبد……….

حين عادت للبيت والرباط حول عينها توقعت أن تجد شقيقها على الأقل منتفخ الوجه أو مكسور الذراع من جراء العقاب الذي ناله من والديه، وأدركت من الحديث المتناثر حول سريرها في المشفى أنها اصبحت بعين واحدة، ولكن شقيقها كان يتحرك كعادته في البيت بحرية وسليما معافى وان رمقها بنظرات خاطفة تمر سريعا على عينها المعصوبة، والأمّ تلاحق نظراته تلك بعبارة: “الحمدلله اللي أجت على أد هيك…………”

تنطوي الأيام وتمر السنوات وتسمع الكلمة التي خافت أن تسمعها ولكنها تعرفها: يا عورا…….

قالها لها شقيقها وهو يزجرها لأنها لم تفتح له الباب سريعا وهو عائد من غاراته حول البيت مع الصبية المراهقين في الحارة، وتتذكر حديث أمها مع جارتها: البنت صارت عورا، كل شي قضاء وقدر، وترد جارتها الطيبة: أي شي بيعطل البنت، وبنتك صارت بعاهة مستديمة………

تكبر بها الأيام ، وتتزوج شقيقتها التي تكبرها ، وفي حفل زفاف شقيقتها تسدل خصلة من شعرها الليلي على عينها،وتقف أمام الكاميرا لتلتقط صورة تذكارية مع شقيقتها وعريسها، بعد أيام يفد إلى البيت أحد أقارب عريس شقيقتها ويبدي رغبته بالزواج منها حين رأى صورتها في بيت العريس قريبه، وحين تدخل عليه ويفتح فمه مشدوها بجمالها فانها تزيح تلك الخصلة عن عينها فيفتح فمه أكثر مشدوها بمفاجأة لم يتوقعهأ، أصبحت تلك الخصلة هي الستارة التي تسدلها طول الوقت أمام عاهتها والتي منعتها من اكمال دراستها فهي سمعت كلمة:
ياعورا……..من زميلاتها في أول منافسة بينهن على لعب الحجل في ساحة المدرسة، وحين تصبح في غرفتها وتقف أمام مرآتها، تعاودها الذكريات وترى ماحدث منذ سنوات فلاتملك أن تردد: لن اسامحك…….ثم تضحك وتضرب مرآتها بقبضتها وتلقي بجسدها على سريرها وتنخرط ببكاء يؤلم عينها الوحيدة……..

يتزوج شقيقها ويغادر البيت ولكنها لاتقف إلى جواره وعروسه لتلتقط صورة تذكارية معهما، ويصر والداها على زواجها من رجل في سن والدها، تحسبها بمنطق العقل، انها تريد ان تصبح اما ولكنها ستحسن تربية صغارها، تتمنى لو تنجب رزمة من البنات، لاتريد بينهن صبيا واحدا……..

حين تتزوج من الرجل الكهل، تفاجأ بعصبيته وقسوته وبأنه في أول نقاش بينهما خاطبها وعايرها: ألم يكفك أني تزوجتك وأنت عوراء…….

مرت بها الأيام وحلمها بالأطفال لم يتحقق، تفكر بأن تترك هذا الرجل الذي لم يستطع أن يعش معادلة شبابها وعينها الوحيدة وعذريتها أمام كهولته ودمامته وبخله وتقتيره عليها وأخيرا عقمه……فقد سبق له الزواج أكثر من مرة ولم ينجب مما تأكد لديها أنه يعاني عقما، حاول مداراته بحجج واهية ألحقها بزوجاته السابقات…….

حيرة تمزقها، لاتدري ماذا تفعل؟ ولكن الغريب أنها حين تستيقظ كل صباح وتقف أمام المرآة وتسدل الخصلة الليلية على عينها تسمع تحت قدميها صوت اسنان شقيقها الصغيرة وهي تتساقط مثل حبات الذرة الجافة من فرط شراسته، وينادي زوجها عليها أن تعد له الافطار ولا تسرف في سكب زيت الزيتون، ويكمل عبارته قائلا: “زهقت أذكرك ان تنكة زيت الزيتون لازم تكفينا طول السنة ياعورا……….” تضحك ولاتترك المجال لدمعة تؤلم عينها الوحيدة، تضحك وتدلف للمطبخ الصغير القديم وتسكب قطرات من الزيت وعينا زوجها تراقبانها، عفوا وعين زوجها تراقبها، لأن زوجها باختصار كان ……..بعين واحدة

سما حسن

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى