الثلاثاء ٢ شباط (فبراير) ٢٠١٠
بقلم غزالة الزهراء

ميسون 

تكمشت ميسون تحت غطائها الرث، أغمضت عينيها الصغيرتين لتهب نفسها لملك الرقاد، وما إن داعبت أصابع الكرى الخفية عينيها المجهدتين حتى اخترق سمعها دوي مدفع غاشم، قفزت من فراشها كقطة هالكة، مرتعبة، وصاحت بصوت طفولي تتناثر على إثره أحلامها المزركشة: جدتي، إنهم الأوغاد، الأوغاد يا جدتي. 

أحاطتها بذراعيها الحانيتين كأنما تخشى عليها من أن تطالها مخالب سوء، طبعت قبلة حارة فوق جبينها الغض، وقالت ملطفة من حدة هلعها، وقلقها: لا، لا تجزعي يا صغيرتي، جدتك معك، والله كذلك معنا في السراء والضراء. 

غاصت ميسون في هدوء مخملي، عجيب، ثم عاودت إسبال جفنيها من جديد لتنسى دفعة واحدة ما حصل منذ حين.
تتفاقم طلقات المدافع، تضج أصوات متباعدة كأنها آتية من بئر عميق، وينطلق نباح كلاب من هنا وهناك ممزقا ستار الظلمة الحالكة، الرابضة فوق صدر الكون.

ماذا هناك يا جدتي؟ ماذا هناك؟

تربت على كتفها بكل هدوء، وتهمس لها لتبث فيها بذور الأمان: لا تكترثي بهذه الطلقات المجنونة، المباغتة، لقد تعودنا سماعها كل يوم، كل لحظة، وكل دقيقة، فما الغرابة في ذلك يا حبيبتي؟ 

تركن ميسون بجذعها الطري، وبأحاسيسها الدفاقة إلى قفار الصمت للحظات، ثم تفاجئها بأسئلتها المحيرة، العالقة بين السماء والأرض: أين أبي؟ أين أمي؟ أين أخي وأختي؟

تتنهد الجدة كأنما تدفع عن نفسها كابوسا مرعبا وتقول: لقد سافروا كلهم يا بنيتي، وسيعودون عما قريب وفي عيونهم الملونة يزغرد النصر المبين.

 متى يعلنون عن عودتهم الميمونة يا جدتي؟ متى؟ 

يبتلعها جحيم الدهشة، تفتش عن إجابة مختصرة لتقنع بها حفيدتها، تفتر شفتاها المزمومتان عن حديث مريح يزرع قلب الصغيرة أشعة دفء، وسلام، وطمأنينة: ترقبي عودتهم مع بزوغ خيوط الفجر الأولى. 

إن الجدة تنسج كذبتها البيضاء من وحي خيالها عسى أن تدفع حفيدتها إلى التشبث بأهداب الأمل المشرق، والحياة السعيدة.

أرادت أن تقول لها بصريح العبارة: استشهدوا جميعهم في سبيل هذا الوطن الطيب، الغالي المنال، لن يعلنوا عن عودتهم أبدا، الطغاة المتعجرفون يعيثون فسادا في ثرانا الندي الذي هو رمز الاتحاد، والحب، والإلهام، والبطولة، يحصدون من غير رحمة أفنان الأمل المورقة بقنابل الهتك والدمار، يكتسحون أرضنا الخصيبة كالجراد العابث، كالذئاب الجائعة السافكة للدماء الزكية، أحرقوا ديارنا، وقرانا، وأرعبوا شياهنا الوديعة في مرابضها، سحقا لهؤلاء الأوغاد! سحقا لهم!

لقد شتتوا شمل الأحبة في كل اتجاه، وشردوا أطفالا صغارا لا يزالون يحلمون بفراشة ملونة، ووردة متفتحة، وزرع يانع أخضر، ونورس جميل يحلق فوق رؤوسهم، وأكل فاكهة ناضجة، يحلمون بعصافير تطلق تغاريدها المرحة في سماوات طفولتهم، وبأرجوحة جميلة منمقة تنسيهم عذاب السنين، صاروا لا يملكون في حوزتهم إلا الدمع الجارف، والأسى الفتاك، والأنين المر.

 لماذا انزويت تحت جناح الصمت يا جدتي؟ أأنت تتوجسين خيفة من أولئك الأوغاد مثلي تماما؟
 لا، أبدا يا صغيرتي، نحن الفلسطينيون لا نهاب شوكة العدو مهما خرب، وعذب، ودمر، على كل حال أنت لا زلت صغيرة ولا تدركين فحوى هذه الأمور، فكري فقط في خبز شهي، وحليب، وتوت، ورمان، لا تفكري في الأسوأ بتاتا. 

طلقات المدافع لا زالت تكتسح الفضاء الفسيح، وتتكاثف بقوة لا نظير لها، العدو الغاصب يصب جم غضبه على أهل فلسطين، أما الصغيرة “ميسون” تعلقت بثوب جدتها وهي تنتظر بفارغ الصبر بزوغ فجر جديد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى