الثلاثاء ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٢
مذكرات المناضلة اللبنانية سهى بشارة
بقلم سهى بشارة

الحلقة السادسة - الإلتــــزام

مظاهرة في بيروت، من أجل كل المفقودين، والمخطوفين، والموقوفين.

الحرب الأهلية لا تكتفي بزهق أرواح الناس فقط، إنما تعمد كذلك الى اختطاف الرجال، فتترك عائلاتهم بانتظار لا يطاق. ذلك اليوم، كان ينبغي لكل السيارات أن تتوقف عن السير، لدقيقة واحدة وسط الشوارع تضامناً مع المخطوفين. ونزلتُ مع أصدقائي في الإتحاد الى الشوارع الرئيسية في المدينة لإيقاف حركة السير.

إلا أن العملية باءت بالفشل، ذلك اليوم. فكانت السيارات تواصل سيرها غير مبالية بإشارات التوقف. ورأيتُ سائقاً يهم بالانطلاق غير آبه بنشاطنا. فأثار تصرفه في نفسي غضباً عارماً. وعلىالرغم من أنني أضبط أعصابي ومشاعري جيداً، فقد جعلني هذا التصرف أفقد صوابي. وبّختهُ ودعوته أن يصير أكثر مدنيةً. فرد علي سئماً، وطمأنني بأن جهودنا كلها لن تجدي نفعاً، وأنها بلا طائل.

وذات ليلة، حدث أمر جلل.

كان الوقت منتصف الليل، حين أُعلن خبر مقتل الشيخ راغب حرب. كان أحد وجوه المقاومة البارزين. وهو لم يتوان عن الدعوة الى مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، من على منبر الحسينية في بلدته جبشيت، القريبة من صور. وكان الشيخ حرب رجل دين وملتزماً في حركة أمل، في آن. ولما وجد الإسرائيليون أن له تأثيراً كبيراً في محيطه، وأنه لم ين يحضّ العشرات ممن حوله على قتالهم، قتلوه في قلب مسجده. فأحدث فيّ غيابه حزناً شديداً. فمضيت، مع الفجر الى رفيقي "علي"، الذي كان مسؤولاً عن الطلاب الثانويين الملتزمين في الإتحاد بمنطقة بيروت الغربية. أيقظته وأطلعته على الخبر، فقررنا أن ننظم تجمعاً في المدرسة، حداداً على الشهيد حرب، واحتجاجاً على عدوان إسرائيل، على أن يلي التجمع الإنطلاق في تظاهرة الى الشارع.

ولما كنت الناطقة بلسان مدرستي انتدبتُ لأسأل مديرتنا الموافقة على تحركنا. اندفعتُ الىمكتبها، وسرعان ما قوبلت بالرفض. ولئن تفهمت المديرة انفعالي وغضبي، فقد ظلت مصرة على رفضها تعطيل الدروس لمرة جديدة، في حين بدت حياتنا المدرسية مشوشة بكل أنواع الأحداث الناجمة عن الحرب الأهلية. وظلت معاندة، لا تلين. أغاظني تصرفها. فخرجتُ عن طوري، ورحتُ أقدم لها البراهين من علياء الخامسة عشرة ربيعاً تلو البراهين عما ظننته درساً بالوطنية. مع ذلك، أمكنني أن أبدل رأيها، وتوصلنا الى نوع من المساومة، يقضي بأن نتابع دراستنا في نهار ذلك اليوم، ثم يسمح لنا بالتجمع لشرح ما يجري، قبل الإنصراف الى التظاهر في بيروت الغربية. ذلك اليوم، تظاهرت مدرستي وحدها في الشارع دون سائر الناس. وكالعادة ، كانت المواكب تنطلق من الصنائع، وتتجه صوب مكاتب الأمم المتحدة سالكة شارع الحمراء الكبير، ومن ثم تتجه الى الجادة الكبرى، وتمر من أمام السفارة الكويتية. غير أننا اكتفينا بالتظاهر في الحي نفسه، من دون رايات ولا أعلام. ورحت أطلق الشعارات في حيوية بالغة، حتى أن أحد الرجال المارين من ذلك المكان رمى بهذا القول: "هذه الفتاة، لسوف تقوم يوماً بعملية انتحارية، بالتأكيد!".

تبدت لي نتيجة هذا النهار هزيلةً.

وبارحني هدوئي، من جديد، أكثر من اللازم. وتفكرتُ في ضرورة أن أستخدم طاقتي المتوقدة وحماستي لأهداف أخرى.

فمنذ الإعلان عن ولادة جبهة المقاومة اللبنانية ضد الإحتلال الإسرائيلي، في السادس عشر من أيلول / سبتمبر في العام 1982، كففتُ عن الضياع وعرفتُ سبيلي. قررت أن ألتزم. ولكن، ماذا يقتضي أن أعمل، وفي أي ظروف، ومع من؟ لم أكن لأعرف جواباً عن كل هذه التساؤلات. وكلما استشعرت، في صميم نفسي، هذه الحاجة الى المساهمة في هذه المعركة التي اندلعت لتوها، ازددتُ جهلاً بالسبيل التي ينبغي لي أن اتخذها لأصير على صلة ملموسة بهذه المقاومة الشهيرة، التي أجلها. والحال أن تحول المقاومة الىنطاق السرية في بيروت لم يكن ليسهل أمر ذلك التواصل.

وكذلك لم يكن هذا التكتم الشديد الذي لبثتُ أحفظ فيه قناعاتي العميقة، سواء داخل عائلتي أو لدى أقربائي، ليسهل علي الأمر نفسه. وحين كنا نناقش في الإتحاد مسألة اقتدارنا على القيام بأعمال جريئة، كنت أحذر جيداً من إيذاء أي ميل فيّ الى هذه الشعلة التي ملكت كياني منذ أيلول / سبتمبر الشهير ذاك. فجهدتُ، على الدوام، في أن أبدو طالبةً نجيبةً، تنفر من الخروج الى السهرات، وتؤثر أن تظل في المنزل لتعمل، ومندوبة عن الطلاب نشطة غير أنها لا تخرج عن المعقول، وذات رشاد ورزانة، في حين بطُلَ أن يكون عطاء الذات والتضحية بالنفس في سبيل القضية، على حساب الشعارات الطنانة، أمرين محرمين منذ العملية الانتحارية الأولى التي نفذتها فتاة لبنانية في القطاع المحتل عام 1985. سناء محيدلي، ذات الثمانية عشرة ربيعاً، شاءت أن تفجر بنفسها القنبلة التي كانت تحملها لدى مرور دورية إسرائيلية.

ولئن كنتُ مسالمة في طويتي، فإن هذا المثال الذي صعقني وجعلني مستعدة للنضال.

والنضال دونه الكثير من الصعوبات، ولأجله يُضحى بالكثير من الأمور. وها أنا وقد بلغت الخامسة عشرة، ذلك العمر الذي يصير فيه متوقعاً أن تنمو بين الشباب، في مرحلة المراهقة، وبين الفتيات، سواء في المدرسة أم في الاتحاد، مشاعر تتجاوز المصلحة البحتة، ... أو مشاعر الحب والهوى، وفي هذا الشأن، كنت موضع إعجاب من قبل أحد أصدقائي، وكان عضواً في الحزب الشيوعي، وما برح ينظر بشيء من الاحتقار الى أعضاء الاتحاد، وينعتهم بغير الناضجين لأنهم لا يفكرون إلا في اللهو. ورحت أصغي إليه وهو يبوح لي بحبه، هذا البوح الأول في حياتي. لم أثبط عزيمتي، إلا أني، وبعد تفكير عميق، صرت علىيقين بأن حكاية الحب هذه ربما تحول دون المضي في مخططي المستقبلي. وكنتُ، الىحينه، لا أزال أعرضُ خدماتي لمرافقة هذا الشخص أو ذاك للعبور في سيارته الى نقطة في بيروت.

فإذا ما كنتُ أمضي قدماً في اقتراحاتي، فلأني كنت أعرف أن وجود زوجين في سيارة واحدة يثير من الريبة أقل مما يثيره رجل مفرد – ولا سيما إذا كانت السيارات التي استقللتها ناقلة للأسلحة والذخائر، على الأغلب.

فإن يلتزم المرء ويزيد من التزامه، لأمر يستتبع عواقب غير محسوبة. أضف الى ذلك، فإن الأمثلة التي عاينتها من حولي كانت تردعني عن مزاوجة المشاعر بالمقاومة.

وفي خلال بحثي الدؤوب عن شبكان المقاومة، تقربتُ من رفيقة في الحزب ولها صديق ينتمي الى تنظيم ماركسي. وكنتُ أعرف أن هذا الصديق يُشك في كونه مشاركاً في عمليات حربية. وكلما أبدت له صديقته رغبتها في الالتزام والقتال الى جانبه، واجهها بالرفض القاطع، محتجاً لها بالمخاطر الكثيرة. لم يكن يشاء أن تخاطر في شيء. ولهذا السبب، انتهى بهما الأمر الى الإنفصال. وفيما بعد، عرفتُ المعضلة نفسها في عين صديقة أخرى. كان الشاب، هذه المرة، ملتزماً في صفوف حزب الله. وكان التزامه يستغرق منه جُل وقته، ما جعل صديقتي تنفر منه. ويوم قررت الإنفصال عنه، علمت بأنه مزمع على القيام بعملية انتحارية، قريباً. ولم أيقنت أن لها قسطاً من المسؤولية في قرار صديقها هذا، سألتني أن أرافقها الى الجنوب لملاقاة ذلك الشاب ومحاولة ثنيه عن القيام بهذه العملية. فسررتُ بهذه النعمة غير المتوقعة، وقبلت رفقتها. مضينا إليه. وأمكنها، آخر الأمر، أن تقنع صديقها القديم بالعدول عن نشاطه. والحق يقال، إن هذا المقاتل، حين أسر لها بكل نواياه، وحين وفر لها كل الوسائل التي تتيح لها موافاته حيث هو، يكون قد أفسد مخططه ونضاله بيده. إني أتفهم مشاعر رفيقتي ومسعاها في سبيل استرجاع صديقها، حتى ولو صرتُ أنظر إليها بعين اللوم.

ولقد نظرت حولي، فوجدت أنه يمكن للمرء أن يختار الالتزام، وقد يذهب به الى حد التضحية بنفسه، أحياناً، لغايات شخصية، لا تمت بصلة الى الشعور الوطني. تضاف الى حكايات الغرام المحبطة، قصة قريبة لي وتدعى "لولا عبود"، وهي الشيوعية التي استشهدت في خلال سلسلة من العمليات المنفذة في البقاع. "لولا" كانت قد انفصلت عن صديقها قبيل قيامها بالعملية التي أدت الى مقتلها.

في الحقيقة، كانت هذه الأمثلة (عن الحب المحبط) تثلج صدري، ما دام لدي الانطباع بأني أبليتُ حسناً إذ تجنبتُ أية علاقة، حتى ولو كانت مع مقاوم. ومع أني كنت، شأن كل فتيات جيلي، راغبة في أن يكون لي عاشق، وأحلم بأن أحيا حياة زوجية، تحقق خلالها أماني الزوجين، في عائلة وأبناء، فقد بدا لي محالاً في ظل الظروف الضاغطة التي تحيط بنا، أن أنخرط في التزامين وفي جبهتين، معاً. ومنذ ذلك الحين، اقتصرت علاقاتي بالفتيان على الصداقة حتى أنني غدوت لهم خير أمينة على أسرارهم، ونوعاً من المساعدة الاجتماعية والعاطفية.

وبالمقابل، وجدت عدداً لا بأس به من صديقاتي يسألنني النصح في علاقاتهن العاطفية، لأنهن يعتقدن أني كنت على دراية بهذه الأمور، لمجرد أني كنت مقربة من الحزب الشيوعي الذي أُثر عن أعضائه تميزهم بالتحرر.

في الواقع، كان اختياري في ألا يكون لدي صديق، قليل الكلفة. إذ لم يكن يشغلني سوى أمر واحد، الدخول في المقاومة.

عانيتُ الكثير لأجل أن يتحقق هذا الطموح، فشاركتُ، مشاركةً نشطة في الحملة التي أدت الى إسقاط اتفاق العار، اتفاق 17 أيار / مايو لعام 1983، والذي كان وُقع بين إسرائيل وحلفائها اللبنانيين الممثلين بأمين الجميل. وأدى النضال الى تحقيق غايته، بسقوط ذلك الاتفاق. وفي تلك الفترة، قابلني جميع أفراد عائلتي بالحرص الشديد علي، فأجمعوا على إرسالي الى الخارج. وكانت والدتي تجهد في تجنيبي شر المصير الذي قد تؤول إليه فتاة لبنانية أرثوذكسية، عنيت به الزواج من شاب مسلم. وكان والدي، شأن أخي عدنان وعلى شاكلته، يريد لي أن أخرج من البلاد، لأتعلم بعيداً عن الحرب الأهلية، وعن فصول الرعب فيها، وعن مظاهر العنف التي لا تُعد ولا تحصى. ولئن ظننتُ أن أحد أساتذة أختيى يمكنه أن يضعني على سكة المقاومين، فإني كنتُ على يقين أنه سوف يسارع الى إخطار أهلي بنواياي لو أسررتُ له بكلمة واحدة في هذا الشأن. وزاد في الطين بلة، أن محاولاتي الأولى للتقرب من المقاومين باءت بالفشل والصد، بكلمات جلية. وحين خاطرت، أخيراً، وطرحتُ السؤال عينه على "علي"، وهو المسؤول السياسي الذي أوليه تقديري وأعرف مقدار حفظه للسر، أجاب بأنه الأجدى لي أن أظل في موضعي، داخل الاتحاد، وفي مدرستي. فهو يرى سبيلي مرسومةً في هذه الوجهة، لا تلك. وعليه، فقد رأيتني منتخبةً، ويكاد يكون غصباً عني، في المجلس الوطني لحركتنا. وأوردت الجرائد إسمي. فاعتبرتُ ذلك بداية سيئة لمن يرغب في الانخراط بعمل سري، ويجده في تضييع اسمه وسط حركة طلابية، صرتُ أتردد إليها أقل بكثير من السابق، لسب ظاهر على الأقل، وهو انصرافي الى الدراسة.

وبعد تفكير ملي في الأمر، ارتأيت التوقف عن متابعة دروسي في كلية الهندسة، التي التحقتُ بها بإصرار من عائلتي. كما قر رأيي على مغادرة عائلتي للإقامة في الجنوب. وقلت في سري: إن زواجي وإقامتي في الجنوب قد يكونان حلاً آمناً لما أسعى إليه.

ذات يوم أنبأتُ "علي" بعزمي على الذهاب الى المنطقة المحتلة. وكانت محض عبارة قلتها له.

فجأةً، حدث ما لم يكن بالحسبان. إذ أتاني علي، وقد أيقن بعزمي الثابت في ما أسعى إليه، ولم تمض أيام قليلة على سؤالي السالف، وأجابني بأن "أحدهم" يود أن يلتقيني، وأن يلتقيني، وأن موعداً لي معه سوف يحدد على وجه السرعة. لدى عودتي الى المنزل، أقفلت باب غرفتي ووضعت الموسيقى ورحت أرقص بحمية لافتة.

وأخيراً، ها قد وجدتُ صلةً!

في اليوم الموعود، توجهت خلسةً الى أحد الأبنية في بيروت الغربية. وكان "علي" يرافقني. دخلنا، وقدمني الى رجل أربعيني، يدعى "مازن". هكذا كانوا يدعونه. قامة مديدة، بل صاحب حُسن، عينان زرقاوان وشعر أشقر. وبدا لي كتوماً، بل قلْ ميالاً الى السكوت، وما كانت عباراته لتنبئ بأي منبت اجتماعي خاص. تكلمنا في كل شيء. ثم رأيت علياً ينسل خارجاً ويتركني وحدي بحضرة "مازن". عندئذ انطلقت ألستنا فتحدثنا عما يجري في لبنان، وعن الحرب الأهلية والمقاومة. فشرحت له أن مشاعري الوطنية تلزمني الانخراط فيها، لأننا، إن لم نفعل شيئاً، نحن اللبنانيين، فسوف نلقى المصير نفسه الذي لقيه الفلسطينيون. وقلت له إنني مصممة على المضي الى النهاية. ولفظنته، جعلني "مازن" أطلق لساني في الكلام، وجعل يزن حميتي، إذ شرح لي أنه من الطبيعي أن يتراجع المرء حيال المخاطر. أدركتُ قصده، فأجبته بأن قناعاتي راسخة وأن عزمي لا يزال على حاله.

وتلا اللقاء الأول لقاءان آخران، لم يكن "علي" حاضراً فيهما. سألني محدثي عن قراءاتي، فكان الجواب بسيطاً؛ في ما عدا الكتاب الذي كان أهداني إياه عاشق شيوعي، والذي ينطوي على سرد للأعمال البطولية التي اجترحها الجيش الأحمر ضد الفرق الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية، لم أكن أقرأ شيئاً خارجاً عن نطاق مقرراتي. لا جرائد، ولا كتب سياسية أو تاريخية. فما كان من السيد "مازن"، إلا أن أعطاني، بادئ الأمر، كراسة ذات عنوان واضح، "الفييتكونغ". والكراسة هذه تنطوي على خمسين صفحة، كُتبت بالعربية، وطُبعت في بيروت. ثم اقترح علي أن أقرأ أعمالاً عديدة أخرى. فاخترت أن أقرأ "الجدلية التاريخية"، وهو مجلد ضخم، كان مرشدي الجديد استعاره استثنائياً من مكتبة روسية. والحق، أني لم أقرأ مهمة الى الجنوب، حال دون احتفاظي بهذا الكتاب أو إبقائه في منزلي.

وكلما ازدادت اللقاءات، توسعت مواضيع النقاش بيننا. واتضح لي أن "مازن" يبحث، في المقام الأول، عن مسيحيين ليؤدوا مهمات في الجنوب. لأن هؤلاء أقل إثارة للشبهات، من قبل الميليشيات المؤيدة لإسرائيل، والتي تتولى حكم المنطقة المحتلة، الى جانب جيش إسرائيل. الى ذلك، فقد نصحني بألا أبدل شيئاً من عاداتي، وأتابع العيش في كنف عائلتي، وأكرّس أغلب أوقاتي في الدراسة الجدية. وشرح لي أن هذا التجذر العائلي أساسي، ما دام أ المقاومة تسعى الىتحرير يهم جميع اللبنانيين.

في غضون شهر آذار / مارس 1986، أعددتُ امتحاناتي، ومن ثم مضيت الى عمتي التي بقيت في الجنوب. وكان ذلك أول اختبار لي، حتى لو لم يكن ما أقوم به بمثابة عملية خاصة، بكل ما للكلمة من معنى. ولدى عودتي، وجدتُ ما يشبه الكارثة.

فحين قصدت المكان المألوف للقائنا، لم أجد "مازناً" الذي توارى من دون أن يترك لي أقل أثر أو رسالة. وبقيت، على مدى ثلاثة أشهر، لا أعلم شيئاً عنه، فتملكني اليأس وشارفت على الإحباط. فبعد أن لامستُ حلمي بيدي ها هو يتوارى بعيداً عني. لم يكن بمقدوري أن أقول كلمة بهذا الشأن لعلي. ينبغي لي أن أنتظر. وعلمتُ أخيراً أن "مازناً" كان قد اختطف على يد حركة أمل. اختُطف وعُذب تعذيباً. تشوشت أفكاري ولم أعد قادرة على التركيز على دروسي، حتى انتهيتُ الى الرسوب في الامتحان، لأول مرة في حياتي. وبعد مضي أسابيع مثقلة بالانتظار، لاح بارق من أمل. "مازن" ترك لي رسالة في مركز الاتحاد.

وأخيراً، أُعيد التواصل الى حاله. ويوم لقيته، في غضون أيام قليلة، لم يرو لي شيئاً عن جلجلته. إنما اكتفى بإعلامي أنه لم يدل بأي معلومة في ما يخصني، وعدنا الى نقاشاتنا.

في البدء، لطالما ظننتُ أن الانخراط في المقاومة شأن بالغ السهولة. إذ يكفي أن أُعطى عبوة متفجرة وأُعلم عن الهدف، حتى تتم العملية. بل اكتشفتُ أن العمليات هي أعقد مما يتصوره الكثيرون، وأدق من قياسهم. فهي تستلزم تهيئة، ودراسة ميدانية للأرض، وجمعاً لمعطيات وتفاصيل هائلة. وحين أنبأت محدثي بعزمي على قضاء إجازة قصيرة في الجنوب، طلب مني "مازن" أن أكتب تقريراً. ثلاث صفحات بحجم ورقة النسخ العادية (A4)، أخط فيها كل ما أراه.

وفي موازاة ذلك، جعلت ابتدع حجة قابلة للتصديق، أبرر فيها لعائلتي وصديقاتي مشاويري الكثيرة، جيئة وذهاباً، الى الجنوب ومنه، وكانت هذه الحجة تدعى "سهاد". وهو عامل في المختبر التابع لمستشفى مرجعيون، وهي بلدة يعمل فيها ابن عمي عصام، حيث يدير عيادة خاصة بالتعاون مع زوجته. "سهاد" هذا كان في السادسة والعشرين، وله مكانة جيدة وهيئة حسنة.

والحال أن كل ما كنت أسرُ به صديقاتي، يشيع بين الناس كالنار في الهشيم. وجهدتُ أن أبوح بسري الى أكثر نساء القرية ثرثرة. ذات مساء، وبينما كنت أتنزه مع أختي، سألتني إن كان هذا الفتى يستأهل مشاويري الكثيرة اليه. فاصطنعت الغضب الشديد، وذكرتها على نحو فظ، بقصة حبها – الحقيقية بخلاف قصتي – مع بيار، جارنا المعقد.

للحال، بلغتها الرسالة، كما بلغت كل من حول أختي، فلم يعد أحد يجرؤ على مفاتحتي بأمر وجودي في الجنوب.

وذات يوم، أخبرني "مازن" بأن لقائي به هذا سوف يكون الأخير. ومن الآن فصاعداً، سوف يوكل الاهتمام بي الى عضو آخر في التنظيم. وكان ينبغي لي أن أحمل في يدي المجلة النسائية "الحسناء" وأبرزها للملأ. واتفقنا على أن نتبع نظاماً رمزياً يتعلق بأمن كلينا. فإذا ظننتُ نفسي ملاحقةً أو مراقبة، ينبغي لي أن أحرك علبة المارلبورو على نحو يستفاد منه وجود خطر ما. كنت أتوقع أن يأتي رجل، باسم "أحمد" للقائي. وفي اليوم الموعود، وبعد دورات كثيرة قمتُ بها في المدينة، قصدتُ المقهى أخيراُ. وكنتُ ألِفتُ، منذ لقائي الأول بـ "مازن" إضاعة بعض الوقت في زيارة المحلات التجارية، ولا سيما تلك التي تعمرها واجهات من الزجاج العالية، ليتسنى لي التأكد مما إذا كن أحدهم يلاحقني أم لا. وتمت الصلة بأحمد، كما كان متوقعاً. لقد أنجزت، للتو، خطوة إضافية في هذا السبيل. وها أني على صلة مباشرة بأحد فروع المقاومة النشطة.

ولسوف تتعدد اللقاءات. وكان شهر حزيران / يونيو من العام 1986. وبعد العطلة الصيفية، ومنذ شهر أيلول / سبتمبر، من ذلك العام، سوف أمضي معظم أوقاتي في المنطقة المحتلة.

وسوف يبدأ عمل سري جديد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى