الأحد ٢٨ شباط (فبراير) ٢٠١٠
بقلم مصطفى أدمين

رِحلة زُقْزُقسْتانْ

حدثني أبو ضياء؛ قال:
هل رأيتَ بلداً أُناسُه شبه النسانيس؟... إنّه بلد زقزقستان.
النسناس كما تعلم، قرد صغير الحجم، طويل الذيل؛ وهُمْ في شكله، وعلى شاكِلته. يسكنون الأشجار ويقتاتون على الأوراق، ويفعلون بأذيالهم الأفاعيل. يعتلون العروش، ويقلِّدون العصافير تقليدا لا يخلو من زقزقة مضحكة؛ معتقدين أنهم بذلك التقليد السافر، يؤثرون في حواسنا، ويلهموننا المعاني الجميلة، والحقيقة أنهم مقزِّزون مُقرفون، ولا موهبة لديهم، عدا موهبة استعداء كل من يستهجن سلوكهم الأخرق.

كلّ من يمتعض من كلامهم الغامض الذي يتعمدون إنهاءَهُ بالسجع؛ يضربونه بأي شيء يقع تحت أيْديهم القردية. للإشارة، فإن أياديهم أقصر من أذيالهم، بل من ألسنتهم. والذي لا ينطرب لزقزقتهم، يضربونه كذلك. فهُم يكرهون من يقلّدُهم، ومن لا يُقلِّدُهم، ومن يقلِّدونَه على حد السواء.

أمّا رئيسُهم فأكثر عدوانية من غيره؛ رأسه بيضاء، وصدره مكسوٌ بفرو أسود، وله عورة حمراء مكشوفة... سمعته يقول كلاما مبهما كلَّه، ولم ألتقط من غموضه سوى بضع كلمات عصِيّة على الفهم من قبيل: "صهوة ...أوقيانوس... سيزيف..." وهم يصفقون له، حتى إذا ما انتهى من لغْوِه وحَشْوِه، راحوا يقولون مثل ما قال، فيعمد إلى ضربهم، ومطاردة البعيد عن يده بالسبّ، والقدح. فنهض واحدٌ (سمين جبان، وعلى عينيه زجاج يبعد الرؤية، وفي يده دواة وقلم) ليمدحه بقول مُزقزق لم أفهم منه سوى اسم الممدوح؛ وكان" أبو النسانيس". قال عنه ذلك المدّاحُ المنافق:"أنت المنى... أنت الرئيس ".

والمعلوم أن أماني الناس لا تتحقق على يد القرود.

وما إن انصرف مزهوا بما قيل فيه، حتى شرع ذاك النسناس المخادع في كتابة كلام عن ممدوحه كله قدح وتقريع. وهذه خصيصة الزقزقستانيين: اللغو، والنفاق، والغدر. ولهذا السبب لم أحب أن أتوقف ببلدهم يوم كنت في رحلتي إلى "بلد العاج" كما سبق لي أن أخبرتك.

وجاءت زوجة أحدهم وقد كانت لا تفهم في الزقزقة رَويّا. ولأنها زوجة ذلك الأحد، فلقد زقزقت علينا بوجه خالٍ من الاحترام لأذواقنا، وبلسان طويل ملتوي، وبيدين ورِجلين قردية، وبحركات "مهزلية"... وراحت تتشدق ب"صهوة اللذة، وبحر الإيروس، والنورس، والليلك..." وأنا أعرف أنّها لم ترَ الليلك في حياتها. وكان حريّ بها أن تتكلم عن الأوضاع الرديئة التي يرزح تحتها بنو جلدتها، وعن سلوكهم الذي لا يليق بالكائن الحرّ: سلوك العداء المجاني المقيت، والتملق، والمواربة، والجحود.

ثم جاء طفلهما؛ وهو قُريِّدُ أكْرش، و شـَنـّف ـ هو الآخر ـ مسامعنا بزقزوقة صغيرة، لكن ما أقدرها على إثارة الاشمئزاز في النفوس. وسألني أبو ضياء:"ما أَلَذّ الطعام عندك؟ " فقلت:"المفيد للبدن والروح والعقل". فضحك وقال:"وأما عند بني نسناس، فهو الطعام الذي يُستدعون له في الفنادق". وسألني:"وما ألذ الشراب عندك؟" فقلت له:"الصافي الشافي" .

فضحك وقال:"أما عندهم فهو الشراب الذي بالمجّان". قال أبو ضياء:"ولهم بيت يجتمعون فيه مرة في السنة لأجل زقزقة عالمية هم أبطالها. فيتصيدون لتبريرها الأدباءَ والشعراءَ الحقيقيين من "غُرْباتبا" ومن بلدان بعيدة عن المعمور؛ يُقال إنها توجد في ما وراء المحيطات . وذات مرة، تقزز أحد هولاء الشعراء من كلام الزقزقستانيين الفارغ، ومن سلوكاتهم الرخيصة، فما كان منهم إلا أن أوسعوه ضربا وهجاءً. ولعلمك، فإن زقزقستان بلد صغير.

تحده شمالا "أمنستان" و" قبقبلاند"، وجنوبا "كورسيكا" (بلاد عبدة الكراسي)؛ وغربا، البحر الأول، وشرقا، بلاد (بني وي ـ وي). وهولاء هم من يجودون على أهل زقزقستان بالمال، لاعتقادِهم ـ عن جهل ـ بأن ما تقوله النسانيس له قيمة. وهناك بعض القبقلانديين الذين يضحون بالغالي والنفيس، لأجل أن تُقال فيهم الأقوال المزقزقة. ويبقى أول شعب تَهَابُه القِردة المزقزقة، هو شعب أمنستان، ولذلك فهم لا يتطاولون عليه أبدا. اللهم بعض المديح لكبيرهم في بعض المناسبات. يمدحونه فيتصدق عليهم ببعض الفتات من طاولته.

وكان أبو ضياء في حالة غضب، ولمّا سألته:"لماذا تغضب من قوم تفصلنا عنهم البحار والأمصار؟ " فقال لي:"اعلم أن اللسان متصل بالقلب، وهذا له صلة بالعقل، والعقل مِقود السلوك؛ فإذا ما فسد اللسان، فسد القلب، وبفساد هذا، يفسد العقل، فيفسد سلوك الفرد، ومنه فساد سلوك الجماعة المفضي إلى فساد البلد. فما نضمن أن ينتشر الفسادُ ـ عبر الأثير ـ كما ينتشر الطاعونُ، من بلد إلى آخر، إلى أن يُصاب بلدُنا بالعدوى. فأي مصير سيكون لسكان المعمور الطيبين إذا ما استوثق بنا داء الزقزقة؟ سينقرضون لا محالة. فسألته:" فماذا علينا فعله؟" فقال:"تعلم أن ما من بلد يخلو من أفراد خيِّرين، والرأي عندي أن يتجمع الأخيار فيما يشبه العصبة؛ فيتعصبوا للكلام النبيل الهادف، وللسلوك المتعالي عن المطامع، ويحاصروا به النسانيس في كل بيت، ومن على أيّ مِنبر، إلى أن يتراجع الكلام الرديء. وهذا الأمر لن يتم إلا أن تحتاط العصبةُ من الدخلاء، وأن تبذل في سبيل هدفها ما أوتيت من وقت وصبر وجهد ومال."

مهداة إلى روح الشاعر العراقي الفذّ؛ عبد الوهاب البياتي


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى