الجمعة ٥ آذار (مارس) ٢٠١٠
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

العقل - اللاّعقل!

 

 معادلة «العقل» و«اللاّعقل» معادلة دقيقة جدًّا. من أسرفَ في تمجيد الأوّل قد يصل به إلى الآخَر. ذلك أن إعلاء شأن العقل لا ينفي أنه بذاته قاصرٌ عن فهم كلّ شيء، ولا أن هناك أسرارًا في الكون يعجز العقل عن بلوغ أمرها. ولو حكَم امرؤٌ على ما لا يعلم أو يفهم على أنه لا شيء، أو أنكر منطقه، أو ألحد في وجوده، لكان أجهل الأجهلين. ولنا في ما نرى في حياتنا البشريّة أمثلة عدّة. فليأخذ- على سبيل المثال- أشدّ الناس عبقريّة جهازًا من هذه الأجهزة المعقّدة التي تُستعمل في الحياة اليوميّة: حاسوبًا، أو جوّالاً، أو حتى لعبة أطفال. حتمًا سيجد- بمقاييس فهمه وإدراكه- نقاط غموض، وظواهر تناقض، وجزيئات أو أجزاء من الجهاز الذي أمامه تلفّها عتمة اللاّمعنى، وربما حطّم الجهاز- أو حاول تحطيمه- في حالة هستيريا من اللا فهم. فإنْ هو انطلق من ذلك ليحكم على الجهاز كلّه بأنه عَبَثٌ، أو بلا منطق، وأن صانعه أرعن أحمق، بل أن الجهاز برمّته بلا مبدعٍ حكيم، كان غبيًّا جهولاً كفورًا. وبهذا المثَل يمكن النظر إلى الكون، هذا الجهاز اللانهائيّ البالغ التعقيد. فما كفر الكافرون بالله إلاّ لأنهم كذلك الذي لم يفهم الحكمة من بعض آلته التي صنعها أخوه الإنسان فحَكَم عليها كلّها بالبطلان وعلى صانعها بالعَتَه. وإلاّ لو كان العقل عقلاً لدى أولئك جميعًا لما أسقطوا الكليّ بحكم الجزئيّ. أي لما أدّاهم الاستشكال في بعض الموضوع، أو قيام أسئلة حائرة الإجابات في بعضه، إلى نفيه بالكليّة. ذلك أن الجمال والإبداع في الكون والحكمة البالغة في آليات تسييره ظاهرة من أصغر ذرةٍ إلى أعظم كوكب، وليس ما لا يفهمه الإنسان من أسرار هذا الجهاز الهائل إذن إلاّ كتلك الأشياء الجمّة التي يمكن له أن لا يفهم أسبابها ولا يعي مغازيها من جهازٍ يدويٍّ صغير تافه يستعمله يوميًّا وهو يحار في كثير من أسراره. فيا للإنسان من جهول حين يغترّ بقدراته وهو بهذه المحدوديّة والمحصوريّة! وهو ما عبّر عنه القرآن أبلغ تعبير في الآيات: ]قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَه! مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَه؟ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَه، ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَه...[. «سورة عبس: 17- 20». و" قُتِلَ الإِنسَانُ" ليس دعاء عليه، على الأسلوب العربي التوبيخيّ الذي ليس على ظاهر معناه من الدعاء بالهلاك، ليس ذلك فحسب، ولكن الآية تحمل كذلك تعبيرًا عن أن الإنسان يقتل نفسه بنفسه حين يكفر بكامل ملكاته، ويحكّم مَلَكَةً واحدة حتى تُلغي ما سواها، بل قد تُلغي نفسها، حين تتصوّر فيها كُمُون القدرة المطلقة على الفهم. ولقد أثبت العلم نفسه أن العقل غير قادر على إدراك كلّ شيء، بل إن العقل الإنساني ليس الذهن الرياضيّ فقط، أو الحاسوب الدماغيّ القارّ في الجمجمة، وإنما هناك ما قد يَصْدُق إدراكُه بغير ذلك الحاسوب، بالحدس أو الفراسة ونحوهما مما يسمّى بالحاسّة السادسة فما فوقها، ممّا لا سبيل لمنطق العقل المجرّد إلى إدراكه أو حسبانه. بل إن هناك من ملكات الإدراك ما قد يتفوّق فيه الحيوان على الإنسان، بما في ذلك الكلاب، التي يحتقرها الإنسان، أو الحمير، التي يضربها مثلاً للغباء. ومن تلك القدرات ما قد لا توجد لدى الإنسان أصلاً؛ كحاسّة التنبؤ بقرب وقوع الزلازل. 

ونريد بهذا الخلوص إلى أن العقل نفسه ينبغي أن يُنظر إليه بعقلانيّة وواقعيّة، وإلاّ أدانا الاغترارُ بقدراته إلى اللا عقل. إن العقل البشري بذاته جهاز مراوغ إذن يجب الحذر من منزلقاته قبل أن نحكّمه في غيره. إلاّ أنّ هذا لا يهوّن من شأن العقل، فهو يظلّ أصدق مرشدٍ وأهدى من غيره سبيلاً، في إطار الممكنات البشريّة. يظلّ السراج في ظلمات الكون، وإن كانت هالات السراج قد تخيّل إلينا من تهاويل الأشباح والظِّلال ما لا نراه في الظلماء، فإنْ لم نتأمّل مليًّا زاد سراجُنا أعيننا عشًى وخادعتنا المرائي والأشكال وتاهت بنا الطرق. 

 ونحن في عصر تجاريٍّ، أصبح كلّ شيءٍ فيه تجارة، بما في ذلك العقل، والعواطف، والإنسان، والطفل والمرأة. كلّ شيء أصبح وسيلة ربحٍ ماديّ. وما تكسب به فالعب به! لنأخذ مثلاً على هذا المستنقع الثقافيّ التجاريّ المجنون، المربّي للاّعقل، ممّا راج أخيرًا، حول تلك اللعبة المصنوعة من جينات إنسانيّة وحيوانيّة، وتأكل وتشرب وتنمو وتبكي، وإذا جُرحت تـنـزف، بعضها يعيش لمدّة سنة وأخرى لمدة ثلاث سنوات، ولها ألوان مختلفة مشابهة للإنسان.. وقد منعتها الدول الخليجيّة لأن فيها تقليدًا لخلق الله. إلاّ أن هذا ليس إلاّ جانبًا واحدًا ممّا تحمله تلك اللعبة. كما أن هناك عشرات الألعاب في الأسواق الخليجيّة والعالميّة لا تقلّ سوءًا. وما أمامنا من تلك المنتجات المسوّقة للأطفال اليوم هو مسوخ لا ألعاب، سواء من حيث الشكل أو الكيفيّة. وعلى المستوى التربويّ، فإن مثل هذه الألعاب ستربّي في الطفل القُبح، وتربّي فيه التعامل بآليّة مطلقة مع المخلوقات الحيّة. إنّ فيها إذن اعتداءً صارخًا على الطبيعة وعلى الفطرة من وجهين: الأوّل تحبيب الطفل في القبيح شكلاً وسلوكًا. وإلاّ لماذا تكون لعبة طفل بذلك التشويه المقزّز؟ لقد كانت ألعاب الأطفال التقليديّة يُحرص فيها على تربية الحسّ الجماليّ في الطفل، وتحبيبه في الطبيعة والمخلوقات، فيما الألعاب الحديثة تحرص على تربية الحسّ القبحيّ في الطفل، بدءًا من أفلام الكرتون إلى أمثال تلك الألعاب المسخيّة، وصولاً إلى ألعاب العنف والقتل وسفك الدماء في ألعاب البلايستيشن ونحوها. وإن سوق هذه الألعاب الأخيرة في السعوديّة يقدّر بـ700 مليون ريال (186.6 مليون دولار)، كما جاء في تقرير في (جريدة "الشرق الأوسط"، عدد 10461، الجمعة 6 رجب 1428هـ= 20 يوليو 2007م، ص1)، وبعضها يقود في الغالب إلى الميل إلى العمليّات الانتحاريّة. فلا غرابة إذن أن تنشأ تلك اللغة المسلكيّة الجانحة إلى العنف لدى ناشئتنا، مكتسبةً من خلال مشاهداتهم التلفازيّة، أو ألعابهم الإلكترونيّة، بما تشكّله دواخلهم من عوالم أقوى من كل دروسنا ومناهجنا التربويّة؟ وتفصيل ذلك في مقال لي بعنوان "تربية العنف"، نشرته قبل أكثر من سنتين في "مجلة القافلة" (نوفمبر- ديسمبر، 2007، ص24- 25). انظر المقالة على رابط المجلّة:

http://www.saudiaramco.com/irj/go/km/docs/SaudiAramcoPublic/Publications/AR/AlQafilah/NovDec_2007/p12to25.pdf

 إن أطفالنا غارقون فيما لا يعلم الآباء، والأسواق تتاجر بعقولهم وضمائرهم. مع أن بعض تلك الألعاب ممنوعة حتى في بلدان تصنيعها. أم ترى يلزمنا أن نكون يساريين أو معادين لأمريكا لنرى صواب قول الرئيس الفنزويلي تشافيز- الذي تناقلته بعض وكالات الأنباء مؤخرًا-: إن ألعاب البلايستيشن سمٌّ، وإنها تعلّم الأطفال القتل، وإنها جزء من ثقافة رأسماليّة لزرع العنف وترويج بيع الأسلحة في العالم؟! 

 كما أن تلك الألعاب حَرِيَّة بأن تنمّي في الطفل الإحساس بأن الطبيعة مجرّد أشياء، حتى الكائنات الحيّة فيها، وأنها تعمل بطرائق آليّة. بل إن الحياة والموت والقتل والجسد والجروح والدماء وما إلى ذلك لا تعدو مجرد ألعاب، يعايش الطفل التعامل معها كتسليةٍ في صغره لينشأ على تبلّد الإحساس بها في كبره، ومن ثم سيتعامل مع الناس والأحياء كما كان يفعل مع ألعابه تلك. ومن ثم فلا غرابة أن ينشأ جيلٌ إرهابيّ، مشوّه، متوحّش، سفّاح، آليّ، بلا عواطف ولا فِكر ولا روح.

لذلك أعتقد أن هذه الألعاب- وبغض النظر عن التحفّظات الدينيّة عليها- بالغة التأثير سلبًا على سويّة الطفل العقليّة والنفسيّة والشخصيّة والاجتماعيّة. ولستُ أدري في أي إطارٍ عقليّ، معرفيّ أو تربويّ، يرى الآخرون خلاف ذلك. وقد كان ينبغي إنْ كانت لهم فلسفة أخرى مقنعة أن يقدّموها بين يدي ألعابهم. أمّا أن تُصبح التجارة سبيلاً ليصبح الأطفال أنفسهم ألعابًا في أيدي الشركات التجاريّة المنتجة لتلك الألعاب، فجريمة إنسانيّة عالميّة وإرهاب تربويّ وابتزاز ثقافي وكارثة حضاريّة.

 فضاءٌ آخر:

 أُحلـِّـقُ .. الفضاءُ خاتمي .. مرجانُ المعاني أصابعي ..
 لكلِّ أبــَــدٍ ، كتبتُ..، ولم .. أنكتبْ..
 أَهْطـَـلـْـتُ ما لن ينكتب ..
 نبتُّ قصيدةً انكسر الليلُ في حقولها فلم.. يعرف النهارُ طريقَ العودة..
 ...

من مجموعة الشاعرة غالية خوجة، بعنوان "الـملحمة الـمجنونة"، سلسلة: شعر الاختلاف، 2005، نص "حدوس غائمة". والمجموعة تجربةٌ جدّ مخضلّة بتحدّي الجمال المشعّث الجنون. تندرج في ما أسمّيه قصيدة "النَّثْرِيْلَة". وهي- كما عرّفتها في مقام آخر: قصيدة ذات أبنية إيقاعيّة، لكنها غير منضبطة على التفعيلة، ولا تخلو أيضًا من الاحتفاء بالتقفية. ومن ثَمَّ فهي لونٌ جديد، يقع بَيْن بَيْن، أي بَيْن قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة. وهي- في تقييمي- أحدث مولود تمخّض عنه الشكلان التفعيليّ والنثريّ، وأقرب ما ولّدته الحساسيّة النثريّة التجريبيّة الحديثة انتماءً إلى الشِّعريّة العربيّة. 


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى