الأربعاء ١٠ آذار (مارس) ٢٠١٠
بقلم فؤاد وجاني

وإذا سيفا النصر سُئلا بأيِّ ذنب كُسرا

نحن كالشجر له جذور، حين نقطع الرحم مع التأريخ حسنِه وسيئِه نذوي ونموت وكأننا ماكنا ولم نكن ولانكون ولن نكون، وأطراف الأنامل هذي لن تغير من الواقع المرير شيَّا، فسلطتها كامنة في دهر المعرفة والأحياء ولا سوط لها في زمن الجهل والانحطاط والأموات، لكنا نكتب من باب النهي عن اجتثاث التأريخ والناس والأمكنة والأزمنة، ومن باب الساكت عن الظلم إبليس أخرس، نكتب عرفانا منا لإسهامات السابقين وترحما على أرواحمهم أنما كانوا الآن وإلى حيثما شدوا الرحال، ونكتب من باب إكرام الكريم وتجنبا لصفات اللئيم، أما الأخماس في الأسداس فقد ضربناها ببعض منذ زمان بعيد، ومن حداد الدجى نسجنا لأرواحنا قميصا مُذْ سقطت بغداد، والعزاء تلقينا في حكوماتنا وشعوبنا وشواربهم، ورداء التفاؤل عن الحاضر والمستقبل نفضنا، وفضلنا العيش في قبور الماضي ننبشها عن الضوء بحثا.

ذلك القبس الوحيد المتسلل خلسة من التأريخ ماكان الجهال ليتركوه لنا نستلهم به أيام المجد لأنه يفزعهم ويخزي تقاعسهم ويفضح ذلهم، وماكانوا ليتركوا لأجيال مقبلة صورة عن الماضي المجيد، فهم كما أرادهم أسيادهم أذلاء لهم على إخوانهم أعزاء، لاسريرة تهنأ لهم ولا ينام ضميرلهم إلا أن يجعلوا من شعوبهم قطعان ماشية تجري وراء الماء والكلأ وليس لها في حظيْ الحضارة والكرامة من نصيب، وكأنما الدنيا عبثا خُلقت لاتدافع فيها ولا رسالة ولا إعلاء لكلمة، فمولد وحياة وميتة لاأثر بعدهم ولاهم يخلدون.

لم يدمروا قوس النصر اجتثاثا للبعث كما يفترون، بل قطعا لرمز من رموز التأريخ المعاصر، فليبنوا مكانه قوسا للهزيمة إن هم حقا يبتغون، لكنهم على الفعل لايجرؤون، ففي كليهما تحفيز للإرادة وشحذ للنفس ورفع للهمم ، وفيهما دروس وعبر لمن أراد منا أن يعتبر.

فرنسا احتفظت بقوس النصر بل استمر الملك لويس فيليب في بنائه حتى بعد ممات نابليون، وقوات هتلر النازية مشت تحته محتلة فرنسا لأربع سنوات ولم تفكر يوما في تدمير رمز الثورة الفرنسية، وقوس النصر ببوخاريست يشهد منتصبا على استقلال رومانيا بل تم تطويره بعد الحرب العالمية الأولى، وبوابة الهند شاهدة على التأريخ الامبريالي البريطاني وسط نيودلهي تذكر الشعب الهندي بحكم الملك البريطاني جورج الخامس، وطرابلس تحتفي بقوس الامبراطور الروماني ماركوس أوريليوس منذ القرن الثاني.

لم يكفهم قوس النصر بل دمروا سفينة البعث كأنهم يخشون عباب بحر قد يتفجر من تحتها فتمخره. وماذنب تمثال الأم؟ هل جسدت هي الأخرى مفاتن أنثوية أم أنها جاسوسة بعثية تبعث الأخبار الى القبور؟ ألا يعلمون أن الأرض مليئة بالنساء والأنوثة؟ فلن تحتاج نفس للتغزل بحجر، ولاحول ولاقوة للأموات حتى وإن سمعوا سوى الحسرات. ولماذا فجروا رأس أبي جعفر المنصور، هل كان بعثيا هو الآخر؟ أم لأنه شيد بغداد والرصافة، أم أن بيعته بالأنبار قبل ثلاثة عشر قرنا مازالت تدوخ القرون، ألم يجعل الدنيا تسافر الى بغداد لتنهل من ينابيع العلم يوم كانت أوروبا تلبس الكعب الخشبي العالي حتى لاتطأ أقدامهم الخراء المنتشر في الشوارع لعدم وجود قنوات الصرف الصحي، أم أنكم تجحدون. وماجرم نصب الاسير العراقي في ساحة المستنصرية وسط بغداد؟ أنسيتم صور نزع ذراعيه في السجون الإيرانية؟ آه يا أمة جاحدة، تتنكرون حتى لأسراكم. وإن اعتبروا نصب عروس الثورات في منطقة العلاوي في بغداد ثورة دم، فلمَ لمْ يبقوه إكراما لعبد الكريم قاسم؟ ألا يشهدون بأنه مؤسس الجمهورية العراقية وأنه ملأ بلاد النهرين حليبا وعسلا، لكن هل يستطيعون تغيير الثامن من شباط في التقويم الميلادي و الرابع عشر من رمضان في التقويم الهجري، أم أنهم سيغيرون ذينك التقويمين أيضا لنستعمل التقويم العبري بدلهما.

ولمَ لايشيدون صرحا للفرقة بدل تمثال اللقاء الذي جسد الوحدة الوطنية على مر العقود في منطقة المنصور الراقية. وهدموا تمثال الواثق بالله أحلم الخلفاء العباسيين وأصبرهم على الأذى وأعدلهم للناس حتى أنه لم يترك على الأرض سائلا. وسرقوا تمثال رمز المقاومة العراقية للاحتلال البريطاني عبد المحسن السعدون الشامخ ورئيس الوزراء في العشرينيات من القرن الماضي. وتقاعست حكومة الأربعين حرامي كيدا عن حماية تمثال كهرمانة من التفجير وكأنهم يخشون أنها يوما ستصب عليهم الزيت الحار. وستضيف رواية ألف ليلة وليلة لصفحاتها قصة الضرر الذي لحق بتمثالي شهريار وشهرزاد في شارع أبو نواس.

نحن مسؤولون جميعا أمام الله عما حدث للعراق من سرقة للمتاحف وتدمير للآثار، وإن كنتم لاتؤمنون بالله فأنتم مسؤولون أمام أنفسكم والتأريخ. بماذا ستستشهدون أمام أبنائكم؟ ماذا ستلقوننهم؟ ثقافة التدمير للنفس وللتراث. إنه عراقنا وعراقكم، دمنا ودمكم، ماضينا وماضيكم... هنيئا لكم ولأعداء الحضارة بغربتكم في العراق...أم العروبة والإسلام... أم أوطاننا...هنيئا لنا بالغربة في تأريخنا... لم تعثر بغلة واحدة هذه المرة بل كلنا عثرنا...لاسامحكم الله أبد الدهر...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى