الأحد ١٤ آذار (مارس) ٢٠١٠
بقلم نازك ضمرة

الشـــبح

بعد ان حملوا له الشعير على ظهر الأتان في القرية البعيدة، ربطوه جيداً بعد ظهر ذلك اليوم، بدا الحمار رشيقاً نشيطاً في مشيته، قال عزام يخاطب حماره، (ما حدا قدك يا عم)، من حقك أن تبرطع على كيفك، شو بهمك استرحت ليلة طويلة،والتهمت كمية كبيرة من الشعير وحملك اليوم اخف من رحلة الرواح، كان الكيس الذي خبرته في الذهاب يزن خمسين كيلوغراماً، بعنا عشرة كيلوغرامات، وأهدينا خمسة أخرى وأكلت ثلاثة كليوغرامات، وها صرت تحفظ طريق العودة جيداً، هيش! اش.ش.ش (يقطع اصحابك) ما اسرعك! هل تريدينني ان اجري وراءك يا حمارتي العزيزة؟!

تذكر ما قال له ابوه، قال له مراراً في الايام الاخيرة يحاول اقناعه وتطبيعه على قسوة الحياة، كما هي العادة في الريف: (لا توجد حياة بلا تعب يا ولدي!)

عمر عزام لا يتجاوز الثلاثة عشر عاماً، تذمر كثيراً من هذه الرحلة،حاول المماطلة والتأجيل والرفض، لكن هيهات، لقد صدر قرار والده، وقرارات والده أمر يجب أن ينفذ، لا أن يؤجل أو يلغى، لا يستطيع أن يغضب والده العجوز المقعد.

قبل الامس كان مع أفراد أسرته الثمانية، تجلس الأسرة كاملة حول باطية ثريد العدس، تناول عزام رأس بصل كبيرة،دقها بقبضة يده، ناولها لوالدته، وبدأت أمه توزع قطع البصل الجاف على من أراد من أفراد الأسرة، اما البنت التي تكبره فأخذت ربع بصلة، والبنتان الأخريان أخذتا ربعاً من رأس البصل أو أقل، طالب الوالد الأم لاضافة حبوب الزيتون المخلل لوجبة العشاء.

قال له والده معاتباً: هل تقبل ان ارسل شقيقتك الاكبر منك، أوأختين يرافقانك لثلثي الطريق؟

قالت امه: من هم في مثل سنك يتزوجون يا عزام!

غادر قريته بيت سيرا مبكراً، واستطاع أن يجتاز قرية صفا، قاطعاً ربع الطريق قبل التاسعة صباحاً، شجعته والدته على المغادرة مبكراً، عله يصل قرية دير بزيع قبل ان تتوسط الشمس السماء، ويصبح الجو حاراً. سار خلف أتانه بخطى قوية سريعة، كان يصحح مساره الى الدرب المطلوب بلطف دون استعمال عصاه الغليظة التي تحتضنها يده بقوة، والعصا الغليظة التي حملها كانت بناء على نصيحة والديه، ووافقهما الرجلان اللذان ساعدا في تحميل الكيس، أي لتكون العصا سلاحاً لديه ضد الكلاب والحيوانات الأخرى، أو ضد أي شخص يعترض طريقه.

قال عزام يحدث نفسه، إذا كانت يدي تعبت من حملها، فكيف لو وقعت عصاي هذه على رأس حيوان إو إنسان؟ لا شك انها ستحطمه! اما خنجري فهو الآخر جاهز لااستعماله إن لزم.

يحث دابته بين الحين والآخر على الاسراع بالمشي، يتجه بنظراته الى كل صوب كغزال بري، يدقق المواقع والاتجاهات خائفاً، يتفقد كيس الشعير على ظهر الحمار ، يراقب عيني حماره حتى لا يغريه الطعام البري في الطريق الوعرة فينشغل عن المسير.

يقول لحماره، أينا اقدر على المسير في الطرق الوعرة، أنا ام انت ؟ أتعرف يا حماري؟ لو كان لدينا امكانية وقبل ابي لاشتريت دراجة هوائية، لكنها لا تنفع في مثل هذه الطرق الوعرة ولا يصلح لها الا الحمير أمثالنا! اول شيء سأفعله بعد نجاحي بالثانوية سأحصل على الوظيفة بعدها سأبدأ التوفير لشراء سيارة. هل ساكبر يا حمارتي ويصير عندي سيارة يا ترى؟! يا رب حقق مطلبي!!

خلال الطريق الطويل فكر بكل شيء....فكر بالارض والسماء ،والزواج وبالاولاد،بالدراحة وبالدراسة وبالوظيفة ،وتذكر الكثير من احداث الماضي: ذهب يرعى الخراف الصغيرة في طفولته مع بنت الجيران، فجلسا يرتاحان، بعد ان تعبا من ملاحقة الخراف واللعب ، نعسا فنام كل منهما على ذراع الآخر لبعض الوقت، تفرقت الخراف الصغيرة، يومها عاقبه والده على اهماله بكلام مرّ، وحرمه من دخول الدار مبكراً ذاك المساء.

قطع عليه تفكيره حركة الفلاحين من قرية صفا، ومشاهدة العاملين في حقولهم والنسوة اللاتي يحملن الطعام الى الرجال، فتذكر وقتها أنه قطع ربع الطريق، ومنى نفسه بقرب الوصول إلى قرية دير بزيع، وهاهي الشمس تزحف صاعدة إلى منتصف السماء، يهز الحمار رأسه للأعلى والأسفل، تعب من سرعة المشي ومن الحمل الثقيل، وطول المسافة، لكنها دابة معلوفة جيداً وقوية.

لا تقلقي يا حماري العزيزة، ها نحن نقترب من المكان الذي نريد! سنبيع الحمولة باذن الله، وسأكون على ظهرك في طريق العودة بدلاً من الكيس، سيكون حملك اخف بالطبع!! لا تخافي ولا تقلقي سأطعمك شعيراً خالصاً في المساء!

احتملته المسافة ما يقارب الخمس ساعات، سلّم على صديق والده، واستراح حتى صلاة العصر، ثم خرج مع صاحب البيت إلى سوق القرية في ساحة مسجدها، نظر الكثيرون لشعيره، لكن حالهم الاقتصادية ليست جيدة، فباع بعد ظهر ذلك اليوم خمس كيلوغرامات فقط ، اضطر لقضاء تلك الليلة عند صديق والده، طبخوا له عدساً في تلك الأمسية، تذكر عزام أنه تناول طعام العدس ليلة الأمس في منزلهم، لكنه كان جائعاً، وليس أمامه خيار، باع خمسة كيلوغرامات اخرى، قرب صلاة ظهر اليوم التالي، واستبشر حين شاهد كبار السن و المتدينين يتقاطرون على المسجد لصلاة الظهر، فصلى معهم، أبو وحيد وهو صديق آخر لوالده دعاه لتناول الغداء عندهم. ففوجئ عزام أن طبيخهم كان عدساً في ذلك اليوم، لكنهم أضافوا الزيتون المحفوظ والبصل دون طلب منه، اصرّ عزام على الرحيل بعد الغداء، حيث اتفق مع والديه على ضرورة العودة في اليوم التالي، وكان قد قدم خمسة كيلوغرامات من الشعير لمضيفه الأول، وعشى حمارة ليلة الأمس بما يقارب الكيلوغرامين، ثم أطعمه كيلوغراماً واحداً قرب الظهر، اعاد ربط الكيس، وساعده الحاضرون وأبو وحيد في تحميل ما تبقى من الشعير في الكيس،

في طريق عودته تنبه للبيوت الأثرية المنحوتة في الصخورعلى جانبي الطريق الجبلي والوعر بين قرية دير بزيع وقرية صفا، يستغرب عزام كيف استطاع الإنسان القديم نحت تلك الصخور، ولها مداخل مستطيلة وكأنها أبواب بيوت عادية مقطوعة بمقاسات دقيقة. سمع الكثير من الحكايات عن تلك المنطقة، وتقع منتصف الطريق بين قريتين في الجبال الوعرة.

يخشى الناس المرور قربها قبل طلوع الشمس او قرب الغروب، ولا يسمع عزام أن أحداً سار في هذه الطرق الوعرة ليلاً. يقول عزام لنفسه (انني اخاف الكهوف وأنفر منها دائماً! فهي مسكن الجن والحيوانات المفترسة وارواح الذين انقرضوا او قتلوا بها، ترى اين تعيش تلك الجنيات التي تتسلل إلى جسد الرجل وعقله، فتحيه ويحبها ويظل هائما على وجهه مستمتعا بها وبصحبتها منعزلاً عن الناس؟!! حا حا يا أصيل، حا حا ياحمار يا ابن الحمار، علينا ان نسرع لنصل بيتنا قبل حلول الظلام.

اختلفت مشية الحمار في اسفل الجبل شديد الانحدار ،نفض الحمار رأسه مرات عدة، اراد التوقف، يضع عزام يده بتودد على مؤخرة حمارة، مثل يد عاشق على مؤخرة شعر حبيبته. استطاعا اجتياز وادي الملاقي، واجتاز قرية صفا، ثم وصلا إلى الوادي الضيق والسحيق بين قريتي صفا وبيت سيرا، قبل وصول الوادي اسرع الحمار بسبب الانحدار الشديد للطريق ثانية، ثم قطعا الوادي الذي جف ماؤه فمال الكيس عندما بدأ الحمار الصعود فتراخت الحبال، تعطلت قوائم الحمار عن المشي فوقع الكيس على الارض.

لم تغب الشمس بعد، لكنها اختفت وراء الجبل المرتفع.

 ماذا استطيع ان افعل؟ . . . سأحاول اعادة تحميل الكيس بأسرع ما يمكن، فهذا الوادي مشهور بانتشار الذئاب والضباع والأشباح.

جرّ الكيس الى مكان مرتفع. . . قرّب الحمار منه،علّه يتمكن من قلبه على ظهره، كرر المحاولة ثلاث مرات فلم ينجح عزام ابن الثلاثة عشر عاماً.

_عليّ ان افتح الكيس وانثر بعض ما فيه على الارض ليخف وزنه لكي اتمكن من رفعه على ظهر الحمار. ليتني حملت كيساً احتياطياً معي؟ . .... أألقي بالشعير على الأرض؟ .... هذا محال!!. . . . وهل انا مجنون؟؟!! . . . .أبعد كل هذه الرحلة الطويلة المتعبة انثر الحب والثروة على الارض!. . . . ليتني عرفت لكنت قد تركت نصفه عند دار ابي وحيد او لأعطيت مضيفي الأول كمية اكبر،بدلاً من نثره على الارض في الخلاء هاهنا.

يقف حائراً مفكراً بطريقة تجنبه تهكم والده.الوقت من ذهب ولا زال الظلام لم يخيم على الارض بعد! لا بد من قرار حاسم وسريع! فليس في الوقت متسع وبينه وبين الوصول لبيتهم مسير ساعة أو أكثر.

وقف بلا حراك يفكر لدقيقة أو اثنتين وانظاره القلقة تجوب الآفاق حوله علّه يشاهد مسافراً او مزارعاً، لكنه لم ير ولم يسمع حركة في ذاك المنحدر السحيق الضيق او على مرمى بصره.

_لا بد من تصرّف ما!! قال عزام

سأسحب الكيس مبتعداً به عن الطريق ،سأضعه قرب الجدار واضع فوقه الحجارة ثم اعود غداً ومعي شخص آخر لتحميله وتوصيله لمنزلنا.

بينما هو يسحب الكيس،غير مصدّق انه سيترك ثروته، اذ بشاب رشيق نحيف مكتمل الرجولة، واضح المعالم يقف امام عزام،يسأله بلطف وهدوء غريب

_ماذا تفعل ايها الشاب؟

فوجيء عزام بالموقف الخارق الذي يراه، كاد يفقد عقله في البداية وزادت نبضات قلبه، ثم جف ريقه والتجم لسانه لثوانٍ ، اختلط لديه الخوف بالسعادة لرؤية انسان ما في هذا المكان المقطوع عن البشر، فخرجت من فمه: أنت رجل لتساعدني، فضحك قائلاً وماذا تراني ولداً أم امرأة؟ اطمأنّ عزام انه رجل، نعم رجل كغيره من الرجال ، رغم انه لم يتأمل وجهه اما خوفاً او لتضاؤل النور في الوادي بين الجبلين.

اجاب عزام:وقع كيس الشعير عن ظهر الحمار ياعمّ، فلم استطع تحميله ثانية وها انا ابعده عن الطريق اخفيه عن اعين المارة للغد.

خاطبه بهدوء وبنبرة ثابتة وفي تودد، طلب منه ان يقّرب حماره.

بتردد وقلق قال لنفسه ،مااالذي أتى بهذا المخلوق ؟ صارت تراوده حكايات الجن والاشباح.

رفع الرجل الكيس بكلتا يديه،كأنه يحمل طفلاً صغيراً، حمله بسهولة ووضعه بلطف على ظهر الحمار ثم تعاونا على حزم الحبل لتثبيته.

_هل تحتاج الى مساعدة أخرى؟ تردد عزام بماذا يجيب، فشكره كثيراً، وتمنى في قرارة نفسه لو يقبل يديه كما يقبل يد والده، فسأله الرجل وهو يبتعد عنه، اوهل انت خائف؟ ازداد قلق عزام حين لمح أن الشمس اختفت وراء الجبل العالي، فلم يستطع إجابته، لكن مفردة خوف لم تعد تكفي للتعبير عن أحاسيس عزام في تلك اللحظات، نظر لأعلى الجبل الذي سيصعده هو وحماره وكيس الشعير، فقال لنفسه، وماذا لو مال الكيس ثانية أثناء الصعود، يبتعد الرجل ويشاهده عزام على بعد يقارب المائة متر، أجابه قائلاً

 كلا لست خائفاً. نهر عزام حماره كي يزيد من سرعة المشي، عله يقطع عقبة صعود الجبل الوعرة والرجل قريب حتى يطلب العون منه ثانية إن لزم، ويسمون تلك النقطة الخطرة بالصوانة، لكثرة حجارة الصوان فيها، فطن عزام أن يبحث عن الرجل، صاح يناديه نعم، نعم أنا خائف، خائف جداً، انتظرني يا عماه، انتظرني حتى أصعد هذا الجبل، لكن لم يبد للرجل أي أثر، إختفى الشبح، ، فقال له بصوت مرتفع شكراً!! شكراً مع السلامة، لعلّ أحداً يخاطبه، حاول عزام أن ينظر في كل اتجاه، ليشاهد الرجل الذي ساعده قبل ما يقارب الدقيقتين فلم يره، صار ينهر حماره ويستحثه، بل ويضربه بضربات خفيفة كي يزيد من سرعته للخروج من ذلك الوادي السحيق، إلى أعلى المرج المكشوف، صار يتحدث إلى حماره، هل شهدت ما شهدت ياحماري الأصيل؟ والفزع مسيطر على عزام متسائلاً في أعماقه:كيف وصل هذا الشخص؟ هل يصدق ما يقوله الناس ان هذا الوادي مليء بالاشباح؟ لكنه بدا انه كان رجلاً طبيعاً أليس كذلك يا صديقي الحمار الأنيس،هز الحمار رأسه بعنف وهو يصعد الجبل، كأنما هو الآخر فهم بعض ما حدث فأسرع صاعداً الطريق الوعرة، يقفز عزام بخفة وراءه ممسكاً الكيس متفحصاً، حتى لا يميل او يقع مرة اخرى، يربت عزام على رقبة حماره قائلاً:

 سر ولا تقلق يا رفيقي وانيسي! لكنني أرجوك ان تسرع يا حماري العزيز لنصل قبل اشتداد الظلام. عينا عزام ظلتا تبحثان عن الرجل الشبح،من كل اتجاه، فلم يرَ مخلوقاً، وظل يتساءل طول الطريق: اين اختفى الرجل الشبح بهذه السرعة؟!! بل من اين جاء..؟!

يرى عزام قريته تقترب منه، يحسّ بتعب في ساقيه، لكنه تشبث جيداً بحبل التربيط حتى لا يتركه الحمار وحيداً... 1978

نازك ضمرة

بعد ان حملوا له الشعير على ظهر الأتان في القرية البعيدة، ربطوه جيداً بعد ظهر ذلك اليوم، بدا الحمار رشيقاً نشيطاً في مشيته، قال عزام يخاطب حماره، (ما حدا قدك يا عم)، من حقك أن تبرطع على كيفك، شو بهمك استرحت ليلة طويلة،والتهمت كمية كبيرة من الشعير وحملك اليوم اخف من رحلة الرواح، كان الكيس الذي خبرته في الذهاب يزن خمسين كيلوغراماً، بعنا عشرة كيلوغرامات، وأهدينا خمسة أخرى وأكلت ثلاثة كليوغرامات، وها صرت تحفظ طريق العودة جيداً، هيش ! اش.ش.ش (يقطع اصحابك) ما اسرعك! هل تريدينني ان اجري وراءك يا حمارتي العزيزة؟!

تذكر ما قال له ابوه، قال له مراراً في الايام الاخيرة يحاول اقناعه وتطبيعه على قسوة الحياة، كما هي العادة في الريف: (لا توجد حياة بلا تعب يا ولدي!)

عمر عزام لا يتجاوز الثلاثة عشر عاماً، تذمر كثيراً من هذه الرحلة،حاول المماطلة والتأجيل والرفض، لكن هيهات، لقد صدر قرار والده، وقرارات والده أمر يجب أن ينفذ، لا أن يؤجل أو يلغى، لا يستطيع أن يغضب والده العجوز المقعد.

قبل الامس كان مع أفراد أسرته الثمانية، تجلس الأسرة كاملة حول باطية ثريد العدس، تناول عزام رأس بصل كبيرة،دقها بقبضة يده، ناولها لوالدته، وبدأت أمه توزع قطع البصل الجاف على من أراد من أفراد الأسرة، اما البنت التي تكبره فأخذت ربع بصلة، والبنتان الأخريان أخذتا ربعاً من رأس البصل أو أقل، طالب الوالد الأم لاضافة حبوب الزيتون المخلل لوجبة العشاء.

قال له والده معاتباً: هل تقبل ان ارسل شقيقتك الاكبر منك، أوأختين يرافقانك لثلثي الطريق؟

قالت امه: من هم في مثل سنك يتزوجون يا عزام!

غادر قريته بيت سيرا مبكراً، واستطاع أن يجتاز قرية صفا، قاطعاً ربع الطريق قبل التاسعة صباحاً، شجعته والدته على المغادرة مبكراً، عله يصل قرية دير بزيع قبل ان تتوسط الشمس السماء، ويصبح الجو حاراً. سار خلف أتانه بخطى قوية سريعة، كان يصحح مساره الى الدرب المطلوب بلطف دون استعمال عصاه الغليظة التي تحتضنها يده بقوة، والعصا الغليظة التي حملها كانت بناء على نصيحة والديه، ووافقهما الرجلان اللذان ساعدا في تحميل الكيس، أي لتكون العصا سلاحاً لديه ضد الكلاب والحيوانات الأخرى، أو ضد أي شخص يعترض طريقه.

قال عزام يحدث نفسه، إذا كانت يدي تعبت من حملها، فكيف لو وقعت عصاي هذه على رأس حيوان إو إنسان؟ لا شك انها ستحطمه! اما خنجري فهو الآخر جاهز لااستعماله إن لزم.

يحث دابته بين الحين والآخر على الاسراع بالمشي، يتجه بنظراته الى كل صوب كغزال بري، يدقق المواقع والاتجاهات خائفاً، يتفقد كيس الشعير على ظهر الحمار ، يراقب عيني حماره حتى لا يغريه الطعام البري في الطريق الوعرة فينشغل عن المسير.

يقول لحماره، أينا اقدر على المسير في الطرق الوعرة، أنا ام انت ؟ أتعرف يا حماري؟ لو كان لدينا امكانية وقبل ابي لاشتريت دراجة هوائية، لكنها لا تنفع في مثل هذه الطرق الوعرة ولا يصلح لها الا الحمير أمثالنا! اول شيء سأفعله بعد نجاحي بالثانوية سأحصل على الوظيفة بعدها سأبدأ التوفير لشراء سيارة. هل ساكبر يا حمارتي ويصير عندي سيارة يا ترى؟! يا رب حقق مطلبي!!

خلال الطريق الطويل فكر بكل شيء....فكر بالارض والسماء ،والزواج وبالاولاد،بالدراحة وبالدراسة وبالوظيفة ،وتذكر الكثير من احداث الماضي: ذهب يرعى الخراف الصغيرة في طفولته مع بنت الجيران، فجلسا يرتاحان، بعد ان تعبا من ملاحقة الخراف واللعب ، نعسا فنام كل منهما على ذراع الآخر لبعض الوقت، تفرقت الخراف الصغيرة، يومها عاقبه والده على اهماله بكلام مرّ، وحرمه من دخول الدار مبكراً ذاك المساء.

قطع عليه تفكيره حركة الفلاحين من قرية صفا، ومشاهدة العاملين في حقولهم والنسوة اللاتي يحملن الطعام الى الرجال، فتذكر وقتها أنه قطع ربع الطريق، ومنى نفسه بقرب الوصول إلى قرية دير بزيع، وهاهي الشمس تزحف صاعدة إلى منتصف السماء، يهز الحمار رأسه للأعلى والأسفل، تعب من سرعة المشي ومن الحمل الثقيل، وطول المسافة، لكنها دابة معلوفة جيداً وقوية.

لا تقلقي يا حماري العزيزة، ها نحن نقترب من المكان الذي نريد! سنبيع الحمولة باذن الله، وسأكون على ظهرك في طريق العودة بدلاً من الكيس، سيكون حملك اخف بالطبع!! لا تخافي ولا تقلقي سأطعمك شعيراً خالصاً في المساء!

احتملته المسافة ما يقارب الخمس ساعات، سلّم على صديق والده، واستراح حتى صلاة العصر، ثم خرج مع صاحب البيت إلى سوق القرية في ساحة مسجدها، نظر الكثيرون لشعيره، لكن حالهم الاقتصادية ليست جيدة، فباع بعد ظهر ذلك اليوم خمس كيلوغرامات فقط ، اضطر لقضاء تلك الليلة عند صديق والده، طبخوا له عدساً في تلك الأمسية، تذكر عزام أنه تناول طعام العدس ليلة الأمس في منزلهم، لكنه كان جائعاً، وليس أمامه خيار، باع خمسة كيلوغرامات اخرى، قرب صلاة ظهر اليوم التالي، واستبشر حين شاهد كبار السن و المتدينين يتقاطرون على المسجد لصلاة الظهر، فصلى معهم، أبو وحيد وهو صديق آخر لوالده دعاه لتناول الغداء عندهم. ففوجئ عزام أن طبيخهم كان عدساً في ذلك اليوم، لكنهم أضافوا الزيتون المحفوظ والبصل دون طلب منه، اصرّ عزام على الرحيل بعد الغداء، حيث اتفق مع والديه على ضرورة العودة في اليوم التالي، وكان قد قدم خمسة كيلوغرامات من الشعير لمضيفه الأول، وعشى حمارة ليلة الأمس بما يقارب الكيلوغرامين، ثم أطعمه كيلوغراماً واحداً قرب الظهر، اعاد ربط الكيس، وساعده الحاضرون وأبو وحيد في تحميل ما تبقى من الشعير في الكيس،

في طريق عودته تنبه للبيوت الأثرية المنحوتة في الصخورعلى جانبي الطريق الجبلي والوعر بين قرية دير بزيع وقرية صفا، يستغرب عزام كيف استطاع الإنسان القديم نحت تلك الصخور، ولها مداخل مستطيلة وكأنها أبواب بيوت عادية مقطوعة بمقاسات دقيقة. سمع الكثير من الحكايات عن تلك المنطقة، وتقع منتصف الطريق بين قريتين في الجبال الوعرة.

يخشى الناس المرور قربها قبل طلوع الشمس او قرب الغروب، ولا يسمع عزام أن أحداً سار في هذه الطرق الوعرة ليلاً. يقول عزام لنفسه (انني اخاف الكهوف وأنفر منها دائماً! فهي مسكن الجن والحيوانات المفترسة وارواح الذين انقرضوا او قتلوا بها، ترى اين تعيش تلك الجنيات التي تتسلل إلى جسد الرجل وعقله، فتحيه ويحبها ويظل هائما على وجهه مستمتعا بها وبصحبتها منعزلاً عن الناس؟!! حا حا يا أصيل، حا حا ياحمار يا ابن الحمار، علينا ان نسرع لنصل بيتنا قبل حلول الظلام.

اختلفت مشية الحمار في اسفل الجبل شديد الانحدار ،نفض الحمار رأسه مرات عدة ، اراد التوقف، يضع عزام يده بتودد على مؤخرة حمارة، مثل يد عاشق على مؤخرة شعر حبيبته. استطاعا اجتياز وادي الملاقي، واجتاز قرية صفا، ثم وصلا إلى الوادي الضيق والسحيق بين قريتي صفا وبيت سيرا، قبل وصول الوادي اسرع الحمار بسبب الانحدار الشديد للطريق ثانية، ثم قطعا الوادي الذي جف ماؤه فمال الكيس عندما بدأ الحمار الصعود فتراخت الحبال ، تعطلت قوائم الحمار عن المشي فوقع الكيس على الارض.

لم تغب الشمس بعد، لكنها اختفت وراء الجبل المرتفع.

 ماذا استطيع ان افعل؟ . . . سأحاول اعادة تحميل الكيس بأسرع ما يمكن، فهذا الوادي مشهور بانتشار الذئاب والضباع والأشباح.

جرّ الكيس الى مكان مرتفع. . . قرّب الحمار منه،علّه يتمكن من قلبه على ظهره، كرر المحاولة ثلاث مرات فلم ينجح عزام ابن الثلاثة عشر عاماً.

_عليّ ان افتح الكيس وانثر بعض ما فيه على الارض ليخف وزنه لكي اتمكن من رفعه على ظهر الحمار. ليتني حملت كيساً احتياطياً معي؟ . .... أألقي بالشعير على الأرض؟ .... هذا محال!!. . . . وهل انا مجنون؟؟!! . . . .أبعد كل هذه الرحلة الطويلة المتعبة انثر الحب والثروة على الارض!. . . . ليتني عرفت لكنت قد تركت نصفه عند دار ابي وحيد او لأعطيت مضيفي الأول كمية اكبر،بدلاً من نثره على الارض في الخلاء هاهنا.

يقف حائراً مفكراً بطريقة تجنبه تهكم والده.الوقت من ذهب ولا زال الظلام لم يخيم على الارض بعد! لا بد من قرار حاسم وسريع! فليس في الوقت متسع وبينه وبين الوصول لبيتهم مسير ساعة أو أكثر.

وقف بلا حراك يفكر لدقيقة أو اثنتين وانظاره القلقة تجوب الآفاق حوله علّه يشاهد مسافراً او مزارعاً، لكنه لم ير ولم يسمع حركة في ذاك المنحدر السحيق الضيق او على مرمى بصره.

_لا بد من تصرّف ما!! قال عزام

سأسحب الكيس مبتعداً به عن الطريق ،سأضعه قرب الجدار واضع فوقه الحجارة ثم اعود غداً ومعي شخص آخر لتحميله وتوصيله لمنزلنا.

بينما هو يسحب الكيس،غير مصدّق انه سيترك ثروته، اذ بشاب رشيق نحيف مكتمل الرجولة، واضح المعالم يقف امام عزام،يسأله بلطف وهدوء غريب

_ماذا تفعل ايها الشاب؟

فوجيء عزام بالموقف الخارق الذي يراه، كاد يفقد عقله في البداية وزادت نبضات قلبه، ثم جف ريقه والتجم لسانه لثوانٍ ، اختلط لديه الخوف بالسعادة لرؤية انسان ما في هذا المكان المقطوع عن البشر، فخرجت من فمه: أنت رجل لتساعدني، فضحك قائلاً وماذا تراني ولداً أم امرأة؟ اطمأنّ عزام انه رجل، نعم رجل كغيره من الرجال ، رغم انه لم يتأمل وجهه اما خوفاً او لتضاؤل النور في الوادي بين الجبلين.

اجاب عزام:وقع كيس الشعير عن ظهر الحمار ياعمّ، فلم استطع تحميله ثانية وها انا ابعده عن الطريق اخفيه عن اعين المارة للغد.

خاطبه بهدوء وبنبرة ثابتة وفي تودد، طلب منه ان يقّرب حماره.

بتردد وقلق قال لنفسه ،مااالذي أتى بهذا المخلوق ؟ صارت تراوده حكايات الجن والاشباح.

رفع الرجل الكيس بكلتا يديه،كأنه يحمل طفلاً صغيراً، حمله بسهولة ووضعه بلطف على ظهر الحمار ثم تعاونا على حزم الحبل لتثبيته.

_هل تحتاج الى مساعدة أخرى؟ تردد عزام بماذا يجيب، فشكره كثيراً، وتمنى في قرارة نفسه لو يقبل يديه كما يقبل يد والده، فسأله الرجل وهو يبتعد عنه، اوهل انت خائف؟ ازداد قلق عزام حين لمح أن الشمس اختفت وراء الجبل العالي، فلم يستطع إجابته، لكن مفردة خوف لم تعد تكفي للتعبير عن أحاسيس عزام في تلك اللحظات، نظر لأعلى الجبل الذي سيصعده هو وحماره وكيس الشعير، فقال لنفسه، وماذا لو مال الكيس ثانية أثناء الصعود، يبتعد الرجل ويشاهده عزام على بعد يقارب المائة متر، أجابه قائلاً

 كلا لست خائفاً. نهر عزام حماره كي يزيد من سرعة المشي، عله يقطع عقبة صعود الجبل الوعرة والرجل قريب حتى يطلب العون منه ثانية إن لزم، ويسمون تلك النقطة الخطرة بالصوانة، لكثرة حجارة الصوان فيها، فطن عزام أن يبحث عن الرجل، صاح يناديه نعم، نعم أنا خائف، خائف جداً، انتظرني يا عماه، انتظرني حتى أصعد هذا الجبل، لكن لم يبد للرجل أي أثر، إختفى الشبح، ، فقال له بصوت مرتفع شكراً!! شكراً مع السلامة، لعلّ أحداً يخاطبه، حاول عزام أن ينظر في كل اتجاه، ليشاهد الرجل الذي ساعده قبل ما يقارب الدقيقتين فلم يره، صار ينهر حماره ويستحثه، بل ويضربه بضربات خفيفة كي يزيد من سرعته للخروج من ذلك الوادي السحيق، إلى أعلى المرج المكشوف، صار يتحدث إلى حماره، هل شهدت ما شهدت ياحماري الأصيل؟ والفزع مسيطر على عزام متسائلاً في أعماقه:كيف وصل هذا الشخص؟ هل يصدق ما يقوله الناس ان هذا الوادي مليء بالاشباح؟ لكنه بدا انه كان رجلاً طبيعاً أليس كذلك يا صديقي الحمار الأنيس،هز الحمار رأسه بعنف وهو يصعد الجبل، كأنما هو الآخر فهم بعض ما حدث فأسرع صاعداً الطريق الوعرة، يقفز عزام بخفة وراءه ممسكاً الكيس متفحصاً، حتى لا يميل او يقع مرة اخرى، يربت عزام على رقبة حماره قائلاً:

 سر ولا تقلق يا رفيقي وانيسي! لكنني أرجوك ان تسرع يا حماري العزيز لنصل قبل اشتداد الظلام. عينا عزام ظلتا تبحثان عن الرجل الشبح،من كل اتجاه، فلم يرَ مخلوقاً، وظل يتساءل طول الطريق: اين اختفى الرجل الشبح بهذه السرعة؟!! بل من اين جاء..؟!

يرى عزام قريته تقترب منه، يحسّ بتعب في ساقيه، لكنه تشبث جيداً بحبل التربيط حتى لا يتركه الحمار وحيداً...
1978


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى