الأربعاء ١٧ آذار (مارس) ٢٠١٠
بقلم زهير الخراز

حكاية نورس رحالة

ليس بعالم أحياء ولا هو بمتاجر في الطيور الموسمية، وإنما هو عاشق ابتلي بعشق زرقة السماء وأهل السماء .. لا يتبرم من وضعه المتخشب حتى وإن ظلت عيناه معلقتين بالأفق ساعات طوال.

كان في هذه اللحظة كعادته، حواسه بمجملها متجهة نحو السماء .. لكن لا زعيق .. لا هديل .. و لا رفيف أجنحة .. أدنى شيء يذكره بطائر أمس من ريش أو أثر على الرمال يبتلعه المد ليتركه في حسرة وحزن مرير ..

فهذا ما يحدث في شهر .. في يوم من كل سنة .. فحينما تغيب السماء وراء حجب سوداء وتفيض عبرة، يعربد البحر فيلقن الأحياء درسا نابيا في قالب سوقي، حينها تجفل الطيور وتقرر الرحيل إلى الضفة الأخرى علها تجد الأمان .

ففي مثل هذا اليوم من كل سنة تخلو عينا " صاحبنا " من الريش وطوق الحمام فتمتلئ سحبا في لون الليل، وتصفو أذناه من إيقاع الأجنحة وتغاريد العندليب ليمللأها ضجيج الرعد وجبروت الموج الأخرق، ومن ثم تبدأ رحلته الثانية .. رحلة انتظار مهاجر ذهب ولم يعد ...

قيل له يوما:
للبحر وجهان ..وجه ازداد عند الصقيع .. والآخر ازداد في شهر آب .. فاحذر الوجه الصقيعي فهو لا يفرق بين طفل أو عجوز .. رجل أو امرأة ..

فأصم أذنيه وقال:

قد أصدقكم لو أنكم عنيتم بقولكم هذا، بحر المهجر .. أما بحر بلدتي فلا .
ثم قيل له:

وما بال طيور هجرت البلدة عند أول الصقيع ؟!؟!

فنطق «صاحبنا» وعيناه تغتسلان في زرقة البحر:

اسألوا البحر .. قد يجيبكم.

ولما يئسوا من جواب يشفي من حرقة الأسئلة سخروا منه واتهموه بتواطئه مع شياطين البحر ..

لكن نورسا مرق في الأفق فشاهدهم على ما هم عليه، فأصر أن يكون شاهد إثبات .. فصاح في الجماعة:

أنا سأحكي لكم، فقد شاهدت الأحداث كاملة .. ثم حكى لهم عن غلام فقير يفتقد إلى جواز وتأشيرة مرور .. يئس بعد انتظار طويل .. فشق عباب البحر على قارب صغير .. وفي رأسه تسكن أحلام .. ضفة خضراء. أناس طيبون .. ومال وفير، فتعترض سبيله زوبعة وأمواج بطول الجبال .. فيموت في عرض البحر ..
أردف «صاحبنا»:

بدون شك مات المسكين بعد اجتيازه لحدود بلدته، اغتاله بحر المهجر.
فدمدمت الجماعة:

لا. لم يجتز الحدود – اغتاله بحر بلدته ..
ولما أصروا على جدال عقيم صرخ النورس قائلا:

لم الجدال؟! .. لنقل اعتاله البحر .. وكفى

أخذت عيناه تمسحان السماء والأفق من جديد .. فثمة نوارس في بقعة من هذا العالم تشهد مآسي أبناء البلدة عن كثب .. و«صاحبنا» يستشعر تلك المفارقة، وذلك البعد الخارج عن نطاق البصر والإرادة بنوع من الحزن الغامض فأصر متحدثا إلى نفسه:

حتما سيعودون .. فحضن بلدتهم أوسع بكثير مما يتصورون.

فتناهى إلى مسامعه رفيف جناحين أظناهما التعب عبر رحلة شاقة .. وقبل أن ترتسم الدهشة على وجهه، يحط نورس رحالة على كتفه الأيمن، فيحتضنه بفرح جنوني ثم يهمس في أذنيه:

حسنا، أراك متعبا الآن .. فخذ راحتك، ولنؤجل حديثنا إلى الغد .. قطعا لك ما تقول .. فقد شاهدت أحداثا كثيرة ..
ألست صائبا في ما أقوله؟؟؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى