الثلاثاء ٦ نيسان (أبريل) ٢٠١٠
قراءة في رواية لم تكتب بعد لفرجينيا وولف
بقلم محمد سمير عبد السلام

الخطيئة وصيرورة الحياة

في نصها الروائي «رواية لم تكتب بعد» – ترجمة فاطمة ناعوت – الصادر عن هيئة الكتاب بالقاهرة 2009، تطرح فرجينيا وولف سؤالين كبيرين عن مدلولي الوعي، و الصيرورة السردية في علاقتها بالتأويل.

إن فرجينيا تخترق – عن طريق الساردة – وعي البطلة / ميني مارش . و لكننا لا نقرأ حكيا عن ميني مارش نفسها، و إنما مجموعة من التداخلات الشعرية بين فرجينيا، و الساردة، و ميني مارش دون مركز معرفي تبدأ منه الكتابة الروائية، إلا التجلي الإبداعي لدال ميني في القطار.

ثمة إيماءات في وجه البطلة، و تأملاتها تندمج بتوقعات الساردة، و رغبتها الملحة في تأويل الكينونة، و من ثم يخرج لنا النص كشذرات تأويلية عن الساردة، و ميني، و فرجينيا، و الكينونة الإنسانية نفسها في علاقتها المعقدة بالخطيئة الأولى، و التجلي الظاهري للحياة في شكولها الخاصة، و الفريدة.

إن الوعي عند فرجينيا مجال تتصارع فيه أخيلة الأنا، و الآخر؛ ليتجدد سؤال الكينونة دون نهاية . و في المساحة الفارغة بين أولية الأنا، و الآخر، و أرق المعرفة، تتجلى الكتابة التأويلية السردية كقراءة متغيرة عن الذات، أو كتمثيل إبداعي يؤكد التغير، و اللامركزية في بنيتها.

هل أرادت فرجينيا – حقا – معرفة ميني مارش ؟ أم أنها أرادت بناءها من خلال المساحة المفككة في الوعي الإنساني، و التي يلتبس فيها الأنا بالآخر؟

إن الوعي هنا يمنح الخصوصية للبطلة، و لكنه يترك فراغا تمثيليا فيما وراءها، و كأنه يعارض الوجود المطلق، و العدم المطلق في تلك اللغة الاحتمالية التي تبحث عن المعرفة، ثم بطريقة غير واعية تقصيها عن المشهد.

و قد استبدلت الأبحاث التأويلية المعاصرة مركزية الوعي بالتأويلات المفتوحة، و إنتاجيتها الللغوية بالغة النسبية، كما اختلطت فيها وظائف المبدع، و المفسر، و القارئ دون حدود بنيوية، أو خصوصية مستقلة عن الآخر.

يبدو هذا التصور واضحا في نتاج بول ريكور، و تجاوزه للظاهراتية التقليدية؛ إذ يرى أن كل تأويل يضع المفسر في الوسط، و ليس في البداية، أو النهاية أبدا، كما أنه إجراء مفتوح خارج أية رؤية؛ كما يؤكد أن سؤال الكينونة عند هيدجر يخضع أيضا للشك؛ إذ يتجه التأويل الآن من نقد الموضوع إلى نقد الذات المتكلمة نفسها. (راجع – بول ريكور – من النص إلى الفعل – ترجمة محمد برادة و حسان بورقية – عين للدراسات للنشر مع المركز الفرنسي بالقاهرة – 2001 – ص 38 و 39).

هكذا اتخذت الساردة – في نص فرجينيا – موقع المفسر المنتج لكتابة إبداعية؛ هي بحد ذاتها تأويل مفتوح للشخصية الروائية؛ و من ثم جاء السرد كإجابة بين الامتلاء، و الفراغ عن هذا الوجود المحتمل للإنسان في العالم، و كذلك كتعريف للحياة يحتفي بالنقص الكامن فيها من أثر الخطيئة الأولى.

* سؤال الوجود

في اللحظة التي تتوقع فيها الساردة أنها بدأت في القبض علي ميني، نجد سؤال الوجود يتجدد في الشك، و التجلي الإبداعي الآخر للبطلة في الوعي، و كأن الساردة ستوشك أن تستأنف نشاطها السردي / التأويلي دون نهاية عن البطلة .

تقول:

«ما الذي أتكئ عليه ؟ ما الذي أعرفه ؟ تلك ليست ميني، لم يكن هناك موجريج على الإطلاق . من أنا ؟ الحياة عارية مثل قطعة عظام ... أيتها الكائنات الغامضة غير المعلومة، أنتم من أتعبد فيهم» .

الذات عند فرجينيا مزيج من التجلي الإبداعي للوجود الفردي، و النقص المعرفي معا؛ فلا وجود لأحدهما دون الآخر؛ لأنها انتقلت من السؤال عن البطلة، إلى سؤال الكينونة «من أنا»، و كأنها ترفض تقديم المعرفة عن الذات التاريخية ابتداء، و إنما تكتب نصا يقع بين دائرية الغموض المجازي للحياة، و الرغبة في منحها تأويلات متغيرة لانهائية.

إن كتابة فرجينيا تقع ضمن تطوير مدلول الذات في الفكر الحداثي، و بخاصة في تيار الوعي، و ما يحتمله من تساؤلات عن العلاقة المعقدة بين الهوية، و تداعيات الذكريات، و الأحلام غير المحكومة برابط، و أرى أن فرجينيا طورت بوعي – هنا - مدلول الذات في حتمية لقائها بالآخر، و التأويل السردي المفتوح.

* الخطيئة، و صيرورة الحياة

تحول فرجينيا الميراث الديني للخطيئة إلى قراءة مبدعة لوهج الحياة، و صيرورتها التي قد تكون تكرارا لعقدة الذنب، و الموت دون نهاية حاسمة، أو بداية واضحة؛ فنحن إزاء دائرة من بزوغ الجسد، و ديناميكيته، و تبلور الخطيئة فيه كبقعة تمثيلية للعدم، و امتداده الذي يشبه تطور الحياة نفسها، و غموضها الإبداعي.

تقول بعدما لاحظت علامات الحزن على وجه ميني، و تجاوزت أي منطق للعار:

«كانت تحك كأنما لتمحو شيئا من الوجود، و إلى الأبد، وصمة ما، تلوثا لا ينمحي ... شيء ما دفعني أن أخرج قفازي و أشرع في حك نافذتي، كانت هناك بقعة صغيرة على الزجاج أيضا ... ثمة بقعة في الجلد بين الكتفين بدأت تلتهب و تستحكني، أشعر بها فجة . هل يمكنني الوصول إليها ؟».

ما البقعة ؟

إنها تشبيه للخطيئة، أو هي الصيرورة المجازية للخطيئة، و التي تسخر من مركزيتها المطلقة، فهي تشبه الحياة، و تكوين البطلة، وهي أيضا دائرية، تقع في قلب الوجود، و لا يمكن محوها طالما وجدت الكينونة.

الحياة هي العار.

الحياة دائرية كالعار في وعي فرجينيا، و هي وهج العار المضاد لمركزية العار، أو العدم، أو التجريد الكامل للخطيئة.

البقعة المظلمة تمر من الجسد إلى الوعي، و من الحياة إلى تجدد الوجود الإبداعي / التأويلي؛ فهي تبقى في سياق المحو، مثلما تبقى الشخصية الروائية في سرد احتمالي مؤجل للحقيقة، و المعرفة.

* وفرة الشخصية

ثمة وفرة جمالية تبدأ من التكوين الفريد للشخصية، و تمتد في التطور الجمالي للكون دون نهاية.

و تحاول فرجينيا أن تقبض على بعض آثار هذه الوفرة، أو معاينتها فيما وراء المتكلم، و الموضوع معا.

إن الوجه يشرع في تحديد الهوية، و تغييبها في تكرار الظهور نفسه في أشكال استعارية مختلفة.

تقول عن الوجه:

«كيف يمكن أن نسمي هذا الشيء؟ ثمة انكسار، انقسام، لكنك حين تقبض على ساق النبتة إذا بالفراشة تختفي، الفراشة التي تتشبث في المساء بأعلى الزهرة الصفراء .. ارتجفي يا حياة .. ميني .. أنا أيضا فوق زهرتي».

الساردة تقرأ الجذور العميقة لعملية التجسد في غموضها، و تكرارها الذي يحاكي الاستبدال في الكتابة؛ فهناك أصول للهوية في الفراغ الكوني، و امتلائه الذي يهدم أية حدود يمكن وضعها للهوية، و الجسد، و الصوت، و العنصر الكوني.

إنه تعين هوائي للجمال.

* تفكيك المتكلم

للمتكلم أيضا تأويل استعاري يحاول استبداله، و الامتداد به فيما وراء الصوت، و الهوية، و الإدراك.

لقد انقلب سؤال الكينونة في وعي، و لا وعي فرجينيا – بصورة دائرية – من الموضوع / ميني إلى صوت الساردة نفسها؛ إذ تبحث في وهج الوجود الداخلي عن بديل للهوية لا يتسم بالمركزية، أو الإدراك الأول للعالم، و إنما هو أثر متغير، مثل إنتاجيته التفسيرية للأنا، و الآخر.

تقول:

«غير أن النفس حين تتحدث إلى النفس من يكون المتكلم ؟ الروح المدفونة، النفس التي أقصيت، و أزيحت عميقا ... في عمق السرداب المركزي لكهوف الموتى ... التي اعتمرت الوشاح الحاجب، و تركت العالم ».

إنها تبحث عن الصوت في انشطاره، و تأويلاته المختلفة . الصوت هنا بديل لمدلول غائب، أو سؤال دائري عن ماهيته الشعرية.

الصوت مجاز التكوين، و الموت، و الحياة معا . الصوت هو الأنا الآخر، و الإحساس المشبع بالوهج المبدع للحياة.

لم يكن هناك هوية أولى أبدا، و كأن الحياة نبعت من تطور للموت يشبه الكتابة، و الخطيئة، و المحاولات المتكررة لاستنبات ما يسمى بالشخصية الروائية في سياق جديد.

* فاطمة ناعوت، و فرجينا

لقد انتصرت المخيلة الإبداعية عند فرجينيا وولف في وعي، و لا وعي فاطمة ناعوت؛ إذ تلتقي مع مشروع فاطمة الشعري، و رؤيتها للخصوصية الإبداعية للمرأة؛ و لهذا أكدت في تقديمها للترجمة على فاعلية المخيلة، و قدرتها الإنتاجية في النص.

و في تناولها لمأساة فرجينيا، و انتحارها ارتكزت على التواتر الحتمي للأطياف، و كأن شاعرية الوجود عند وولف تستعاد في سيرتها الذاتية، كأنما نتلقى نصا سرديا آخر، أو نعاين وجودا آخر لها.

و أظن أن فاطمة ناعوت قد عاينت وجودا مجازيا آخر لفرجينيا من خلال نصوصها، و بخاصة رواية لم تكتب؛ هذا الوجود ينقلنا إلى دائرة تأويلية جديدة أو مستوى آخر من الوجود المتعدد لفرجينيا، و شخوصها، و للإنسان في بحثه المستمر عن المدلول الجمالي للعالم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى