الخميس ٨ نيسان (أبريل) ٢٠١٠
بقلم زهير الخراز

مجنون البحر

 شلت حركته وهو يقف وجها لوجه أمام المارد الأزرق.. واستحوذت عليه الفكرة الشاذة، فتقلصت يده اليمنى وهو يحاول جاهدا كبح جماع رغبته في صفع «الشرطي الساخر»، حدجه هذا الأخير بنظرة ثاقبة فاختل توازنه وتراجع إلى الوراء مفسحا الطريق للشرطي الذي تابع طريقه وهو يبصق ويلعن المجانين :

«أما آن الوقت لتندثروا أيها الأوغاد .. أنتم كلاب جرباء وحقيرة حقا ..»

ذبل بريق عيني المجنون الزائغتين، وجاهد نفسه قدر المستطاع لتبليل بلعومه الجاف بطريقة بلهاء، عن طريق تأثيره في غدته الدرقية التي نضب سائلها ولم تعد تفرز سوى قطرات ضئيلة من الحصرم.

امتعض من نفسه وهو يمر بأصابعه فوق جبينه ليخفي قطرات العرق الباردة المنحدرة من كل صوب لتخضل وجهه الذي استحال لونه إلى لون أبيض يحاكي وجوه الموتى .. وانحرف بدوره إلى الطريق المؤدي إلى شاطىء البحر مطأطأ الرأس، يتمتم بكلام فارغ وكأنما أصيب بضربة شمس، فدلف مقهى البحارة الصغير، ثم انبطح بظهره على الحصير مستندا برأسه على الحائط الذي استحال لونه إلى لون أخضر طحلبي بفعل رطوبة البحر، وقطرات المياه المنسكبة من شقوق السقف الواهن .. ثم شرد ينصت لصخب العاصفة القوية والأمواج الغاضبة وهي تصطدم بالصخور الصلبة، متجاهلا البحارة وهم يتناذرون بعدو محدق بهم .. ويتصايحون .. ويتبادلون أطراف الحديث عن أشياء مضت وانقضت ويتلذذ كل منهم بغليونه الطويل والنحيف.

لقد حضر المجنون ..

 بل الشيطان .. احذروه يا جماعة .. إنه بلوى ..

 أردف بحار عجوز:

يا للعار .. يا للرجال .. أو تخشون رجلا مريضا ؟؟

مر بأصابعه على رأسه الحليق فانتزع سيجارة رخيصة من خلف أذنه اليمنى، ثم قذف بها إلى شفتيه بمهارة فائقة فاستقرت هناك دون أن يولعها ..

 لقد عقد العزم ليلة البارحة على تنفيذ مخططه هذا الصباح .. تلك الخطة التي اختمرت برأسه منذ شهر وتغذت من خياله المضطرب لتصبح نورا يهتدي به ويحيا من أجله بعد أن استولت على لب تفكيره ووجدانه، لكن لولا «الحواجز المقدسة» لحقق ما كان يصبو إليه هذا الصباح وأطاح – على حد تعبيره – بقبعة الماكر المستتر في زي الأمن والمغتصب باسم الأمن.

 استند بظهره إلى الحائط ثم استرسل كعادته في سب الطبيعة التي جعلت من القط سيد الفئران . لم يتقبل يوما ما هذا التقسيم اللامتكافىء من طرف الطبيعة واعتبره ظلما طارئا يستوجب النظر فيه مجددا، ولقد أعيته حيلته في أن يجعل الوجوه الصدئة، ذات الأسنان المخرمة، المتراصة بجانبه في هذا المقهى كبراكين معطلة تصدق قصة مركبه الصغير الذي عثر عليه محطما على الساحل الصخري منذ عام ونصف .. جميعهم اعتبروا المسألة لا تستحق كل هذا العناء في الاستنباط و التفكير، والتنقيب عديم الفائدة، وأفهموه أنه « قدر مقدر، لا مرد له ..» ومؤكدين له أن «زوبعة طائرة تسببت في تمزيق حبال المركب وارتمائه بين أحضان الصخور الناتئة .. » مزعزعين بذلك توازنه العقلي المتشبث بفكرة – كون – الطقس والبحر كانا في غاية اللطافة في ذلك اليوم المشؤوم. مما تجعله تعليلاتهم الساذجة ينفجر من الغيظ .. فينهال على الأرض يلطمها بيديه وبرأسه.. ويعض على تلابيب جلبابه المخضل بدماء منسابة من رأسه، والدمع الهستيري الممتزج بزبد فمه، فيستفيق بعد ساعة من نوبته ليجد نفسه مكبلا بحبال قاسية، منزويا في مستشفى الأمراض العقلية الكئيب، وقد هد كيانه بمفعول حقنة " المورفين " وتحول جسده إلى صخرة سوداء نتيجة الجلسات الكهربائية المتواصلة ..

 مازال يتذكر الصاعقة التي نزلت عليه من السماء.. خطأ مقصود من قدر غير مقصود، وهو الكهل الثقي، ورب الأسرة الوفي لزوجه وأطفاله التسعة، حيث انطلق كالسهم باحثا عن مركبه « منبع رزقه » الذي اختطفته يد الأقدار..؟!

 مازال يتذكر رغم ضعف ذاكرته، والرجات العنيفة التي رج بها دماغه بالتيار الكهربائي ما اكتشفه من الغاز عند عثوره على مركبه المحطم .. لقد اعتبر ذلك اليوم بمثابة مولده الثاني والأخير، بعد أن قطع الحبل السري الذي يربطه بأسرته وأصدقائه وبالبحر.. لقد قطع هذا الحبل بسكين صدىء غير معقم، مما أثر على كيانه الضعيف وأرداه قطعة خشب منخورة تتلاعب بها الأمواج العاتية والصغيرة على حد سواء.

 دارت كل هذه الأفكار والأحداث برأسه الحليق في سرعة البرق وهو منزو في المقهى الحقير، فاهتاج وأخذ يلعن البحارة، ويشتمهم بأحقر ما يجول في رأسه من كلمات نابية ويملأ صدره من حقد وضغينة، لكنهم كانوا في شغل شاغل عنه شأن من لا يعبأ بهذيان المجانين، فتابع هلوسته، فذكرهم بأزرار البذلة المحترمة، وأكياس مسحوق الحشيش التي عثر عليها بين حطام مركبه الصغير ..فساد الصمت وهو يسرد هذه القصة من جديد، وارتسم على وجوههم الذعر، وعلت محياهم صفرة كلون الزعفران، وانسلوا من المقهى واحدا إثر واحد وخلفوه وحيدا ينبح ككلب أجرب حقير .. فطغت زمجرة العاصفة، وزحف الظلام بستائره الغامقة، الثقيلة .. واستفاق المجنون من نوبة صرعه ليجد نفسه مكبلا ومنزويا بالمستشفى من جديد، يلفه ألم حاد وثقيل يسري في شرايينه المثلجة .. بينما كان الشرطي يقف عند مدخل الحجرة يربت بيده على كتف ممرض شاب وهو يناوله ظرفا أصفر، فابتسم وهو ينظر إلى المجنون .. وندت عنه ضحكة هستيرية كادت أن تمزق أذني المجنون من الداخل.

 آخر خبر:

 أبى العجوز إلا أن يقرأ هذا الخبر ولو على قبر ميت، فهرول إلى المقبرة يتأبط جريدة من النوع الذي يصر على ترك كمدات سوداء في النفس والثوب والجسد، وقف على قبره. كان شاهد قبره يختلف عن كل الشهود، مجداف صغير تكلست على خشبه طحالب وطفيليات بحرية ميتة وقد كتب عليه (هنا يرقد مجنون البحر) وقرأ العجوز الخبر: (ألقي القبض منذ يومين وذلك بتعاون مع « شرطة مكافحة المخدرات » على عصابة وهي تحاول تهريب مئات الكيلوغرامات من الحشيش – بحرا – وقد تبين في التحقيق تورط البعض من رجال الأمن في هذه «الصفقة» وفي "صفقات " أخرى سابقة، وقد تبين أيضا أن العصابة كانت تستخدم في تمرير سلعها صغيرة – بلا محركات – تعود لبحارة صغار .. وذلك بدون علم أصحابها ............)

 وتنهد البحار العجوز بعمق وهو يخاطب صاحب القبر : « أتمنى أن يكون هذا الخبر قد أثلج صدرك يا صديقي العزيز»

 ثم عمد بعد ذلك إلى طمس ما كتب على الشاهد وخط بدلا منه : « هنا يرقد شهيد الزمن الفاسد »
  


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى