الاثنين ١٢ نيسان (أبريل) ٢٠١٠
بقلم ياسمين محمد عزيز مغيب

وظل ذراعـه وسادتـي

كانت تحبه حبا سيطرعلى كل حواسها، وأضحت لا ترى غيره من الرجال مهما كانوا يمتلكون من صفات.

هو فارس أحلامها الذي خطف قلبها قبل جسدها، كانت عندما تقرأ عن قصص الحب الرومانسية عن قيس وليلى أو عنترة وعبلة سرعان ما تقارن حالها بحالهم، فكانت تقول بدون تردد حبي أكبر وأعظم من كل هذا الحب، ودائما ما كانت تتغنى ببعض من الشعرالذي لمسها، وصور حبها وعزف على أوتار قلبها، فكانت ليلا ونهارا تردد هذا الأبيات قائلة:

يا سارقا قلبي أتتك جوارحي

طوعا بلا أمري ولا استئذانِ

فأنا الذي أهملته وتركتــــــه

كنزا للص هواك حين أتاني

فارفق به ما دمت تملك أمره

واحفظه حفظ الصدر للرئتانِِ

وعندما كانت تردده كان يقترب منها و يهمس لقلبها أحبك.. أحبك ..أحبك..

وعندها كانت تدخل مدن الحب التي لم تكن تدرك عنها شيئا إلا من خلال قصص الحب أو بعض الأشعار التي كانت تقرأها وتبحر فيها بخيالها.

أما الآن فالخيال أضحى واقعا ملموسا فقد حول حياتها المتصحرة المظلمة الباردة الخاوية من بصيص الحب، إلى نور بإشرقة شمسه على جبينها وفيض حبه الذي كان يغمرها به بما يملك من رهافة حس ورقة مشاعر.

كانت تخشى أن يتركها فتتشبث به كطفل لا يدرك من الدنيا سوى حضن أمه الذي يرتمي به، فيشعره بالدفء في برد الشتاء القارس، فصوته كان يهدهد قلبها، ولمسته كانت تأخذها إلى عالم غير العالم تفقد فيه الزمان والمكان والماهية، أما عيناه فكانت تسحرانها فلا تملك أمامهما إلا أن ترفع رايتها البيضاء معلنة استسلامها لذلك الحب الذي هز عرش مملكتها، والذي هزم كبرياء أنوثتها والذي أورق شجرة وارفة الظلال تستظل بها من جحيم الدنيا، وجفاف البشر، وجفاء الصديق، وتقلب الدهر، وسطوة القدر.

كان هو جنتها، وحبه كان كل دنيتها، تستيقظ على قبلاته، وتنام على ذراعه، فقد استغنت عن كل الوسائد المصنوعة من ريش النعام والمعطرة بأفخر أنواع العطور، لأنها وجدت وسادة مصنوعة من الحب وعطرا لا يمكن أن يمتلكه بشر، فعرقه هو عطرها الذي أدمنته، ولا تدري كيف أدمنته، حتى أنها كانت تطلب منه ألا يضع على جسده هذه العطورالتي تباع على أنها فاخرة وتقول له دائما: لو استنشقوا عطرجسدك لما أصبحت هذه العطور تباع بهذه الأسعار.

فحقا كانت تستنشقها بشوق ومتعة لا حدود لهما، فقد كان لها كل ما تملك من الدنيا من أب وأم وأخ وحبيب وزوج واستمرت تنهل من كأس الحب حتى الثمالة، وأحيانا كان يروادها حلم يصيبها بالهلع، حتى أنها كانت تستيقظ من نومها مفزوعة، لكنها كانت لا تلبث أن تمد يدها لتطوق جسده وتدفن وجهها بصدره كنعامة تختبأ من الخطر، فيغشاها فيض من الحنان فتغفو بسرعة وكأنها لم تستيقظ قط.

ولكن هذا الحلم ظل يزعجها، وكثيرا ما كانت تتذكره في يقظتها فتنفجر براكين دموعها معترضة عليه ومتخوفة منه خوفا يكاد أن يخنقها، وفاض بها الحزن فقررت أن تصارحه بحلمها، وهنا أخذ يضحك ويقول لا تخافي يا حبيبتي، فالموت لا يجرؤ أن ينشب براثنه في جسدي طالما أن روحك تسكنني وتحميني، وهنا كان يغلبها الدمع وتفيض عيناها بالبكاء فيصارع بكفكفة دموعها، ويضمها إلى صدره فتنسى كل شيء وتحيا بعالمه هو فقط، ولكنها شعرت بالراحة لأنه وعدها أن الموت لن يفرق بينهما.

حاولت أن تقهر حلمها، وتنساه، إلى أن جاء اليوم الموعود الذي ظهر الحلم بثوبه الأسود، وتجرأ وأخذ يطاردها نهارا بعد أن كان لا يظهر إلا في ظلمة الليل، حيث فقد زوجها القدرة على السيطرة على سيارته بسبب انفجار إحدى الإطارات، كانت سرعته تتعدى المائة والعشرين مما حال دون ترويض السيارة والسيطرة عليها، فكانت النتيجة انقلاب السيارة وموت زوجها، أما هي فنقلت إلى المستشفى في حالة يُرثى لها، وأثناء غيبوبتها كانت لا تردد شيء سوى حروف اسمه، وكانت لا تنشد سوى الشعر الذي كانت تتغنى به دائما:

يا سارقا قلبي أتتك جوارحي طوعا بلا أمري ولا استئذان

وبعد أن فاقت من الغيبوبة أصيبت بغيبوبة نفسية أخرى، لقد رحل وليد وتركها نعم رحل، فالحلم نشب براثنه وقتل حبها، وأصيبت بحالة نفسية وامتنعت عن تناول كل أنواع الطعام حتى أن الطبيب كان يعلق لها المحاليل بصفة مستمرة وأخذت أمها تحدثها أن ترضى بقضاء الله وقدره فهذا نصيبها وقدرها.

فأخذت أمها تواسيها بقولها: يا بنيتي ارضِ بما قسم الله لكِ تكونِي أغنى الناس.

فردت ولاء والحزن يعصر قبلها: ولمَ يموت وليد؟ وأنا أحيا ولمَ لم أمت معه، لقد اعتاد أن يأخذني معه كل مكان؟ لعلني كنت أحيا معه بجنة الخلد، وكيف له أن يتركني وقد وعدني أن الموت لن يفرق بيننا؟.

كيف ستغفو عيوني بعد أن أخذ الموت وسادتي وترك لي وسادة من الألم واليأس والحزن، أريد أن أموت ففي الموت راحتي فقربي منه هو حياتي الحقيقية.

الأم: يا حبيبتي كلنا ندرك مدى ما أنت فيه من معاناة وألم، ولكن الله يقول في حديثه القدسي، " من لم يرضَ بقضائي، فليرحل من تحت سمائي، وليفترش أرضا غير أرضي، وليتخذ ربا سواي"

أترضي إله غير الله يا ولاء؟

ولاء: معاذ الله يا أمي، أشهد أن لا إله إلا الله، فلا رب لي سواه، ولكن بلواي كبيرة لقد مات نصف جسدي وبقي النصف الآخر يعاني من فراقه ،وكيف له أن يحيا فهو ينتظر موعده للرحيل، ولكن ربما تأخر الموعد وهنا سيزيد الألم والعذاب.

ثم حاولت ولاء التعايش مع الأمر الواقع، ولكن الليل وهدوءه كانا يثيران كل جراحها، فقامت برسم صورة كبيرة لوليد وعلقتها فوق سريرها، وأحيانا كانت تتزلها لتدفن رأسها في صدره كما اعتادت، ولكن جزء من الأحساس كان قد فقد، فكانت تسارع بإغلاق الضوء لتحيا مع وليد وتحدثه وتضع يدها على جسده وتستنشق عطرعرقه الذي تدمنه.

إلى أن وصلت لدرجة أنها بدأت تتكلم عن وليد، وكأنه لا زال يحيا معها، وهنا أصاب الجميع الذهول مما كانت تتلفظ به من هذيان وكأنها أصابها الشيطان بمس، أو سقطت في هاوية الجنون.

أخذت أمها تبكي على حال بنتها، وتصورت الأم أن بنتها انتهى أمرها وماتت روحها، أما جسدها فلا زال على قيد الحياة.

وهنا بدأ الرجال يطرقون أبواب ولاء نظرا لجمالها وأنوثتها ورقتها إلا أنها كانت ترفض وتقول أنا متزوجة وزوجي يشبعني ويغمرني بحنانه.

فكانت أمها دائما تكرر على مسامعها: أنتِ لازلتِ بالعشرينات، ولم تنجبي أطفال، وحبك لوليد قد وضع على بصرك غشاوة ولن تُزال هذه الغشاوة إلا بعد أن تضيع زهرة شبابك، وتجدين نفسك وحيدة بهذه الدنيا، فأنا لن أحيا لكِ طيلة حياتك، وتوقعي في أي وقت أن تفقديني كما فقدتِ وليد، وهنا لا بد من صدر حنون يمحو همومكِ ويرافق دربك.

ولاء: أمي أنا وجدت الصدر الذي يقوي شوكتي والذي سيحميني في كبري ويعينني على دنياي.

الأم: وما الصدر يا بنيتي الذي تتحدثين عنه؟

ولاء: قررت أن أكمل دراستي، فأنا جامعية، ولن يعيقني شيء عن تكملة دراستي.

الأم: ولكن ماذا عن الزواج والرجل الذي تقدم لخطبتك؟

ولاء: أنا زوجي لم يمت، إن حضنه لم يفارقني أبدا.

وهنا شقت ولاء طريقها في ميدان العلم وحصلت على أعلى الشهادات العلمية في مجال دراستها، وكانت كلما حققت نجاحا كانت تسرع بشراء هدية، وتخبر الجميع أن وليد قد اشتراها لها بمناسبة نجاحها وحصولها على درجة الماجستير والدكتوراة، وكان الجميع يتعجب من أمرها، ولكن لا أحد يجرؤ أن يخبرها بأن وليد قد مات بالفعل، وأنها لازالت تحيا بعالم خيالها.

واستمرت ولاء على وتيرة حياتها، ونسيت عالم الرجال بأكمله، واستمرت تنتقل من نجاح إلى نجاح، دون أن يفارق وليد خيالها لحظة واحدة، إلى أن جاءها وليد بالحلم: وقال لها أحبك يا ولاء.

فضحكت ولاء وقالت له: وما الدليل؟

فقال وليد: الدليل أني رفضت الزواج من الحورالعين، ورفضت أن ألمسها، لأن جسدي لن تلمسه امرأة غيرك، لأنه حُرم على كل النساء حتى ولو كن من الملائكة.

وهنا فرحت ولاء وقالت : وأنا يستحيل أن أتعطر بعطر رجل غير وليد.

واستمرت ولاء تنظر الموت الذي كانت تتمناه من أجل ملاقاة وليد، إلى أن من الله عليها بما كانت تتمنى ، وأصيبت بحمى شديدة، فدخلت في غيبوبة ثم لفظت آخر أنفاسها، وهي تقول: لقد اشتقت إلى حضنك يا وليد فضمني أكثر.... وأكثر.... وأكثر.....، حتى تروي ظمأي منك.

وماتت ولاء وهي تبتسم، وتنام على وسادة وليد، وتستنشق عطره، وتغرف من فيض حبه، في حياة كلها حب دون انتهاء .... حب دون فناء .......حب دون فراق......


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى