الجمعة ٧ أيار (مايو) ٢٠١٠
بقلم مي محمد أسامة

سعد




اسمي سعد، تقولُ أمّي أنّها وأبي، أطلقا هذا الاسمَ عليّ لأنني ولدتُ يوم بدايةِ سعدِ السّعود، أي، السادسُ والعشرون من شهر شُباط.عُمري ثمانيةُ أعوام وخمسة أشهر. أعملُ مزارعاً مع أبي، وأحبّ سماع الحكايات. لكنني هذه المرّة،سأحكي أنا،القصّة.
أبي رجل طيّب جدّا، كما أنّه عاملٌ نشيط، يوقظني معه عند الفجر كلّ يوم لنصلّي سويّة ثم نذهبُ للعمل. قد نعودُ ظهراً للغداء، أو يأتينا الغداءُ إلى الحقلِ مع أمّي وأختي سميرة.
حياتنا جميلة رغم أننا فقراء، أو هكذا يقولون.سألتُ والدي مرّة، لماذا يمتلكُ جارنا أبو سليم، والدُ صديقي سليم،الكثيرَ من الأراضي والمواشي ولا يذهبُ للعمل، فأجابني ضاحكاً لأنّه أحبّ الاحتفاظَ بِماله، فلم يشترِ إلّا ولداً هو سليم، أمّا أنا – يقصد نفسه، فقد أنفقتُ ثروتي كلّها لشرائك وأختك لذا أصبحت فقيراً.


بيتنا ليس كبيراً، أو في الحقيقة هو ليس بيتاً مثل بيت سليم، إنّها غرفةٌ صغيرةٌ واطئةُ السقفِ، تحتوي فِراشين من صوفِ الغنم، وصندوقٌ خشبيّ صغير مطعّم بالنحاسِ الصدئ تحت نافذة واسعة، تقول أمّي أنّ الصندوق ثمين، لأنّه من جدّتها ولذا تُحبّ أن تبقيه نظيفاً وتمنعنا من القفز عليه، المطبخ والحمّام في الخارج.
على إثر قسوة الشتاءِ الماضي، قام أبي بسقفِ المسافة بين الغرفة و الملحقات، مستخدماً الخشب وبعض القرميد واللبن، طبعا قمتُ بمساعدته، فأنا رجلٌ أيضا. بقي هنالك فسحة إسمنتيّة أمام المنزل، غرس فيها والدي عريشه نجلس تحتها أمسيات الصيف، أو تجلس فيها أمّي وأختي عندما نكون في العمل. 
قال لي أبي أنني ولدتُ في بيتنا القديم هناك في قريتنا البعيدة، يقول أنّه كان بيتاً كبيراً، ثلاثةُ غرف و منتفعات تحت ذات السقف. أضطُرّ والدي لرهنه حين أُصيب جدّي بمرض عضال، وقد باع أيضاً بقرته الرمادية من أجل علاج جدّي المكلِف في المدينة.

وعندما سألته عمّا حصل بعدها، قال لي أنّ الله الذي نصلّي له كلّ يوم، أرسل في طلبِ جدّي كي يهبه بيتاً أكبر في مكان يدعى الجنّة.
أنا لم أذهب إلى المدرسة، لأنّها بعيدة عن المزرعة التي نعمل بها، سليم ذهب إلى هناك، يقول أنّها بناء حجريّ ضخم مهول، يحيط به سور كسورِ المزرعة. ويقول أنّ في المدرسة طلّاب كثيرون جدّاً كبار وصغار، جميعهم يرتدون لباساً أزرق، وعندما سألته ألا تتوه هناك في الزحمة؟ أجابني أنّه أمسى يعرف الطريق. يقول أبي أنني سأذهب إلى مدرسة القرية حين نعود إلى هناك العام القادم أو، بمجرّد تمكّنه من تسديد رهنه الذي نعمل بكدّ لجمعه ولحين حصول ذلك، تقوم أمّي بتحفيظي وأختي القرآن، قائلة أنّه أفضل من التسكّع في المدارس، و تقول أيضاً أنّ هذا هو العلم النافع فقط، يوافقها أبي أحياناً وفي عينيه ألمح بعض الأسى، لكننا جدُّ سعداء وحياتنا جميلة.
كلّ مساء بعد عودتنا من العمل، أنا وأبي طبعاً، نستحمّ ونرتدي ثوب البيت، ونقوم بنشاطٍ ما، إمّا الجلوس لارتشاف الشاي خارجاً، أو الذهاب إلى مجلس أبي زهير، حيث يجتمع المزارعين كلّهم، على شاشة تلفازٍ مُلوّن، يتحدّثون، و يصنعون أقفاص صيد معدنيّة، يلقونها في البحر المجاور، مساء كلّ خميس، فيكون الغداء يوم الجمعة سمكاً لذيذاً.
أنا لا أحبّ اللعب مع الأطفال، فيما عدا سليم الذي يأتي من المدينة في الإجازة، بل أحبّ مرافقة أبي دوماً. أبي رجل مفتول العضلات طويل إلى حدّ ما، تلوّح وجهه بالشمس لكثرة تعرّضه لها، هو أيضاً يقول أنني صديقه الوحيد. يأخذني معه إلى كلّ مكان، المسجد، البيوت البلاستيكيّة، حقل الليمون، و حتّى المدينة.
تبعد المدينة عن المزرعة ست كيلومترات إلى الجنوب، يذهب إليها أبي أوّل خميس من كلّ شهر لبيع بعض نتاج أمّي من زراعة الفجل والثوم الأخضر والبصل أيضاً. والدُ سليم رجلٌ طيّب جدّاً، لم يكتفِ بمنحنا مسكناً، بل أعطانا عدّة أمتار من الأرض المحيطة بغرفتنا، تحت النافذة، لزراعتها والإفادة منها.وعلى هذا الأساس، يذهب أبي إلى هناك.
حين اصطحبني أبي إلى المدينة أوّل مرّة، وجدتها غريبة، أبنيةٌ كبيرة و صغيرة، شوارع واسعة، أناس كثيرون جدّاً، سيّارات ملوّنة كبيرة أو صغيرة،ملابس مختلفة. خفتُ يومها حدّ الموت أن أتوه في الزحام، أن لا أعرف طريق العودة إلى المزرعة فلا أرى عائلتي مجدّدا، تشبّثت بيد أبي جيّدا كالمُساق إلى الموت.


ظللت مدّة بعد عودتي أقصّ ما شاهدت على أبناء المزرعة مجتمعين، سميرة وغازي وكلّ الأطفال، كنت أتيهُ فخراً حين آتي على ذكرِ الحذاء الذي كان سبباً لذهابي هناك، بعد أن كان أمنية تمنيّتها، حين أتى سليم مرّة، متبختراً بحذاء أبيض من الجلد له ربطات زرقاء، قال أنّ لاعبي كرة القدم في التلفاز ينتعلون مثله، أنا لم أرَ لاعباً يرتديه إلّا أنني تمنّيت واحداً.

قرأ أبي أمنيتي في عينيّ دون أن أنطق، أضمرها في نفسه إلى أن أتى الخميس واصطحبني لشرائه.ألم أقل لكم أننا سعداء وحياتنا جميلة؟
العمل هذا الصيف أضحى صعباً، الحرارة مرتفعة والقيظ شديد، وصار جلُّ عملي جلبُ المياه لأبي من البئر القريبة، أو النبع المثلّج خلفَ التل. منذ أيّام، وعدني والدي بشراء قبعة قشّ واسعة، الخميس القادم أي أوّل خميس في الشهر من المدينة. لم أعرف ما الذي قصده أبي بالقشّ غير قشّ الأرض، أو بماذا تختلفُ تلك القبعة، عن العمامة التي على رأسي أو حتّى قبعة أختي القماشيّة الورديّة، قال إنّها كبيرة واسعة،تحجب الشمس، وتسمح للرأس بالتنفس وستجعلني أبدو كالرعاة. حلمتُ بالقبّعة منذ أخبرني عليها، وحلمتُ أنّها ستكون مدوّرة زرقاء كثوبي أو بيضاءَ كالثوب الذي ارتديه لصلاة الجمعة. و كلّ يوم في الحقل، أفكّر كم ستقيني هذه القبّعة الوهجَ الشديد، وكم سأكونُ مختلفاً وجميلاً عن باقي الأولاد. كلّ يوم، وعلى وسادتي في الليل، أعُدّ الأيّام الباقية لخميس الشهر الأوّل بانتظار القبّعة، لم يبق إلّا ثلاثة أيّام للخميس وأنا أنتظر. الجمعة الماضية، شعرت بالجوع كثيراً جدّاًً، فنحن لم نأكل سمكاً على الغداء، ولم تُعِدّ لنا أمي شيئاً. ليلة الخميس التي سبقت ذلك الجمعة، كانت ليلة الصيدِ، حمل أبي قفصه، طالباً منّا طاعة أمّنا والنوم مبكّرا لأنّه و في اليوم التالي، سيصطحبنا إلى الشاطئ للسباحة. لا أعرف ما الذي حدث بعدها، كنت نائماً مع أنني استيقظت، كان الظلام دامساً والأصوات قويّة، جلست على فراشي أسمع صراخ والدتي خارجاً دون أن أجرؤ على الوقوف، حضنت سميرة الصغيرة، طمأنتها أنّه ربّما كانت أفعى، أجلستها على مخدّتي، ومشيت بتردد صوب الباب. يقول والدي أنني رجل، عليّ أن أتصرّف بغيابه كرجل إذاً. 
الأضواء في الخارج ساطعةٌ بشكلٍ مخيف، أناسٌ كثيرون يقفون بجمودٍ أبله، أبو زهير وأبو أحمد، أبو عماد وغسّان و الكثير من النساء جالساتٍ على الأرض، و والدي.
لم يكن أبي واقفاً مع الرجال، أبي كان مسجّى على الأرض، رأسه في حضن أمّي التي تصرخ.

اقتربت منها، طلبتُ منها الكفّ عن الصراخ في أذن أبي، لأنّه نائم. تحوّل صراخها إلى فحيح مؤلم، أصوات مبهمة تحاول خنقها وكأنّها لا تستطيع. أخذت برأسي أنا الآخر، ضمّتني إلى صدرها بعنفٍ لم تمارسه معي من قبل، وتابعت البكاء..تخلّصت من أيديها الملتفّة حول عنقي، رمقت أبي النائم بسلام، استغربت كون الصراخ لم يوقظه..أيكون نعساً لهذه الدرجة؟
قال الصيّادون أنّ النوّة كانت مخيفة، قرروا أن لا يغامروا يومها، لكنّ أبي أصرّ على النزول لزرعِ الأقفاص..وطالَ الوقت ولم يَعد.
أبو زهير أيضاً، أصرّ على النزول في القارب للبحث عنه. ساعتان حتّى عثروا عليه نائماً هكذا بين الصخور حيث تقاذفه الموج، كدمةٌ طفيفةٌ تظهر في رأسه..لكنّه لا يستيقظ.
قالت لنا أمّي أنّ جدّي أرسلَ في طلبِ أبي، ليسكن معه في بيته عند الله في الجنّة، لأنّه كان مرضيّ الأبوين وكان عطوفاً، كان أبي.. وكنتُ سعيداً أنتظرُ الخميس.
الخميس بعد ثلاثة أيّام.لكنني لم أعُد أنتظره..
وما عُدنا نحن، سعداء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى