الجمعة ١٤ أيار (مايو) ٢٠١٠
بقلم عمران عزالدين أحمد

تعرية المسكوت عنه في «كائنات من غبار»

للكاتب المغربي هشام بن الشاوي

لا فرق على الإطلاق بين كائنات الكاتب المغربي هشام بن الشاوي الواقعية والحياتية والافتراضية أي مواقع الانترنيت ومنتدياته، فالكل سواء، والكل عرضة للغبار بشكل أو بآخر، الغبار الذي تتكفل بتهييجه وذروه نسمة هواء، أو خوف وشيك مرتقب، فيغدو كلّ شيء إما ممسوخاً ومهمشاً ومقصياً، أو لئيماً وظالماً وانتهازياً، لكنهم بالمحصلة النهائية، مثيرون للغبار والاشمئزاز والشفقة، فكائناته على غير المتعارف عليه مخلوقات من غبار وليست من طين، أو من طينٍ تَحَجَرَ بعد تمنع الماء والهواء والطعام عنها، فآلت ـ أي كائناته ـ بالجبر والإكراه ربّما، إلى كائنات من غبار، بعد ريح صرصر عاتية، تقاذفتها أرجل متسلطة ذات اليمين، وذات الشمال، لكنهم مع ذلك أسوياء حتى النخاع، يتكلمون ويحبون، يأكلون ويشربون، وينامون... ويبقى السؤال: لماذا كائنات من غبار؟!. ما الذي جعل من تلك الكائنات، كائنات متخشبة من غبار فقط؟. بهذا المعنى، وداخل السياق نفسه، يلج الروائي عوالم روايته البكر، مدجّجاً بترسانة من الأحداث، على شكل مَشَاهِدَ، أو فلاشات سينمائية سريعة، ليأتي على سردِ حدثٍ من هنا، وآخر من هناك، فيحمل بانكسار، كما يجدر برجل وحيد وبائس، كاميرته التشريحية، وينتقل بحرفية، في رحلة روائية، بين مشهد وآخر، ليزاوج بين تلك المَشَاهِد، بعد إلقاء الضوء على مصائر وحيوات شخوصه، المفترضة والواقعية على حدٍّ سواء، فضلاً عن تطعيمها بشيء من التخييل، ومسحة شاعرية رهيفة، إضافة للهجة مغاربية موغلة في عاميتها، والكثير من السخرية المرّة، ليخلق من تلك المَشَاهِدَ، لوحة تشكيلية صاخبة، أقرب لنمط حياتي رتيب، أو مشهد واحد أوحد، جامعاً لما جاء من أحداث في متنه الروائي الموجع.

وما يميز هذه الرواية ـ كما أرى ـ هو التالي:

ـ رصد الواقع الاجتماعي بأنسجته الحياتية المتداخلة.

ـ الاشتغال على المحلي، ونعلم جميعاً بأن المحلية شرط أساس للانطلاق إلى العالمية، كما فعل نجيب محفوظ في تحليله للحارة المصرية.

ـ تطعيم المحلي بأقوال وأمثال وأسماء من التراث والفلكلور المغربي، ومن هذه الأسماء : " كبالا ـ بعية ـ بو الركابي...".

ـ الصدق في نقل المعلومة، أو الواقعة المروية، ومن ثم صدق الملابسات التي أحاطت بها على المستويين الواقعي والفني.

ـ الجرأة في الطرح، بمغافلة القارئ وإدهاشه وإذهاله.

ـ الإيغال في التجريب والعصرنة.

ـ إدانة كلّ ما يسيء إلى الإنسان والقيم، بسعي الرواية الحثيث إلى تناول القضايا المصيرية العالقة ذات البنية الإشكالية.

تبدأ الرواية بمشهد سينمائي لحافلة تمخر عباب الإسفلت، فيبصر السارد ـ يشتغل في أحد أوراش البناء ـ امرأة محجبة، تشبه امرأة سكنته ذات شقاء، لكن المقارنة مرّة في وقعها عليه، فهذه ـ على الأقل ـ يمعن النظر إليها بمنتهى الحرية، بينما الإدانة كانت تلاحقه كمتهم إذا استرق النظر إلى تلك التي أحبها يوماً ما. وهنا يحضر بكامل سخفه وبلادته شرط الحرية المجتزأ، الحرية الموءودة بنسب فنية وإنسانية متفاوتة بين عالمين، ناهيك عن الكابوس المعرش والمخيم للعادات، أو التقاليد، والعلاقات الاجتماعية البالية التي لا ترحم من دون شك. يستمر السارد في سرد المتناقضات والمفارقات، تحت تأثير استبداده العاطفي المزعوم، ومحاكمته لماضي حبيباته، اللائي ـ بحسب تعبيره ـ لا يفكرن إلا بما بين أفخاذهن. وتبلغ المرارة ذروتها عندما يعرج السارد على ما يحدث بجوار ضريح "للا عائشة البحرية" من مفارقات مضحكة ومبكية يندى لهما الجبين، حيث السحر والشعوذة والدجل والخرافة وقراءة الطالع. مخلوقات مسخ ارتضت الوهم من كلا الجنسين، تبحث عن نصفها الآخر، شريك حياتي فقط، لكن بعقد زواج شرعي وموثق! تؤمن بغبار وأوهام السحرة والدجالين إلى درجة الإيمان المطلق، الذي لا لبس فيه، لكنه إيمان واهم وممرّض على حدٍّ سواء، ثم، كنتيجة لكل ما سبق، يباغتنا الروائي، بعد أن ينتقل بكاميرته إلى مشهد آخر، ليصور لنا رضيعاً في أحد الأزقة، لم يختر قدره، ومتخلى عنه، في سلة، ينام قرير العين!. لكن، هل العالم الافتراضي هو البديل؟. ماذا يعني أن ترتاح مثلاً لإحداهن في موقع انترنيتي للدردشة، لتؤول من ثم تلك الراحة إلى حب ملتهب.؟ الأمر على أهميته ليس على هذا النحو البتة، ليس من النزاهة بمكان، فهذا العالم لا يقل شراسة وزيفاً عن تفاصيل اليومي المعاش، هذا ما تفاجئنا به قصص الحب الفاشلة في عالم لا يختلف قيد أنملة عن عالم واقعي إلى درجة العري الصفيق، إذ ما الفرق مثلاً بين امرأة أحببتها في الواقع، فخانتك، وأخرى أحببتها في عالم افتراضي، فتبادلت الصور والكتابات والعواطف والمشاعر مع آخر غيرك؟. هذا ما يخبرنا به السارد، فها هو يحب فتاة سورية، تعمل في جريدة، ويدعوها بـ "قطته الشامية"، تصبح ملاذه الأوحد، إذ يعوضه حبه هذا عن واقعه المتردي، ويتكلم معها باللهجة المصرية، كونها اللهجة الطاغية في المشهد العربي، وصلة وصل بينهما، لعدم إتقانهما - ربّما- لهجة بعضهما بعضاً. لكن... ماذا لو أخبر ذويه بقصة حبه هذه.؟ قطعاً.. سَيُسخر منه، كما تبدّى جلياً في المتن، ويُشْفَق عليه، في وسط مغرق في الفقر،وسيحاربه بالنكات والقهقهات المرّة، وسط لا يؤمن بقصص أسطورية كهذه، عبارة عن ورشة بناء، لعمال كادحين بسطاء، يعمل السارد معهم جنباً إلى جنب، وينتزعون اللقمة انتزاعاً، فها هو يتمتم بينه وبين نفسه: " إن امرأة بينك وبينها مدن وبحاروجبال أحبتك، وعاهدتها على الوفاء، واختصرت فيها كل نساء الكون...".

بهذا الشكل، تتابع أحداث هذه الرواية الميلودرامية، بين مشهد وضده، مشهد يسرد حياة، أو مكامن الخلل فيها، وآخر شارح للخلل ذاته، والمنغّصات في تلك الحياة، الحافلة والضاجة بالرّهانات الخاسرة، في معادلة قطبها الأوحد هو مسخ وزيف الحياة، في انكسار جليّ وبيّن للحلم، بما يستتبعه من جوع أزليّ، فثمن فنجان قهوة يجعلك تحسّ بألاّ جدوى منك ومن وجودك، فضلاً عن الكبت والحرمان، فالسكر والعربدة، زيجات غير متكافئة، وتشرذم في العلاقات الأسرية. حتى يخيّل للقارئ بأنه أمام فيلم سينمائي، مستوفٍ لكل خصائصه وشروطه الفنية والإبهارية، قصة فيلم يتصدى لموضوع غير مألوف، حب افتراضي على شاشة الحاسوب، وما يتخلل قصة الحب هذه، من أحداث يعايشها السارد، ينتصر فيها بن الشاوي ـ كمخرج سينمائي أنهى تجربته الإخراجية الأولى بنجاح ـ للمهمشين والمسحوقين والممرغين في القاع، يقتصّ لهم بسرده البديع من المتسلطين والمتجبرين، فيوغل في فضح المسكوت عنه وتعريته، بلغة رصينة محكمة، وأسلوب انسيابي شفيف.

أمام كلّ ذلك، ولأن مهمة الرواية لا تقتصر على نقل الواقع كما هو، يمكن القول إن" كائنات من غبار" تستحق القراءة، ناهيك عن الثناء، والاحتفاء أيضاً. إذ أنها أفلحت إلى حد كبير في إيجاد الحلول لأسئلة معلقة، أو مستفزة، ومصيرية على نحو ما، فضلاً عن إلقاء الضوء على الواقع المعتم، الممرّض، الأشبه بصمت مقبري، جاعل من تلك الكائنات، كائنات غبارية، متخشبة ونمطية وعقيمة، جردت من إنسانيتها،وأدينت،لأنها وبكل بساطة تحلم بغد أفضل، وواقع منصف وأمثل.

ـ كائنات من غبار / شركة مطابع الأنوار المغاربية / 120 صفحة من القطع الوسط / الطبعة الأولى / مارس 2010.

* سورية

للكاتب المغربي هشام بن الشاوي

كان في الإمكان أن يُقدم للقارئ أهم أحداث الرواية حتى يُفهمه عمّا يتحدث وعمّن يتحدث
ولكن قراءته النقدية كانت مقبولة .
خلا مقاله من كل مرجع وهذا مخلّ بشروط كتابة المقال في نظري


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى