الخميس ١٣ أيار (مايو) ٢٠١٠
بقلم بلقاسم بن عبد الله

مصافحة نــقــد .. أم تــشـهـيــر

.. وإلى أي حد تستطيع قافـلتنا الثقافية التخلص من عاهة الإشهار، وداء التشهير لفائدة النقد النزيه الخلاق؟.. ذاك تساؤل مشروع واجهني وصافحـني هذه الأيام وأنا أطالع وأتابع بعض الكتابات النقدية الناقدة والمنتقدة، وسرعان ما عدت لأتصفح أوراق كتابي الجديد: بصمات وتوقـيعات الصادر ضمن منشورات وزارة الثقافة، ولأقرأ بين أحبابي المقربين بالصوت المكتوب والمسموع..

شتان ما بين النقد والإشهار، إنه لفرق شاسع مابين النقد والتشهير، وهل يفيد السراب والضباب طبيعة قاحلة جرداء تستجدي قطرات الغيث؟.. الإشهار، مرتبط لدى المتلقي غالبا بالإعلان عن سلعة كاسدة مكدسة، يريد لها صاحبها رواجا سريعا عن طريق الدعاية، ومن هنا تمتزج الكلمات مع بعـض لدى نفس المتلقي: الإشهار، الإعلان، الدعاية، وهي كلمات لها وقع سيء وموقع منفر، أو غير مريح على أقل تقدير.

والتشهير مرادف لدى المتلقي لكلمة التجريح أو القدح، أو تشخيص العيوب، وهي كلمة رديئة وسيئة السمعة، يقابلها المرء، بالنفور والتقزز والإشمئزاز. والنقد يحرص دوما على ارتداء لباس الرزانة والحكمة والموضوعية، ويكره بريق الإشهار وحدة التشهير.

أما الحال عندنا على حلبة أو خشبة المسرح الأدبي والثقافي، فقد طغى الإشهار حتى لم يعد للمتلقي مجال للتمييز والإختيار. فإذا العـملة الرديئة تطرد العملة الجديدة الجيدة من السوق، وإذا الكم يعلو على الكيف، والعرض يفوق الطلب. وكانت النتيجة أن الإبداعات الأدبية والثقافية، يروج لها أحيانا بين الأحباب والخلان من خلال كتابات إشهارية، وكأننا أمام بضاعة تباع وتشترى، أو سلعة كاسدة مكدسة، فاختلط الحابل بالنابل، وامتزج التبر بالتراب، وتضاءلت حرارة الجمر وسط برودة الرماد.

وأمام صورة السوق هذه بوفرتها وندرتها، ظل المبدع ينتج ويتفرج، في صمت ووقار، بعيدا عن الأضواء، يبحث عن مسلك ضيق، وسط الزحام، للمرور والوصول إلى القارئ الهادئ، من غير أن يعـير كبير اهتمام لتأشيرة النقد، أو حتى لبريق الإشهار وطعنات التشهير.

لكن هل كل مبدع له كامل الإستعـداد الفطري لتقبل كلمة النقد الرصين الرزين، واللذيذ الجارح في نفس الوقت؟. وهل الساحة ـ بناسها طبعا ـ قادرة على احتواء واحتضان النقد الهدام البناء؟. وماذا يمكن أن يقال عن نقد النقد نفسه؟..

قد تبدو المسألة عويصة وشائكة، يحتاج حلها إلى حكمة وثبات، لكن لماذا لا نجرب من الآن، وقبل فوات الأوان، إصلاح عجلة الإبداع وتصليح غربال النقد؟. هل من ترتيبات ضرورية وإجراءات وقائية، قبل أن يستفحل الداء ويستعـصى الدواء؟..

أن نكثر من الإعلام وليس الإعلان حول الجديد في الحقل الأدبي والثقافي، حتى لا تخـنق وتخـتـنق المبادرات والإرادات والإبداعات في مهدها بالصمت والتهميش واللامبالاة.

ـ أن نبتعد عن الإشهار والتضخيم والوعظ والإرشاد. وأن نحذف من قاموس كتاباتنا وأقوالنا كلمات مجانية مثل: عمل عظيم، قيم، رائع، أو يجب، أومن الضروري.

ـ أن نقترب بحب وإخلاص من النص الأدبي قبل الإلتفات إلى صاحبه، من غير محاباة أو مجاملة، ولا قدح أو تشهير.

ـ أن نعود إلى المناهج النقدية الحديثة التي تستوعب همومنا الإبداعية، وألا نحمل النص الأدبي فوق طاقته المحدودة.

تلك باختصار بعض الخطوات العـملية على درب النقد الموضوعي، البعـيد عن الإشهار أو التشهير. ولعل مسافة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، وكل من سار على الدرب وصل، ومع ذلك يظل التساؤل المشروع قائما شامخا.. وإلى أي حد تستطيع قافـلتنا الثقافية التخلص من عاهة الإشهار، وداء التشهير لفائدة النقد النزيه الخلاق؟..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى