الثلاثاء ١ حزيران (يونيو) ٢٠١٠
بقلم ماهين شيخاني

التنهيدة الأخيرة مع الفجر

قام ذات صباح كعادته دون منبه لأداء فريضة صلاة الصبح ، استغفر ربه ثم تشهد وهو يتثاءب، لا يرغب بمغادرة الفراش،جسمه ثقيل وكأن عظامه متكسرة لقد أمضى يوماً شاقاً في عمله وهو رجل كبير، مسن ، رجليه غير قادرتين على حمل جسده، قسمات وجهه وتجاعيدها تدل على تعب وشقاء هذا الرجل طوال حياته.

 فرك عينيه ،...تثاءب ثانية ولكن هذه المرة لفترة طويلة حيث خرجت معها تنهيدة مرهقة في نهايتها ..آخ..آخ.

استغفر بالله ...نظر إلى زوجته وقد تكورت باللحاف..نهض يفتش عن ثيابه المكومة على الأرض، وفي إحدى زوايا الغرفة ارتدى ملابسه تحت ضوء خافت من النواصة كي لا يزعج أولاده.

أغلق الباب وراءه بهدوء واتجه نحو الجامع القريب من بيته ليلتحق بصلاة الجماعة (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون) صدق الله العظيم.

كان في المراحل الأخيرة من الصلاة ...التحيات...المباركات...الـ…فجأة تذكر عربـته التي يعمل عليها…استعاذ بالله…أكمل الآية والتفت يمينه ويسرة أنهى الصلاة…أسرع نحو الباب ليصل إلى حذائه.

انتبه المصلون إلى حالته غير الطبيعية،لأنه بالعـادة يبقى آخر من يخرج...لماذا هذه المرة...؟ الله يعلم ما في الصدور.

انتعل حذاءه، حاول الإسراع ، رغم مشيـته البطيئة، طالت المسافة أمامه، تكلم مع نفسه … أترى كانت موجودة أم لا…! أني لم انتبه…عندما أصل إلى الشارع سيتبين لي كل شيء…..و أخيرا ها..قد وصلت

اقترب الشارع ،بضعة أمتار...خطوتان ..وليتأكد من العربـة صدق حدسه حين وصل . وضع يده على جبينه ليمنع انعكاس ضوء الكهرباء الباهر على عينيه... نظر إلى مكانها...

يا الهي...! إنها غير موجودة...أسرع بما فيه من عزم ،وقف في مكانها تماماً ، وضع يده على خاصرته... وقف للحظات ... ثم اتجه نحو الشارع الثاني.

 ر بما أحد الأولاد أخذها وتركها قريبة من هنا - تمتم مع ذاته -... ليست هنا لانتقل إلى الشارع….وهكذا انتقل من شارع إلى آ خر ولم يجد لها أثرا حتى أرهق من التعب.

رجع إلى البيت خائباً...

فتح الباب بغضب،استيقظت زوجته مذعورة .مندهشة لتصرفه أشعل الضوء، بدأ بالسباب والشتائم.

 ماذا حصل...لم هذا السباب ؟ (قالت زوجته).

 اختفت ..اختفت العربة ...مصدر رزقنا ورزق هذه الأشلاء ( مشيراً بيده إلى أولاده النائمين الصغار) ... انهضي من مكانك يا لبرودة أعصابك هه...كأن عربة الجيران قد اختفت.

 ردًت (بعد أن عرفت سبب غضبه):لعل من احتاجها لعمل ضروري أخذ ها دون أن يوقظنـا من النوم …نم وارتح.

 نم وارتح( قالهـا بسخرية وهو يقلد صوتهـا وحركة فمها ).

 كيف سيأتينني النوم يا خانم وأنا اشعر بفقدها ...آه لو أرى الذي أخذ ها...

 سألعن أباه ...سآخذ منه أجرة مضاعفة...لا.. لا دون أجرة المهم ان يرجعها هذا يكفي.

 ابدأ سأسلمه للشرطة ...انه سارق وليس بذي حاجة ...المحترمون يستأذنون، لا يأخذونها دون علمنا

 كان يغفل حيناً ثم يستيقظ.، ينهض وينظر من خلال النافذة، يتخيلها واقفة أمام الباب .. يتجه نحو الباب، يفتحه بلهفة ولكن ...حتى الخيال اختفى ،.. لا يرى شيئاً أمام الباب...يعود إلى غرفته متألمـاً متحسراً وكأن حفنة من ملح قد نثرت على جرحه، بقى على هذه الحالة حتى وضح النهار وأشرقت الشمس ، أحضرت زوجته سفرة الفطور ووضعتها أمامه،لكنه أحس بمعدته تكاد تخرج من فمه وقال بصوت كئيب والحزن باد على سحنته: العربة لم ترجع يا امرأة ...أنها سرقت بالتأكيد خذيها من أمامي لا اشتهي.

تثاقل بنهوضه،حمل نفسه وخرج إلى السوق،يفتش عنها بين العربات..في الأزقة في الساحات في الزوايا الميتة ...في الخرائب لعله يجدها، يسأل من يرى في طريقه...ولكن دون جدوى..شعر بنار جهنم تصعد إلى نافوخه ألجم لسانه خارت قواه...رجع إلى البيت محموماً... إنها قطعة منه..عكاز ته التي يمشي بها...لقد رافقته طوال الست والثلاثين سنة منذ أن تزوج وهي شريكة حياته،لا يفارقها لحظة..من البيت إلى السوق.إلى العمل ثم العودة بها في فترة الليل.. دونها يفقد توازنه...اشتد هذيانه لاختفائها ووقع طريح الفراش...

زاره الناس، أصدقاء و أقرباء، فلم يفلحوا في إقناعه،كان دائماً يفكر بها شارد الذهن كرجل عاشق تلظى بنار الفراق،يحن إليها لا يبالي بالزوار...انه فقد قلبه وعقله منذ فقده العربة.

أجل لقد كانت كل شيء بالنسبة له ودونها فهو لاشيء شحب وجهه وهزل جسده.استدعوا الأطباء، شكلوا لجاناً لدراسة حالته وصفوا له أدوية ولكن دون فائدة.
جلس مع طبيب نفساني، جلسات عديدة وبعدها اقترح بجلب عربة تشبه عربته.

 بشروه برجوعها...

 قفز من فراشه واتجه صوبها (ليضمها ويقبل أوتادها ليشم رائحة عرقه وتعبه ... وحين رآها تمحصها. دار حولها ..لمس دواليبها..ثم ابتعد وصاح:

اريد عربتي.. شريكتي..هذه ليست لي يا أوغاد..خذوها من هنا..سأحرقها أكسر ها...

قال احد الحاضرين: ارحموا هذا المسكين ، ارأفوا بحاله،إنه مريض يكاد يفقد صوابه اجلبوا له عربته...فهل ابتلعتها الأرض... فتشوا في كل الأماكن اقترح شخص ثان، بان ينادى من خلال مكبر الصوت في الجامع... واتفقوا على الاقتراح فنادى المنادي:
يا أهالي البلدة المحترمون

يا أصحاب النخوة والشهامة...لقد فقدت عربة منذ مدة.فمن رآها أو لديه معلومات عنها فله مكافأة ثمينة.أن صاحبها يكاد يموت من اجلها..ارحموا هذا المسكين وأجركم على الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مرت أيام..وأسابيع ،ولم ترجع العربة،نسي الناس حكاية العربة وصاحبها...لكنه لم ينسها إذ ظل يفكر بها على الدوام،يحلم برجوعها ويقول:

لابد إنك في يوم من الأيام ستلتقي بعزيزتك، بشريكة حياتك،بحاملة همومك وأحمالك التي تنقلها من مكان إلى آخر ...سترجع إليك...ستدفعها وتدور بها من شارع إلى شارع ومن حارة إلى حارة وتمزح مع الأطفال،تحرف أسماءهم بقصد أو دون قصد..فتنادي..ها آنديراغاندي ماذا تفعلين.اصعدي العربة ..واحذري أن تجرحي يديكِ..أمري لله لقد اعتدتم على ذلك وأنت يا أسمر يا نلسن ما نديلا أيها الشقي اركب مع أختك ولا تخف، غداً عندما تكبر ستصبح (فدائي).

ذات صباح وعلى إيقاع صوت المؤذن نهضت زوجته ونهرته في خاصرته،قم إلى الصلاة..لقد تأخرت عنها..ماذا بك..صلاة الجماعة و تركتها فهل في نيتك هجر الصلاة نهائياً.؟

نهرته ثانية…لم يرد رفعت اللحاف عن وجهه...

صرخت وبصرختها استيقظ الأولاد مرعوبين، هرعوا باتجاه فراش والدهم المستلقي بلا حراك.

انكبت على صدره أرادت أن تسمع دقات قلبه رفعت يده الباردة مسحت بها وجهها حتى تبللت بالدموع، فلم تصدق إنه قد مات،ذلك لأن عينيه كانتا مفتوحتين و كأنهما تنظران لصورة عربة في البعيد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى