السبت ١٩ حزيران (يونيو) ٢٠١٠
بقلم إنتصار عبد المنعم

ادكـــو..من الكانــو إلــى نوكيــا!!

لم يكن عم أحمد يدرك في تلك اللحظة البعيدة ، وهو يقف على شاطيء البحر غامسا قدميه في رمال الشاطيء ، أنه بعد سنوات ليست بالكثيرة سيجلس بين جدران بيته يخشى البحر بعد أن كان مضرب المثل في حدة البصر ليلمح سرب السردين البعيد وهوفي قلب البحر قبل أن يقترب من الشاطيء ويكون في مرمى الشباك المنتظرة .

سنوات التغير والتبدل بدأت من20 سبتمبر 1959 ، عندما وزع رجال الثورة عقود تمليك للأراضي على الصيادين لتبدأ رحلة التحول من مهنتهم الأساسية المتوارثة كصيادين ، ليصبحوا مزارعـين في الأراضـي التي تم تجفيفها من بحيرة ادكو؛ وهي نفس البحيرة التي مارسوا فيها مهنتهم منذ قدم التاريخ . وتقع البحيرة فريسة الردم ، والمزارع السمكية العشوائية ، وتتقلص مساحة بحيرة إدكو من 47 ألف فدان تقريبا إلى أن أصبحت الآن 5 آلاف فدان فقط ..

وتبدأ رحلة ضياع الهوية ؛ المدينة المفعمة بالماء ومراكز الصيد تتجه إلى الزراعة ، المدينة التي كان قاب قوسين أو أدنى من أن تكون جزيرة تغوص في حضن البحر المالح شمالا ، ومياه البحيرة العذبة من الجهة المقابلة ، تبقى عروس حيرى بين مالح أجاج لم تُخلص له ، وعذب فرات هجرته لتنشغل بزراعة أرض البحيرة التي يتم تجفيفها .

عم أحمد مارس الصيد في البحيرة بقاربه الصغير "الكانو" ، ومازال يحتفظ بالكانو القديم في بيته بعد أن حوله ابنه إلى أرجوحة يلهو بها الأحفاد ، ويتقلص أعداد القوارب من 1500 ‬مركب إلى 900 ‬ لقي بعضهم مصير قارب عم أحمد والباقي تم تفكيكه ،‮ ويتحول الكثيرون عن مهنة الصيد ويبقى حوالي 3000 فقط من عدد 13 ألف صياد كانوا يتجاورون بقواربهم في البحيرة .

أما المحل الذي كان يبيع فيه اسماكه فقد تم بيعه ليصبح محلا لبيع مستلزمات أجهزة المحمول . محلات المحمول تنتشر في الشوارع والأزقة ، مقاهي الإنترنت تنتشر كالنار بعد أن بدأت على استحياء ، محلات الإتصالات وكبائن الهاتف تغزو " العراقية" أشهر مكان لبيع الأسماك حيث كانت ملتقي صيادي البحر وصيادي البحيرة . تختفي محلات لوازم الصيد والصيادين ، وتظهر اعلانات الدقائق المجانية ، تختفي شباك الصيد من أمام المنازل وأسطحها وتحل محلها أسلاك وصلات الدش والأطباق اللاقطة.

ويضيع القاسم المشترك بين الجميع الذين كانوا في حالة انتظار دائم لما ستأتي به الشباك ، حالة التوحد في الإهتمام والصناعة أو الحرفة كانت تجمع البلدة حتى في موعد النوم والاستيقاظ .. يغيب الشاب عن الظهور في شارعه ، فيسأل عنه الجار ، وتسمع اللغة الدارجة لأهل البلدة للتعبير عمن ذهب للصيد في البحيرة بقولهم ( في المسراح)بكسر الميم ، وهو الشائع حيث لا يخضع الصيد في البحيرة كثيرا للنوات وحالة الموج والطقس مثل البحر. وإن امتد به الغياب يكون ( طلع البحر) ، على مركب صيد ربما يغيب عليه يوما أو يومين ، أو ربما يذهب للبحر ويقتصر دوره على جذب أحبال الشباك للخارج ، حيث يدخل البعض بمركب ليست بالكبيرة ويلقون الشباك في الداخل ثم يعودون إلى الشاطيء ويستغلون سواعد الشباب الموجودين في جر الشباك للخارج ، وتكون قسمة السمك بين الجميع ليعود بعدها الشباب محملين بالأسماك المختلفة لبيوتهم .

اليوم تسأل عن الشاب فيأتيك من يخبرك أنه في "السيبر" أو أنه يغير الشريحة للموبايل ، أو يبشرك بأنه خرج ضمن مجموعة شباب في مركب هجرة غير شرعية في مركب متهالك ، ربما يكون نفس المركب الصغير الذي كان يلقي بالشباك لصيد السردين قريبا من الشاطي . أو ربما يصبح الشاب فريسة لسمكة القرش نفسها التي هاجمت سرب السردين وفرقته قبل أن يصل للشاطيء .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى