الأحد ٢٠ حزيران (يونيو) ٢٠١٠
بقلم فؤاد وجاني

كذبة نيسان الكبرى

جلس بصحبة عكازه يتأمل الناس في غدوهم ورواحهم بعيون تشفق على زمانهم، ومهجة تكاد تُسمَع حُرقتها تتحسر على عصرهم، يقارن بين جسمه الحاضر والجسم الماضي، يهمس لنفسه: الآن طرقت باب أرذل العمر وخطوت أول الخطوات نحو القبر، لم تبق لي سوى هذي الحسرات وهذي العظام النخرة تكاد لاتسعفني على الحركة. بالأمس كنت شابا يافعا نضر الوجه بشوشه، والآن عجوزا أهتر متجعد الجلد منكمشه، بالأمس من حولي رفاق ونساء يحومون كأني زهرة في بستان، واليوم وحيدا غدوت حتى ظلي لاأقدر على الدوران لرؤيته. الكل قد رحل حتى العمر، والحروف لم يبق لي منها سوى أدوات التمني ووسائل الترجي.

كلما دب الحزن القارس الى صدره الدافئ بذكريات الماضي، ينتفض قلبه وتزيد دقاته ليعلن الانقلاب على العمر، يخرج من جيبه ورقة ضعيفة لتذكره خلسة بقوته، لم يعد في الدنيا سواها يستسلم لرعشة يديه ويعشق حماقة قلمه، ينظر إليها فتنظر إليه بعيون صافية وكأنها تهمس له: اكتبني، زيني بآهاتك، دعني أحمل أوزارك وهمومك وخطاياك، دعني أرجع إليك السنين فإني مثلك ماخلقت عبثا، أصْلي مثلك من الأرض، وجذوري ممتدة في شرايينك، هوامشي محطة لذاكرتك، وسطوري واقع أحلامك، صفحتي صدر لظلماتك، وبراءتي غفران لذنوبك. لديّ تدور عقارب الساعة يسارا لأخلدك، وفي عيوني أخبئ اللحظة عن قبضة الزمن لأبهجك، أنا إمامة تيهك وملاك شيطانك، أنا مغتصبة أهوالك وسالبة أفكارك، أنا مجاهدة البياض في شعرك، أنا ساكبة الندى في خريف عمرك، فامنحني كل شيء وأي شيء أو لاشيء، اجعل مني وطنا بكلماتك أو مزقني بجنود غضبك.

يخضع لنزوة الورقة البيضاء أمامه، يبدأ أول سطره شاكيا "ربي إني وهن العظم مني"، يكاد القلم لا يطاوع أنامله، يحس بالتراب يلامس جسده، فيرفع بصره الى السماء ليجدها امتلأت بمناديل الوداع البيضاء، يغمض عينيه بعد صراع قصير مع جفنيه ويرجع الى الوراء ببصيرته، يتذكر زوجته التي فارقت الحياة وفارقته والأولاد الذين هجروه والصحة التي خانته، تهيج قريحته ويضرم لوعة الفراق في نفسه، يستمر في الكتابة سطرا تلو الآخر عله يفرج بعضا من كربه، يتذكر أن اليوم أول نيسان، وقبل أن يقوم من مقامه يختم صفحته: العمر كذبة نيسان الكبرى.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى