الثلاثاء ٢٩ حزيران (يونيو) ٢٠١٠
بقلم البشير البقالي

وماتت القطة..

عاد إلى البيت وعلى وجهه غضب كاسر طمس كل الأسارير والأخاديد، ما عدا تجاعيد شرع ينحتها الزمن أسفل الذقن، تضفي على القسمات مزيد صلابة وقسوة، دون أن تمحي معالم الطيبة والوقار. وضع على المائدة كيسا صغيرا يحتوي قطع جبن وحليبا؛ فطور أبنائه في الصباح، ونزع قميصه. كان السكون يعم البيت. تفقد غرفة الصغار فألفاهم نائمين. ثم توجه إلى غرفة نومه.. رفع ستار الباب.. رأى زوجته نائمة أو متظاهرة بالنوم، فهي لا تصدر أي شخير. منذ مدة اعتادت أن تنيم أطفالها وتنام باكرا حين لا يكون ثمة داع للسهر والسمر. لاشك أنها تتفاداه.. فقد صار لا يربطهما إلا الجنس أو النكد. تذكر قول المرحوم أبيه ذات مرة أن الزوجة كالثلاجة تهدئ الرجل إذا عاد مشتعلا. وابتسم بجبهته وهو يضغط الأضراس على الأضراس.. هيهات يتجمد اللظى بالثلج.. ومن أين للمسكينة بالثلج؟.. نفس الحياة والضغط.. نفس الزنزانة واليحموم. حك أنفه بملء راحة كفه وأسدل الستار واتجه إلى مجلسه في ركن البهو.

كان على الطاولة صحن أكل مغطى بورق الألمنيوم. مزق الورق وتناول لقمات خفيفة على عجل أسكت بها مغصا في معدته، واستند بظهره إلى وسادة. عدّل التلفزة على قناة إخبارية، وظل ينظر إليها بعينين ساهمتين.. يستمع للأخبار ولا يسمعها. حشرجات كثيرة تطن في رأسه، ودبيب نمل حاد يسري في أعماق صدره، ينفثه زفرات ساخنة تصاحبها نحنحات تخدش السكون.

وجاءت القطة. جلست تحت المائدة تنظر إليه كما تفعل كل ليلة. هي قطة صغيرة لم تتعد بعد ثلثي ربيعها الأول.. يضربها كل يوم بسبب أو بدون. ومع ذلك تظل تؤوب إليه كأنها تعشق جلادها، أوتتجاوز عنه في وجه قطع الجبن وعلب السمك التي يلقمها إياها بيديه. حدجها بعينين ناريتين ولبثت تنظر إليه بوداعة. استفزه ألا ترتعد من عينيه، فكشر بأسنانه ولم يصدر عنها أي خوف أوتغيير، فاستسلم للأمر الواقع. أخذ يلتقط فتات الدجاج من الصحن ويضعها على مقربة منها، لكنها كانت تشمه وتزدريه. اعتقد أنها طامعة في جبن أبنائه.. فتح قطعة، جزأها على كفه.. مدها إليها ولم تأكل. واقتربت من فخذه تحتك بها كما لو تبحث عن حنان أو أمان.

مرت لحظات وهو يمرر أصابعه على ظهرها وعقله مرفوع. وفجأة اندفع بجسمه كالملسوع. ضغط على جلدة ظهرها كأنه يجعد ورقة ورفعها إلى مستوى وجهه. كانت تموء من الألم وتمسح شفتيها بلسانها الصغير.. تنظر إليه وتتلفت في استسلام وديع. استهجن ضعفها وصبرها الذليل، فأبدى عبوسا متذمرا. عقد لكمة باليد الأخرى، ودفع بها وجهها.. ربما تمنى لو أن وجهها أكبر ليشبع فيه نهم اللكمات. وتوهمت أنه يلاعبها، فطبعت على يده عضات رشيقة. لكنه ضغط عليها بعنف وصفعها بأصابع قاسية، فأنّت وانكمشت تبلع ريقها في دهشة، وألقاها على الأرض يقلبها جهة اليمين وجهة اليسار وهي مستسلمة كجثة خفيفة. عض على لسانه وشفتيه كما لو تلبسه جني أحمق وعكف يعبث بها؛ يرفعها ويسقطها، يضربها ويعجنها، يدغدغها بأصابع انتصبت كالعيدان. حاولت الهرب لكنه قبض عليها، وعاودت التملص فازداد اهتياجا. التقطها بخفة ورماها على الجدار. نزلت على الأرض كالهامدة، ثم بدأت تدور لا تدري أين المناص.

تراجع جنونه رويدا رويدا كأنه قافل من ذروة.. بدا مجهدا مغلوبا. ركز عليها نظرة مفعمة بعطف نادم. ثم حبا على ركبتيه.. تناولها بيده وعاد إلى ركنه. ربّتَ على ظهرها وانكمشت رعبا.. احتضنها بذراعه فاستشعر جوارحها ترتعش. ونبض قلبه عطفا.. طوّقها بكلتا يديه يتأمل وجهها المسالم الصغير. وفجأة تكسرت قسماته.. صار وجهه كوجه رضيع يهم بالبكاء، لكن من غير دموع.. وضمها إلى صدره يناجيها: «اعذريني يا سيدتي القطة، فأنا مجرد إنسان.. خساراتي كثيرة، وانتكاساتي مريعة. والناس‼ آه.. عيونهم فوهات، وأفواههم رصاص، وقلوبهم كمنفضة الرماد. مساكين.. يصدّون الغل بالغل، ويُدارون النقص بعيوب الناس حتى وإن صنعوها، كلٌّ منا يُهان ويُظلم ويُسقى الزعاف.. ويفعلها لغيره.. ما عاد يردعهم شيء. والحياة لعينة؛ ميدان غُلب ومكابرة... أرجو يا سيدتي ألا تعتبري الأمر شخصيا، لا أبدا. فأنا وأنت سواء. همنا واحد. وجوهرنا واحد.. وكل الفروق الأخرى تبقى عرضية، لا قيمة لها البتة...»

كانت قد فقدت الثقة في مزاجه، تتلفت كالمحتار، متربصة بفرصة للانسلال من بين يديه. إلا أنه أحكم الطوق عليها بيد، فيما اليد الأخرى تلتقط أجزاء الجبن وتضعها أمامها. وأبت أن تأكل.. لاطفها ولم تأكل. ضغط على رأسها ليجعلها تشمه فدفعت بجسمها إلى الخلف ممتنعة. وثارت ثائرته من جديد: «اسمعي أيتها اللعينة، لن تنفعك معي أرواحك السبعة.. قطط كثيرة ماتت في قلبي وفي خواطري، ولن أحزن إذا ماتت واحدة في يدي...». عض على لسانه واتسعت عيناه، ضغط على رقبتها حتى كادت أن تختنق، فاستسلمت للأكل غصبا، وأنهت القطع بسرعة خاطفة وجسمها يخفق بلا هوادة. حاولت الاندفاع للهرب فتفاقم جنونه، أحس أنها تتحداه، وقرر معاقبتها بالأسوأ.. جعد جلدة ظهرها وحملها إلى الحمام.. رماها على الجدار وأغلق الباب. كانت ترتعد وتموء برقة نفّاذة.. وارتسمت على عينيها دهشة، صارتا صفراوين من الخوف. وتعالى المواء حين شرع يصب عليها الماء.. يتبعها بالرشاش أينما اتجهت.. لم يتركها إلا حين بح صوتها وغدا أقرب إلى النحيب. إذ ذاك أغلق الرشاش وتناولها من ظهرها. ولما خرج ألقى بها إلى ركنه، فانكمشت مذعورة. ثم نفضت جسمها وطفقت تندفع إلى الخلف، تود لو يندفع الجدار وتغيب في المجهول بعيدا عن هذا الإنسان الذي لا ينهدّ شرّه.

وجاء حاملا قماشا، لفها فيه، وأخذ يفركها داخله وهي مستسلمة. تركها ملفوفة وجلس يرتاح من لهاثه وزفراته التي تبدو كأنها صادرة عن مقطورة. ظلت تتحرك وتتلوى إلى أن تمكنت من إخراج رأسها من تحت القماش. نظرت إليه.. رأته مستلقيا بجانبها في هدوء، فأقبلت على قوائمها تمسحها بلسانها الصغير بجدية وانهماك. حين رآها نزل عليها بضربة قائلا: «هل تظنين أيتها اللعينة أن ريقك أطهر من الماء؟». تذرعت بالأرض بفعل الضربة ولاذت بالهدوء. وانفطر قلبه لما رآها تتشبث بمخالبها في البساط، فراح يفرك ظهرها بلطف مبديا ندما، وهمس لنفسه: «الواقع أنني أحسدك على لسانك، لسانٍ بلسم.. يعالج حتى لدغات الأفاعي.. ليس كلساننا المريض». تململ في مكانه يتقلب على كل جانب كأنه على شوك. ثم نهض. تناولها بحنو وعطف.. أخذها إلى مرقدها وهو يفرقع لسانه في فمه، مستنكرا اعتداءه السافر. زودها ببعض الحليب في إناء صغير، وعاد إلى مكانه.

جلس القرفصاء يتأملها وهي تلعق الحليب بشراهة أنيقة، دون أن تكف عن مراقبته بين الحين والحين بعينين كسيرتين. لما أنهت الحليب جلست تلحس قوائمها وبطنها. أنبه ضعفها وعفويتها، فاستوى جالسا على ركبتيه، واضعا كفيه على فخديه كالمستسلم، وركز فيها طرفين دامعين. أفزعتها حركته فتربصت وظلت تراقبه عن كثب وهو يغمغم: «سامحيني يا سيدتي.. لم أكن أنا الذي ضربتك، إنما شيء آخر...انفعالاتي وضيعة وكثيرة، والناس نيام، وامرأتي حائض. لا ذنب لك في كل ذلك. ذنبك الوحيد أنك كنت في المكان والزمان الخاطئين. هذا زمن خيدع؛ الصدق فيه مذمة، والصراحة عداوة، والإخلاص بلادة. وحدهما النفاق والانتهازية تجارة دامغة. هيييه... زمن مكابر، يستلزم ذل النفس وجفاف الكبرياء. لا تهم الطريقة التي تحقق بها مصالحك الخاصة، حتى وإذا كانت دنيئة. المهم ألا تنسى وضع القناع لتواجه به وجهك في المرآة، وتقابل الناس بابتسامة مهما كانت عليلة، تبين لهم أن كل شيء بألف خير.. ».

توقف هنيهة عن الكلام، واستند إلى الوسادة يرسل من صدره أنينا حائرا، ثم استطرد: «- سنوات يا سيدتي وأنا أجتر الزمن الكسيح في الهوامش؛ هامش يقذفني للهامش. وأظل أصبر، أو ربما أتوهم أنني أصبر، حتى ترسب الهمّ وصار كالإسمنت المسلح يغلف الفؤاد والرئتين...». وفجأة انتصب واقفا، يعدّل حركات يديه وكتفيه يتهيأ للكلام ، ويتلفت هنا وهناك بحركة بطيئة كأنه أمام هيأة أو حشد. ورفع صوته فوق الهمس بقليل:

«- أيها السادة.. أنا لا أعرفكم، وأنتم بالتأكيد لا تعرفونني. أُدرك أن خصومتكم ليست شخصية، لكن ذلك لا ينفي كونكم الجلادين وأنا الضحية؛ أنا وغيري ممن لا يسلكون دروبكم ولا يعتقدون بشرعتكم... أيها السادة، إن للجدية والمثابرة والتفاني والنزاهة، كل ذلك له ضريبة معنوية، يؤديها المخلصون خدمة للصالح العام. لكنْ، الخوف كل الخوف أن يتنامى الاعتقاد بأن القيم المثلى جريمة ضد الذات، وانتحار في مستنقع بلا وازع...».

عقد قبضته وقفز من مكانه كما لو أصابه مس من الجن، فقفزت القطة هاربة. انتبه إليها فتبعها مسرعا.. تسلقت الشرفة.. حاول الإمساك بها فرمت بنفسها إلى الأسفل. وتناهى إلى سمعه صراخها حادا مكبوحا كأنه يغيب في أعماق حفرة. أحضر مصباحا يدويا، أضاء به المكان بعناية، وتلصص الرؤية فرآها معلقة في قضيب حديدي منتصب في أعلى شباك الطابق السفلي، اخترق بطنها وماتت في الظلام...

تأثر عميقا بمشهد موتها، وأحس جرحا غائرا في قلبه وحسرة شملت كيانه؛ لم يتسن له حتى أن يصالحها قبل أن تموت. وقفل عائدا إلى مجلسه في الركن يشد على رأسه بيديه . وجاءه صوت زوجته..

- ماذا حصل؟؟

توجه إلى باب الغرفة، رفع الستار، رآها تشقق عينيها وتمضغ الريح كما يفعل المتظاهرون بالنوم. وقال بهدوء متحسر:

- انتحرت القطة..

- ماذا؟؟.. كيف؟؟.. حرام عليك. ماتت المسكينة غُلبا وكرها...

أصابه كلامها كالسهام، وصمت لحظات يستجمع أنفاسه، ثم قال بنبرة مكابِرة مكشوفة التصنع، وهو يسدل الستار:

- وماذا بعد؟؟ معظمنا يموت غلبا وكرها...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى