الأحد ٣ تموز (يوليو) ٢٠٠٥
بقلم أحمد الخميسي

الليبراليون العرب.. من يخدعون ؟

أصدرت مجموعة من المثقفين أطلقت على نفسها "الليبراليين العرب" بيانا بعنوان "صرخة ضد التبسيط" نشرته أخبار الأدب في عدد 19 يونيو، وعدة صحف عربية أخرى. ويبدو عنوان البيان "صرخة ضد التبسيط " كأنه تعبير عن هم يؤرق "الليبراليين" الذين لا يستطيع الآخرون فهمهم، ومن ثم فإنهم يطلقون صرختهم تلك بحرارة وإخلاص لوجه الحقيقة التي تسقط ضحية لتبسيط الأمور.

وبداية لابد من الإشارة إلي أن البيان مكتوب بلغة الإبهام الأمريكية التي صكت ذات مرة تعبيرها الشهير "الغموض الإيجابي" خلال محادثات فلسطينية إسرائيلية. أما عن البيان نفسه فقد جاء فيه إن دعاة تبسيط الأمور يتوهمون أنهم: "يوقفون بطقس المقاومة مرة، وطقس الديمقراطية مرة أخرى خرابا زاحفا وموتا عاما". وهكذا تصبح المقاومة عند أولئك الليبراليين مثلها مثل الديمقراطية "طقس"، أي حالة عابرة، وليس رد الفعل الشعبي التاريخي على التوحش الاستعماري. إنها "طقس". وهكذا يقوم البيان على تحليل الواقع باعتبار أن: "الفرز والاستقطاب في الأوساط الثقافية" هو استقطاب عصبي وليس فكري ووطني، وباعتبار أن المقاومة "طقس"، ثم يعمق منهجه النفسي بالحديث عن "الأمزجة العارضة لهذه الحكومة الغربية أو تلك". هذا في الوقت الذي لم يحدد فيه البيان لا موقع ذلك الطقس، ولا خريطة الاستقطاب العصبي، ولا موطن الأمزجة العارضة. ويريد الليبراليون بكل ذلك أن ينقلوننا من حالتنا العصبية، والحماسة، إلي فهم الأمور على نحو أعمق، ومن ثم يعتبرون أن "التحديات التي تواجه مجتمعاتنا" هي: "التداعي الذي يضرب مجتمعاتنا العربية باسم حروب مصيرية وقضايا مقدسة لم يبق منها إلا إطلاق وتائر التفتت وإدامة الهزائم". لا يحدد البيان مرة أخرى، ما هي هذه الحروب والقضايا المقدسة التي تضرب مجتمعاتنا، تاركا لنا أن نستنتج من لغة "الغموض الإيجابي". أن المقصود هو حروبنا مع إسرائيل ودفاعنا عن استقلالنا، وحرب التحرير التي يشنها الشعب العراقي ضد الاحتلال. هكذا يعتبر البيان أن المشكلة الرئيسية التي تضرب بلادنا هي "الحروب المصيرية"، التي جلبت التداعي والتفكك إلي مجتمعاتنا، وليست المشكلة في تلك الهجمة الأمريكية المجرمة على شعوبنا وعلى العالم. ويعتبر البيان أن ! "المخاطر" القائمة تترتب على الاستبداد، وليس على الاستعمار صانع وخالق وحليف مختلف أشكال مختلف الاستبداد المحلية التي تعمل تحت مظلة الاستعمار والاستبداد الأمريكي الأعظم.

تبسيط الأمور أن تقول إن الاستعمار عدو شعوبنا، أما النظر إلي الأمور بعمق فهو ألا تقول ذلك، وأن تتجاهل الاستعمار خاصة الأمريكي تماما وتتفادى ذكره بالاسم. بهذه الروح، يصبح من الطبيعي إذا جاء ذكر العراق، أن يشير البيان فقط إلى أن: "المأساة العراقية بعد مكسب انهيار صدام وحكمه تحض على هذه الرؤية النقدية"، وبذلك يتسق البيان مع الطرح الأمريكي للمسألة الذي يصور التدخل الأمريكي وإزاحة صدام باعتباره مكسبا. وكان يمكن لإزاحة صدام حسين أن تكون مكسبا، لو أنها تمت بأيادي الشعب العراقي وليس بمدافع قوات المارينز، وكان يمكن لإسقاط تمثاله أن يكون رمزا للتحرر لو أن ذلك تم بأياد عراقية، وليس بيد مجموعة مأجورة جاءت على طائرة خاصة من بلدان خليجية كما ذكر محمد حسنين هيكل للجزيرة. ويكتفي البيان – بشأن القضية العراقية – بتلك الجملة! فلا يرى ولا يشير بحرف إلي المجازر البربرية الأمريكية، ولا إلى المقابر الجماعية الأمريكية، ولا إلى أهداف الاحتلال الأمريكي الحقيقية. ولا يشتمل البيان على كلمة واحدة تدين السياسة الأمريكية التي يقوم بانتقادها الكتاب الأمريكيون في الصحف الأمريكية، ناهيك عن أن بيانا كهذا من باب أولى لا يوجه التحية للمقاومة العراقية الباسلة التي تقدم دماءها فداء لبلادها. الانتقاد الوحيد حقا و"الجرئ" للسياسة الأمريكية جاء على النحو التالي: "إن اعتماد الحروب الخارجية من أي غطاء قانوني يبعث فينا القلق". فكل ما يحتاجه الليبراليون هو غطاء قانوني من الأمم المتحدة للحروب الأمريكية الإجرامية، الأمم المتحدة التي تعبر بتشكيلها الحالي عن إرادة واشنطن. أما عن جوهر تلك الحروب سواء أكانت بغطاء قانوني أم لا، فإنه أمر لا يعنيهم. الليبراليون العرب يفضلون الحروب على الشعوب بغطاء قانوني!

الانتقاد الثاني الذي اشتمل عليه البيان هو القول :"بأن الغرب مطالب بتوفير النموذج الذي يحاكي التقدم والتنور، وأول المحاكاة احترام القانون، فلا يحصل ما حصل في جوانتانامو وأبو غريب مثلا". ووفقا للبيان فإن المجازر التي حدثت وتحدث في المعتقلات الأمريكية هي "مثلا" عابرا، وليست فضيحة أخلاقية وسياسية وإنسانية متصلة بصميم وجوهر السياسة الأمريكية تستحق التوقف عندها وفضحها. ولا يستنكر البيان ما جرى في تلك المعتقلات، لكنه يكتفي بالأمل الشاحب في "لا يحصل ما حصل في جوانتانامو وأبو غريب" من غير أن ي! حدد موقفه مما حصل هناك، ومن غير أن يطالب على الأقل بإغلاق تلك المعتقلات، وهو ما طالبت به لاحقا ممثلة الأمن والتعاون في الاتحاد الأوروبي المكلفة بحقوق الإنسان! إن الليبرالية لا تصل بأصحاب البيان ولو إلى الحدود الرسمية لمطالب المؤسسات الأوروبية والأمريكية!

أخيرا يتناول البيان موضوع الإرهاب، فيستنكر "الإرهاب الوحشي في العالم الإسلامي الذي يمارس باسم الدين". ولا حظ هنا وصفه لذلك الإرهاب بكلمة الوحشي، وهي الصفة التي لا يطلقها البيان على الممارسات الأمريكية والإسرائيلية أبدا، إذ يكتفي حين يدور الحديث عن الغرب بقوله: "ندين انبعاث بعض الإرهاب الفكري في الغرب". ولاحظ هنا كلمة "بعض"، التي تعني أن الإرهاب الفكري ليس حالة عامة في الغرب، هذا في مقابل تعميم حالة الإرهاب على العالم الإسلامي، كأنما كل سكان ذلك العالم إرهابيون، كما أن إرهاب العالم الإس! لامي هو إرهاب "وحشي" أما إرهاب العالم الغربي فإنه "فكري"! ومن الطبيعي بهذه الروح، أن يستنكر البيان ما يسميه: "الميل الخطير، الشعبوي والديماجوجي للاحتفال بالموت المسمى شهادة". وهكذا فإن كل المقاومين والمقاتلين من أجل حرية بلادهم في مواجهة الاستعمار الأمريكي هم عند الليبراليين العرب "حالة ديماجوجية"! وليس مقاومة شرعية، شهدت مثلها كل البلدان المحتلة، وهي مثل كل مقاومة تعرض نفسها للموت.

أخيرا فإن البيان حين يتحدث عن العولمة فإن ما يؤرق كتابه هو: "ذلك الصراخ الهائج ضد العولمة، فيما مجتمعاتنا تتحرق إلى الرساميل والاستثمارات". وهكذا فإن مواجهة الطابع الوحشي للعولمة هو في البيان "صراخ هائج"، ومجتمعاتنا تتحرق (!) إلي الاستثمارات؟ فهل تتحرق مجتمعاتنا إلي رؤوس الأموال حقا؟ وهل أن تلك هي مشكلتها؟ أم أن مجتمعاتنا تتحرق إلي العدالة والتنمية والتحرر؟

ويدعي البيان الموضوعية، حين يتحدث عن الأصولية الإسلامية، والأصولية المسيحية، لكنه في الوقت ذاته يشوه القضية تماما حين يطرح الصراع بين الشعوب والاستعمار على أنه صراع بين أصوليات دينية، ويموه بوعي على حقيقة الأهداف الاستعمارية وحق الشعوب في النضال ضد تلك الأهداف.

ويوجز البيان الموجه ضد المقاومة والديمقراطية أهداف صياغته في العبارة التالية: " وقصارى القول إن الشعور الظافري، أكان عنوانه المقاومة أم الديمقراطية، يزيد الصورة الملبدة تلبدا". هكذا إذن، يرى الليبراليون العرب المقاومة والديمقراطية، مجرد عامل يزيد الصورة تلبدا!

أخيرا يعتبر البيان الذي لم يذكر حرفا عن مشكلتنا الرئيسية وهي الاستعمار، ولم يتجرأ على نقد السياسة الأمريكية بحرف، أنه بذلك قد عمق الأمور بصرخة ضد التبسيط! من الذي يحاول الليبراليون العرب خداعه؟ لو أنني شخصيا كتبت بيانا كهذا، لما تمكنت من النظر إلي نفسي في المرآة، لأنني أعلم أنني سأرى شخصا يخدع نفسه ويخدع الآخرين بالتمويه على كل الحقائق بكلمات مبهمة. ثم.. من أجل ماذا؟ وهل يمكن لهذه المواقف أن تنتمي إلي الليبرالية؟

أية ليبرالية هذه؟ السؤال هو: لماذا يصدر بيان كهذا في مثل هذا التوقيت؟ هل يريد الليبراليون أن يقولوا كلمة أخرى، في مواجهة مطالب التغيير العامة التي تشحن ضمائر المصريين والعرب؟ هل يريد الليبراليون أن يقولوا لنا: لا تسيروا وراء المقاومة والديمقراطية، إنه طريق مسدود، عليكم أن تلهثوا وراء الاستعمار الأمريكي والسلطات الحاكمة؟ هل هذا هو تفسير صدور ذلك البيان في هذا الوقت الذي تطالب فيه كل فئات الشعب المصري بالتغيير والديمقراطية؟ وتلح على دعم مقاومة الشعبين العراقي والفلسطيني والتصدي للاستعمار! الجديد؟

وفيما يلى نص البيان الصادر عن مجموعة المثقفين التى أطلقت على نفسها "الليبراليين العرب"

ليبراليون عرب: صرخة ضد التبسيط

تلح التحديات التي تواجه مجتمعاتنا اليوم على طلب الموقف المسئول من المثقفين كتابا وصحافيين وجامعيين وغيرهم، حيال بعض القضايا الداهمة، يضاعف الإلحاح أن الفرز والاستقطاب العصبي في الأوساط الثقافية العربية يقللان القدرة على انقشاع الصورة وبلورة المواقف.

وما نحاوله، نحن الموقعين أدناه، صرخة ضد التبسيط إزاء العناوين الأهم في حياتنا وهو تبسيط يتوهم أصحابه أنهم يوقفون، بطقس المقاومة مرة وطقس الديمقراطية مرة أخرى، خرابا زاحفا وموتا عميما.

فنحن إذ ندين التداعي الذي يضرب مجتمعاتنا العربية باسم حروب مصيرية وقضايا مقدسة لم يبق منها إلا إطلاق وتائر التفتت وإدامة الهزائم، نذهب إلى أن الليبرالية التي نقول بها ولاء لقيم تحديثية وتنويرية أولا وأساسا، وليست أبدا ولاء للولايات المتحدة كائنا من كان المقيم في بيتها الأبيض. صحيح أن الوعي الليبرالي يعثر على مرجعيته الفكرية ونماذجه في التجارب الغربية فيطمح إلي مزاوجتها مع الإسهام القليل الذي أداه مفكرون عرب كالشيخ محمد عبده وتلامذته، لكن الصحيح أيضا أن هذه الحكومة الغربية أو تلك مرشحة،! بموجب حركة مصالحها وأمزجتها العارضة وما قد يلم بمجتمعها من تحولات، إلى التنكر لتلك الليبرالية نفسها. وهو جميعا ما يلزمنا بالتفريق بين الفكرة وبين مهدها الجغرافي والسياسي، وإلا قاد الولاء للفكرة إلي التحاق يتعارض مع الحرية، مرتكز كل وعي ليبرالي.

ونحن إذ نرى المخاطر الوجودية التي يرتبها الاستبداد، عسكريا كان أم مدنيا، علمانيا أم أصوليا، سلطويا أم مجتمعيا، على نسيج أوطاننا وحركة تقدمنا، نرى في المقابل أن الديمقراطية تتويج لمسار وليست أول المسار، كما يشيع من يسمون أنفسهم "ليبراليين جددا" هم أقرب إلى أن يكونوا محافظين جددا.

فمهمة التغيير التي تطاول المجتمعات نفسها، وتتعلق بتأسيس الشعوب العربية بوصفها شعوبا وطنية، لا عصبيات، أكثر مما تتصل بإطاحة حاكم من الحكام يستحق الإطاحة والتهليل، تاليا لفجر الديمقراطية البازغ. وإذا كانت المأساة العراقية بعد مكسب انهيار صدام وحكمه تحض على هذه الرؤية النقدية، يبقى مقلقا أن تظهر الطوائف المتحفزة في لبنان بعد إنجاز خروج الجيش السوري ومخابراته منه، وبقدر أبرزهم، وابتداء عمليات انتخابية هنا وهناك، يبعث فينا القلق اعتماد الحروب الخارجية من غير غطاء قانوني أداة لمثل هذه الإنجا! زات، وما يرافقها ويتلوها من صبيانيات تساوي بين الانتخابي والديمقراطي فيما تصنم هذا الأخير وترفعه إلي مصاف القداسة والرؤيا. وبالمعنى هذا فإن كل الأوصاف المحقة التي قد تسبغ على النظام السوري لا تبرر، ولن تبرر، في رأينا تكرار ما شهدته بغداد في دمشق بذريعة الانتصار للديمقراطية وحقوق الإنسان، ثم أن الغرب الذي نطمح إلي استعارة ما هو متقدم ومتنور في تجربته، مطالب بتوفير النموذج الذي يحاكي التقدم والتنور، وأول المحاكاة احترام القانون، فلا يحصل ما حصل في جوانتانامو وأبو غريب مثلا .

وبقدر ما ندين الإرهاب الوحشي في العالم الإسلامي، البنلادني، والزرقاوي، وسائر المتفرعات، الذي يمارس باسم الدين، ندين انبعاث بعض الإرهاب الفكري في الغرب، الذي يجد تسويغه المعلن أو الضمني في أصولية مسيحية هي، وإن لم تكن مسلحة، توفر للأصولية الإسلامية تبريرها الذاتي، وغني عن القول أن الأصولية لا يمكن أن تكون مرغوبة في مكان ممقوتة في مكان آخر.

ومثلما يستفزنا ذلك الميل الخطير، الشعبوي، والديماجوجي، إلى الاحتفال بالموت المسمى شهادة، وإلى المضي في القتال هنا وهناك إلي أن يغدو عالمنا قاعا صفصفا، يستفزنا ذلك التجاهل الإسرائيلي الفاجر، المستند إلى غض نظر أمريكي لحقوق الشعب الفلسطيني الذي تتبخر أرضه في صورة يومية.

ومثلما يؤرقنا ذاك الصراخ الهائج ضد العولمة، فيما مجتمعاتنا تتحرق إلى الرساميل والاستثمارات تفد إلينا من الخارج،ة يؤرقنا ذلك الصمت المقابل حيال تطوير صمامات أمان تقي الفقراء الموت جوعا، كما تساهم في تحصين مجتمعاتنا تجاه التطرف والإرهاب.

وقصارى القول إن الشعور الظافري، أكان عنوانه المقاومة أم الديمقراطية، يزيد الصورة الملبدة تلبدا، فالمسائل المطروحة علينا في فلسطين واليمن والسودان والمغرب تستعدي العقل أكثر مما تستعدي الحماسة. وتتطلب التفكير في مجتمعاتنا وانقساماتها، القديم منها والجديد، أكثر مما يتطلب التصدي "للغرب" أو التماهي مع "الغرب".

الموقعون:

مصر: صلاح عيسى – أسامة الغزالي حرب – السيد يسين –وحيد عبد المجيد - طه عبد العليم – نبيل عبد الفتاح – محمود أباظة – منى مكرم عبيد – - حازم الببلاوي – نصر حامد أبو زيد.
العراق : ابراهيم الحيدري – بدور الددة – جلال الماشطة – خالد القشطيني – رشيد الخيون – سامي زبيدة – سميرة المانع – سيار الجميل – صلاح نيازي – عارف علوان – غانم جواد – فاضل السلطاني – زهير الجزائري
وأسماء أخرى من لبنان والسودان والمغرب وتونس وسوريا والسعودية والأردن.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى