الأربعاء ١٤ تموز (يوليو) ٢٠١٠
بقلم نصيرة مصابحية

موقف الجابري و اركون و نصر حامد من التراث

تبلور الخطاب الفكري في عصر النهضة في خضم الصراع بين تيارات مختلفة، تحاول تأصيل أفكارها من أجل تجاوز الأزمة الحضارية. فلقد برزت مجموعة مـن التيارات التي تنادي باعتناق الـفكر الغربي كأساس منهجي علمي، يساعد العقل العربي على تخطي أزماته الفــــــكرية واللحاق بــركب الــــحضارة العالمية،وهناك مـــن رفض هذا الفكر وحاول الرجوع إلى التراث، باعتباره القاعدة الأساس التي من خلالها نستطيع الحفاظ على الهــــوية العربية،أما التيار التوفيقي فـقد نادى بضرورة التـوفيق بين الفكر الغـربي و الموروث العربي لضمان التحديث والسير بالفكر العربي في مسار الـتقدم و العلمية، وقد انقسمت الساحة النقدية والفكرية إلى:

تيار علمي علماني وتيار سلفي، يتجاذبان العقل العربي و يحاولان صياغة الخطاب الفكري العام صياغة إيديولوجية في أغلب الأحيان، فالتيار العلماني يـدعو إلى اعتناق الفكر الغربي و نبذ التراث الذي أصبح في نظرهم قاصرا عن احتواء الإشكاليات الفكرية الراهنة، أما التيار الإصلاحي فقد رأى في التراث العربي ضالته،لأنه يحمل من الفكر الحداثي العربي ما يماثل الفكر الغربي، لــــذلك دعو إلى تبنيه. ومن هــــذا المنطلق عرفت الثقافة العربية الحديثة مجموعة مـن المفكرين و الــنقاد الذين حاولوا بلورة الخطاب الثقافي العام من منطق فكري و منهجي، حيث شكل التراث القاسم المعرفي المشترك بينهم.

وقد تعددت آراؤهم واختلفت مناهجهم، فمنهم من درس التراث من منطلق عقلاني، محاولا تغيير نمطية الدراسات الفكرية وإخراج الإرث الثقافي من دائرة الاستهلاك والاجترارية، ويعتبر محمد عابد الجابري من أهم المفكرين الذين نادوا بهـــذه الفكرة، كـــما نادى آخرون بضرورة التخلص من الفكر الاستشراقي و إعادة صياغة الموقف الفكري الـــــراهن انطلاقا من إعادة استيعاب الذات العربية و جعلها المدار الأساس في الدراسة، و قد حــمل محمد أركــون لواء هذه الفكرة،أما نصر حامد أبو زيد وحسن حنفي فـقد حاولا إعادة تأويل الـنص الـديني، و الخطاب الديني من منطلق تاريخي، و على أسس مختلفة.

أما النقاد فقد اختلفت مناهجهم و تنوعت،فمنهم من نادى بالخرق و رأى فيه معيارا نقديا، يبرز الجوانب الحداثية في التراث العربي و يعتبر أدونيس من أهم ممثليه، أما بالنــسبة لعبد الله الغذامي فقد رأى بأن الــــتراث تتحكم فيه مجموعة من الأنساق الثاوية بين أرجاء نصوصه الإبداعية و التي تمارس إشعاعها الجمالي و الفني، على النص و عــــلى متلقيه لذلك يدعو إلى اكتشافها من خلال آلية النقد الثقافي ،أما عــبد العزيز حمودة فهو يرى بأن التراث زاخر بمختلف الإشارات التي تصلح أن تكون مبادئ لنظرية عربية أصيلة.

ولـــــكن مهما اخــــتلفت الـرؤى والإجراءات المنهجية المتبعة من ناقد إلى آخر ومن مفكر إلى آخر، فإن هؤلاء جميعهم حاولوا إثراء الموقف الثقافي العام، وانتشال الفــــكر العــــــربي من براثن الجمود والتبعية

1-التراث في كتابات محمد عابد الجابري:

النظرة العقلانية للتراث:

ينطلق الـجابري في مـشروعه الفكري من نقــد مقومات العقل العربي ومرتكزا ته المعرفية،متجاوزا بذلك فكر المصلحين النهضويين لتأسيس وعي نقدي قائم على الديمقـراطية والليبرالية والحداثة، محاولا بذلك إرساء دعائم الفكر التراثي الأكثر نضجا وعلمية،وإعادة قراءته من منطلق حداثي، مستثمرا بذلك المناهج الغربية لدراسته.

ويرى الجابري أن التراث يتطلب قراءة نقدية جديدة و جدية، تسعى إلى الكشف عن مكامن قصوره ومحاولة تخطيها، وذلك بالاستفادة من المواقف التراثية التي شهد لها بالعلمية والـتفوق و القــدرة على التحــقق في الواقع الفكري الراهن،من خلال إعادة صياغتها من جديد.

ويرى بأن هذه الإمكانية لا تتحقق إلا من خلال تطبيق بعض المناهج الغربية باعتبارها أدوات منهجية علمية تساعده على كشف أغوار التراث، " لذلك استحضر أطرا مـــرجعية مختلفة، من الــــديكارتية إلى فلسفة الأنــــوار التي تظهر جليا في تركيزه على فكرة التقـدم والعـقلانية، كما نلمس حضورا متميزا لفلسفة فوكو M.Faucoult و التو سير L.Athusser و غراميشي A Gramissi والماركسية في صورتها النقدية وليس في شكلها العقائدي" [1] وهـو بذلك يقول بفكرة عالمية الثقافة،وإن الفكر الغربي بحداثته ما هو إلا جزء من المـورث الحضاري الإنساني،حيث يستطيع الـناقد العربي استثماره بما يخدم رؤاه وخلفياته المعرفية وبذلك فإن هذا المفكر يدعو إلى تطويع المناهج الغربية،وإعادة صياغة بعـض أسسها بما يخدم خصوصية النص التراثي، انطلاقا من فكرة قابلية المنهج للتغيير،ولا يعني هــذا اجتثاث المنهج الغربي من سياقاته المعرفية وإنما هي دعوة علمية رصينة تحاول تأطير المناهج الغربية ضمن فضاء فكري و ثقافي عربي، من خلال إعادة البلورة المنهجية العلمية الدقيقة، فهو بهذا يضع الحداثة الغربية في، " سياقها الـــتاريخي و ملابساتها السوسيوثقافية،ومن خلال هذه الرؤية الـــنقدية الـــمتبصرة،يحـاول استثمار انجازاتها المعرفية و المادية بما يتماشى وخصوصية الواقـع العربي" [2] .

فالتراث في فكر الجابري قد شكل القاعدة الأساس التي من خلالها نستطيع تغيير الموقف الفكري الراهن، لــذلك يطرح هذا المفكر العقلانية كرهان نقدي و فكري، يساعــــد عـلى تأصيل حداثة فكرية، بدل حداثـة عصر النهضة العربية المستلبة التي زادت من تعميق هــوة الاغــتراب الذاتي للمفكر العربي، و ضياعه ضمــن قـطبين متعاكسين، إما الانبهار بالــفكر الغربي و رفض المـوروث بصـفـة مطلـقة، أو الارتماء في محراب الماضي و تقديسه و رفض الفكر الغربي رفـضا مـطلقا، وقـد أدى هـذا التشتت في المواقف حــسب الجابري، إلى افتقار الساحة الفكرية لمنهج علمي دقيق، يـساعد الباحث على رصد الــظواهر الفكرية بطريقة علمية دقـيقـة واعية حيث يقـول: "إنه بـدون التعامل العقلاني مع تـراثنا لن نتمكن قط من تعميم الممارسة العقلانية على أوسع قطاعات العقل العربي المعاصر، القطاع الذي ينعت بالأصول حينا و السلفي حينا آخر، كما انه يبدو بدون هذه الممارسة العقلانية على معطيات تراثنا، لن يكون في إمكاننا قط، تأصيل العـطاءات الفكرية التي يقدمها أو بالإمكان أن يقدمها قطاع آخر من فكرنا العربي المعاصر." [3] 
 
فتغيير مكونات فهمنا للخطاب الديني،حسب الجابري يفرض علينا تحريره من سلطة الإديولوجيا السياسية،التي كانت توجهه و تفرض عليه دعمها،ومن هنا تحـددت فـاعلية العــقل العـربي في إنتاج وعيها بما يخـدم الساسة و أفكارهم،وبالتالي تأطير جميع العلوم العربية بسياج سياسي، أدى إلى تحويل مبدأ الفاعلية إلى مفعولية سالبة، حجرت العقـل العربي وحجزته ضمن منظور إيديولوجي مغلق لذلك فإن رهان العـقلانية الذي طرحه بديلا يساعد حتما على ترميم تلك الفجوة الإبستيمولوجية العميقة التي خــرفت العقل العربي جراء تحكم السياسة في مجاله المعرفي، " لقد كانت المواقف السياسية وهي جزئية بطبيعتها يبحث لها عن سند من الدين وكــان ذلك أولى الخطوات التنظيرية التي أسست ما سيطلق عليه فيما بعد اسم علم الكلام،إذن فعلم الكلام في حقيقته التاريخية لم يكن مجـــرد الكلام في العــقيدة بــل كان ممارسة للسياسة في الدين، وعنــدما اتجـهت المعارضة ثم مـــن بعدها الدولة على الموروث كان هـدفها هو توظيفه في نفس الممارسة السياسية في الدين " [4].

 وحتى نجتاز تلك الحـواجز الإيديولوجية التي صنعها المتقدمون يجب علينا أن لا نقيد أنـــفسنا بقضايا التراث الماضية دون تعديل ولا نقد،لأن الساحة النقدية والفكرية لطالما أعادت قضايا تراثية واهتمت بجـردها واستهلاكها كما هي، وبالتالي شغل العقل العربي المعاصر نفسه بإشكاليات التراث القديم وهمومه الماضية دون أن يشارك في حل أزماته "إن الساحة الثقافية العربية الراهنة التي يتكون فيها العقل العربي المعاصر ساحة غـريبة حقا إن القضايا الفكرية السياسية الفلسفية والـدينية التي تطرح فيها الاستهلاك والنقاش قضايا غير معاصرة لنا،إنها قضايا الماضي تجتـر اجـترارا من طرف قسم كبير من الفقهاء والعلماء والأدباء أولئك الـذين يعيشون مغتربين بعقولهم عـن الماضي محكومين بكل سلطاته الظاهرة منها والخفية السياسية والإيديولوجية" [5].

وانطلاقا من هذه الفكرة فإن التراث في بعده المعرفي،أصبح يشكل حلقة إيديولوجية ضخمة أعاقتنا عــن استيعاب واقعـــنا وماضينا بالطريقة الصحيحة، لذلك يدعو إلى قراءته قراءة عقلانية تساعده على الـتبلور فكرا وإرثا ثقافيا له وزنه في حاضرنا بعيدا كل البعد عن التعصب ولأدلجة.

و نجده يصر على إعادة فهم ابن حزم والشاطبي اللذين أسسا بحق وعيا علميا جديدا بالنص القرآني وعلم أصول الفقه إذ أخرجاه من دائرة المتعارف والمألوف وصبغاه بصبغة عقلانية ترمي إلى إعادة تفعيل الفكر العربي الذي اختصر في مجال توليد النصوص وتفسيرها.

فإبن حزم من خلال منهجه الظاهري حاول أن يقطع الحبل السري مع مجمل الثقافة السائدة، حيث دعا إلـــى التنصل من ســـلطة السلف أي التخلي عـن التقليد وسلطة القياس التي تعتبر أهـم مكونات الـفكر العربي. فالقياس أدى إلى الابتعاد عن الأصول وتشعب النزاعات والـخلافات حــول القضايا والأمور الدينية لأن أهل القياس"جميعهم مختلفون في قياساتهم،لاتكاد توجد مسألة إلا توجد طائفة منهم تأتي بقياس تدعي صحته وتعارض بت قياس أخرى وكلهم مقرون مجمعون عـلى أنه ليس كل قياس صحيحا ولا كل رأي حقا " [6]

فالجابري يرى أن ابن حزم استطاع أن يعقلن فهمنا للدين،حيث استوعب الخطاب الديني من منطلق منطقي رافضا بذلك فكرة العلة الفقهية التي أحل محلها فكرة العقل التكويني أي" الانتقال من المقدمتين إلى نتيجة تلزم عنهما لزوما ضروريا،أو الانتقال من لازم إلى ملزوم أومن كلي لـجزئي إلى غير ذلك من القواعد المنطقية التي يجتهد ابن حزم في تطبيقها بل وفي تبييئتها مع موضوعه، والشيء الأساس الذي استبعده ابن حزم استبعادا تاما هو التعليل الذي يبنى عليه القياس الفقهي" [7].

 وانطلاقا من الاتجاه الظاهري الذي سلكه ابن حزم في تعامله مع البيان العربي فإن الجابري يدعو إلى التعامل مع التراث مــن منطلق عقلاني لأنه المنهج الأنسب الذي مـــن خـــلاله نستطيع أن نكتشف الدرر الحسان في الفكر العربي التراثي،وأن نطوع هذه الدرر بما يخدم الواقع الراهن.

فتجديد العقل عند الجابـري إذن هو ذلك التفاعل بين مرحلتين تـاريخيتين على المستوى الفكري، فالتراث هو الوسيلة التي من خلالها نتخطى الأزمة الفكرية الراهنة،لأنــه يــحمل مكونات العقل العربي و يعتبر نتاجا له فاعلية إيجابية، من خلال إعادة تمثله تمثلا عقلانيا واعيا.

  نصر حامد أبو زيد:

 القراءة التاريخية:

 يرفض نصر حامد أبو زيد النظرة السكونية المتوارثة و يدعو إلى صياغة الفكر الـــعربي عامة، انطلاقا من خلخله البنى المعرفية المتأصلة في الـــثقافة العربية،فهــو يحـــاول بلورة نــظرته الشمولية على أساس فكرة البعث، أي انه يحاول أن يصوغ التراث خصوصا الديني صياغة جديدة باستخدام الآليـات والمناهج الـعلمية ـ بطبيعة الحال ـ الغـربية،هذه الصياغة إنما كانت مستندة إلى أفكار عـصـر النهضة الغربي خصوصا فكرة "العلمانية"قد تحولت هـذه الفكرة عند أبي زيد إلى رغبة جامحة في إلغاء القداسة عن التراث و فصل التراث كمعطى فكري إنساني عن القرآن " بعبارة أخرى أدى التوحيد بين الدين والتراث إلى إضفاء الـقداسة على ذلك التراث، وإلى تحويله من مرتبة النصوص الثانوية إلى مرتبة النصوص الأولية واقتصرت مهمة العقل على التكرار والشرح والترتيب، وقد أدى هذا كله إلى ركود الثقافة التي عززت بدورها ركود الواقع العربي المنتج لهذه الثقافة" [8]

لذلك نجده يؤكد على التحرر من سلطة السـلف الدينية التي تحـولـت في وقتـنا الراهـن إلى ايدولوجيا فكرية ودينية ألغت مبدأ العلمية، وفسحت المجال أمام "مبدأ الحاكمية"، الذي أنتج بدوره أنماطا خاصة في التفكير، قولبت الفكر العربي الإسلامي ضمن مجموعة من الآليات التي يعـد الخروج عـنها ضـــربا من الإلحاد و الكفر.

وانطلاقا من هذه النقطة فإن أبا زيد يقوم بالتفرقة بين الخطاب الديني والدين باعتباره مجموعة مـــن النصوص التي على ضوئها يفسر القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، فهذه النصوص هي التي تساعد على فهم النص القرآني، أما الدين في نظره فهو عبارة عن نص مقدس ثابت تاريخيا.

و بالتالي فهو يحاول تأسيس منظومته الفكرية على نقد تلك النصوص التراثية "التفسير،الاجـتهـــاد، الاستنباط "، و التي يرى بأنها غيبت العقل و الوعي العلمي العربي و جعــــلت الثقافة العربية ككل تختزل في آلية تفسير النصوص و شرحها، حيث يقول:" هكذا تحــددت قــــوانين إنتاج الـمعرفة في الـثقافة العربية على أساس سلـــطة النصوص وأصبحت مهمة العقل العربي محصورة في تـــوليد النصوص من نصوص سـابـقة" [9]
 
لقد أصبحت أقوال العلماء واجتهاداتهم نصوصا مشرعة وانحصرت بذلك مشروعية العـقل العربي في مجال محدد وهو مجال توليد النصوص وشرحها، و قد استفحلـت هذه الظاهـرة لتـشمـل العـلوم العربية برمتها، حيث يقول: 

 "واقتصرت المؤلـفـات على أن تـكـون شروحا لمؤلفات سـابقـة و قد يوضـع المـتن في الهـامـش الجانبي و يـتناول الــشـرح عـبارة الأصل المشروح عبـارة عبارة بـشرحها اللغـوي والفقهي و بيان ما غمض من شأنها ثم تكثر الشروح على الشروح، ولم تنج العلوم العقلية من المصير ذاته وصارت كتب علم الكلام المتأخرة شروحا على متن قديمة " [10]
 
ومما ساعد على تثبيت هذه الآلية و تعميقها في الفكر العربي إلى وقتنا الراهن هـو نمطية الخطاب الديني المعاصر الذي يحاول تأصيل السلفية لخدمة أغراضه الايـدولوجيا " وجعل الإسلام الإطار المرجعي الوحيد لكل معرفة ولكل ممارسة وسلوك"" [11] ، لــمواجهة الآخــــر المسيحي الذي أصبح يشكل أحد طرفي المعادلة النهضوية،وقد استغـل هذا الأخير موقف"الإطارالمرجعي الوحيد" ورسخ فكرة أن الإسلام هو العامل الأساس لتخلف الـعرب والمسلمين، و قد قامت الجماهير العربية باحتضان هذه الصورة السلبية وأعادت صياغتها في ذلك التشتت الفكري الذي شهده عصر النهضة العربي حيث انقسمت الساحة الفكرية إلى تيار علمي علماني و إلى تيار ديني إصلاحي. 
 
 ويرجع أبو زيد فشل النهضة العربية إلى غياب وعي علمي بالتراث و تعقد عـلاقتنا بالآخر، بالإضافة إلى إهدار التاريخية من السياق الـثقافي العـام. فالتاريخية كمفهوم إجرائي حسـب أبي زيد يستطيع أن يحرر الفكر العربي من سطوة التراث وشمولية الفكر الديني،الذي اختزل العـقـل العربي فـي مفهوم ماضوي ســلبه إمكانية الـتطور و التقدم.

فالخطاب الديني منذ عصر التدوين سطر طرائق خاصة في الـتفكير،وتعتبر القداسة والسلطة من أهــم إفرازاته،لذلك فإن أبا زيد يبدأ من المسلمات التي رسخها الخطاب الديني التراثي و جعلها قواعد شرعية،وذلك بنسفها و إلغاء القداسة عنها و أول قاعدة يبدأ بها هي قضية"خلق القرآن".

 فهو يرى بأن الـــقرآن باعتباره خـطابا إلاهيا لا يعني عدم قابليته للتحليل وفـقا للمناهج العلمية الغربية،لأنه تجسد باللغة الإنـــسانية "العربية"،و بالتالي فهــــو نــص تاريخــي له وجــوده الفعلي في الزمان والمكان،لذلك يجب علينا أن نـفهم الـقرآن فهما مغايرا ومحايدا عما ورثناه،لأن الخطاب الديني المعاصر يهدف إلــى ترسيخ الماضي في الحاضر كما هـو، بالإضافة إلى أنه ضاق عن استيعاب الواقع المعاصر وعـجز عن التعبير عت مشاكله، وبالتالي فإن تغـيير واقـعنا حسب أبي زيد مرهـون بتغيـير موقفنا من التراث، و بتجـديد طريقة فهمنا للـقـرآن.

 -محمد أركـــــــــــــــــون :

الإسلاميات التطبيقيــــــة :

خطا نقد الفكر العربي والإسلامي بصفة عامة عند أركون خطوات نحو إقامة قطيعة معرفية مع الكتابات الإيديولوجية التي قرأت التراث،وذلك بإرساء أسس المـناهج الغربية كتقنيات إجرائية تساعد على بتر الصلة مع التيارات السلفية العربية والثقافة السائدة، بغية إقامـة منهـج علـمي حديث يتجـاوز نـظام الفكر المؤسس،و ذلك لتحقيق التغيير الاجتماعي و الفكري على حد السواء.

في هذا الإطار ينطلق محمد أركون من نقد الإسلاميات الكلاسيـكية ( الاستشراق) الـتي يـرى بأنـها تناولت الفكر العربي الإسلامي تناولا خارجيا وظيفيا لا يتعدى حدود الدراسة الشكلية البحتة، فهي لم تدرس ذلك الفكر من"خلال عملية انخراط ابستمولوجي كاملة " [12]،
بــهدف الــوصول إلى مكامن الضعف في الثقافة العربية الإسلامية، وإيجـاد الحلول المناسبة لتخطيها, و إنما كـــان هدفها هو تثبيت مـركزية الفكر الغربي،"و من الواضح أن منهجية الاستشراق لا تؤدي في معظم الأحيان إلى تعرية الـمشاكل وآليات الهيمنة والتسلط السائدة في المجتمعات العربية الإسلامية و هي تبدو في معظم الأحيان متواطئة مع الأرثوذوكسية و الـفئات المهيمنة داخـــل هـــذه المجتمعات بالذات، فهي باختصار لا تـؤدي إلى تحرير الفكر وهو آخر شيء تفكر فيه " [13]

يـدين أركون الإسلاميات الكلاسيكية لقصور منهجها عن احتواء الفكر العربي الإسلامي بطريقة علمية تساعده على تجاوز محنه الكثيرة و مآزقه الابستمولوجية، لذلك نجده يرفض آليات الفكر الاستشراقي لأنها تحصر التراث العربي و الإسلامي في مجال الدراسة السطحية الخالية من أي محاولة نقدية جدية،وبالتالي اختزال فاعلية الـفكر العربي الإسلامي في بوتقة المبدأ الاختياري، الــذي شنه المستشرقون كأساس لدراسة ذلك الفكر. ومن هنا فإن الاستشراق –حسبه- يساهم في " ترسيخ ما يدعوه أركون بالسياج الدوغمائي المغلق، في حيـن ينبغي عـــلى الباحث أن لا يكتفي بنقل التراث كما هو ولكن بعد نقله يبتدئ بتفكيكه و تشريحه عـــن طـريق الدراسة النقدية حتى تستفـيد منه المجتمــعات بصورة إيجابية " [14].

فــدراسة الــموروث الفكري العربي من قبل المستشرقين حجب الكثير من التفاعلات الفكرية العربية وسار بالـموروث في اتجاه المـوقف الإخــباري،لأن الباحـــث الغربي حــرم الفكر العربي و الإسلامي من الدراسة العلمية القائمة على أساس تطبيق الإجراءات المنهجية الحداثية كالألـسنية و الأنتروبولوجيا والتفكيكية وغيرها من الإجراءات العلمية، التي تساعد على كشف حـقائق الـفكر الـــتراثي العربي الإسـلامي والـمساهمة فـي تغيير واقـعه الفكري المتأزم، اكــتفى بسجنه في إطار الاثنوغرافيا (الـنظرة الفـلكلورية الإحتـقارية) كمنهج الدراسة. 
 
 لذلك يندد أركون بتلك المواقف الغربية خصوصا،"بالـموقف السائد للفكر الغربي اتجاه الثقافات الأخرى التي يتحكم بمسارها و تطورها عن طريق فرض نماذجه و قوالبه... أقول إن عليه أن يـتراجع من النظرة الإثنوغرافية التي يحملها اتجاه الثقافات الأخرى, في الوقت الذي ينبغي عليه أن يـطبق على المجتمعات الغـربية نفسها و عـلى تراثاتـها الثـقافـية منهجية المقاربة الأنثروبولوجيا ضمن الـخـط الــذي افتتحــه، (George blindiez)جــورج بلانــديــه أو ( pierre Bourdieu) بــيـير بـوروديـو،ينبغي أن نلاحظ أن الفكر
الغربي يرفض الانخراط في خط كهذا" [15].

فالـفكر الغربي إذن يزاوج بين منهجين للدراسة أحـدهما علمي دقـــيق يــطبقه على ثـــقافته ومـــوروثه الفكري، والآخر إيديولوجي يهدف من خلاله إلى تثبيت مركزيته الفكرية والإعلاء من شأن صورتــــه العلمية، وهــــذا بـدراسة الموروث العربي الإسلامي دراسة إسترجاعية، تقوم على ســرد الــــمواقف السالبة في هـــذا الــــفكر بالإضافة إلى حـصره في التجليات الأصولية المتزمتة للدين، أي تأطيره ضمن (سياج دوغمائي مغلق.

يقصد أركون بهذه الفكرة سيطرة الفكر الديني السكولاستيكي على واقع الثقافة العربية الإسلامية، وخلوها من أي فــكر فلسفي أو علمي يساعد على تطوير الواقع الثقافي وبالتالي سجن العقل العربي والإسلامي بصفة عامة في عملية استنباط الأحكام من النص المؤسس "الـقرآن"، ومحاولة تطبيقها على الواقع مما أدى إلى تنميط فاعلية العقل العربي في آلية توليد النصوص كما يقول أبو زيد.

ويثور أركون على هذه الآلية محاولا إقامة بديل فكري يساعد العقل العربي والإسلامي على تخطي أزمته،وهذا البديل يطرحه في فكرة الإسلاميات التطبيقية، وهي حسبه عـبارة عن "قراءة ماضي الإسـلام وحاضره انطلاقا من خطابات المجتمعات العربية الإسلامية وحاجاتها الحالية". [16].

فهو يسعى إلى تحليل الواقع الفكري والاجتماعي بعيدا عن سلطة السياج الـدوغمائي المغلق و ذلك بتطبيق مناهج العلوم الاجتماعية والإنسانية والتي يعتبرها وسيلة ناجعة لإبطال مــقولة أن الـتراث هو ذلك الـمعطى الفكري المكتفي بذاته،والذي نستطيع توظيفه في واقعنا المعاصر لحل أزماتنا الفكرية الراهنة،لذلك يــحــاول الـــنفاد إلى عمـــق المشكلات من خلال، "عملية انخراط ابستيمولوجي كاملة ". [17].

ومن خلال نقد العقل العربي والإسلامي يحاول أركون صياغة الموقف الإشكالي العام، والذي يتمثل في تلك العلاقة القائمة بين التراث والحداثة فهذه الإشكالية حظيت طيلة سنوات كثيرة باهتمام كبير من قبل النقاد و المفكرين، الذين ترصدوها منذ عصر النهضة إلى يومنا هذا، و قد صيغت هذه الإشكالية بطرق مختـفة أدت إلى ثـــراء الساحـــة الــنقدية والفكرية بالكثير مــن المواقف المختلفة والمتضاربة في أغلب الأحيان، ويحاول أركون حل هذه الإشكالية من خلال إرساء (وعي تاريخي) الذي أحله محل التفسيرات اللاهوتية والأسطورية، و ذلك حتى يكتسب الـــفكر العربي الإسلامي بعدا علميا أكثر،و نجده في هذا الصدد يميز بين مصطلحين متقاربين (الحداثة و الــتحديث)،و يرى بأن هذا الأخير (التحديث) مــــقتصر فقط على تطبيق المناهج الغربية و الفكري الـــغربي بطــريقة آلية على الواقع الفكري الإسـلامي العربي دون أي خلق أو محاولة تعديل، أما الحداثة التي يعــــنيها هذا المفكر فهي التي تتخطى حـدود الزمن و تلغي حواجزه لأن الحداثة أكبر من أن تؤطر بسياج التاريخ فـهي "موقف للروح أمام مشكلة المعرفة "  [18].

ومن هنا فإن أركون يدعو إلى حداثة علمية واعية تتجاوز كل أنماط التحديث السطحي،و ذلك من خلال قراءة الموروث و الواقع الفكري قراءة إنسية " Humanisme " جـديدة بعيدة كل البعد عن الاتجاه القروسطي،الذي يشكل نوعا مـن الوصايا الفكرية على النتاج العقلي العربي الإسلامي، فإذا استطعــــنا التحلل من ذلك الاتجاه حسب أركون استطعنا أن نتحرر من قبضة الثقافة الموروثة و أن نعتلي أول درجة في سلم التطور الفكري و العقلي.
 
الهوامش

 1- عبد الوهاب شعلان: إشكاليات الفكر العربي المعاصر في أطروحات أركون، الجابري العروي، حسن حنفي، علي حرب، مكتبة الآداب القاهرة، ط1 2006، ص26 
 
2- المرجع نفسه: ص 26

3—عابد الجابري:-بنية العقل العربي: دراسة تحليليي نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ط1 1986 ص 552 


[1عبد الوهاب شعلان: إشكاليات الفكر العربي المعاصر في أطروحات أركون، الجابري العروي، حسن حنفي، علي حرب ص26

[2المرجع نفسه: ص 26

[3عابد الجابري بنية العقل العربي دراسة تحليليي نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية،ص 552

[4محمد عابد الجابري: تكوين العقل العربي ، ص 303 

[5الجابري: بنية العقل العربي ص 572

[6 الجابري: تكوين العقل العربي ص 303

[7المرجع نفسه:ص 305

[8 نصر حامد أبو زيد: النص السلطة الحقيقة ص20

[9المرجع نفسه ص19

[10المرجع نفسه ص20

[11المرجع نفسه ص20

[12شعلان: إشكاليات الفكر العربي المعاصر ص18

[13-13محمد أركون: الفكر الإسلامي نقد و اجتهادص194

[14فارح مسرحي:الحداثة في فكر محمد أركون ص102-103 

[15 10المرجع نفسه ص32

[16المرجع نفسه ص31-32 

[17شعلان:إشكاليات الفكر العربي المعاصر، ص 18

[18المرجع نفسه: ص18


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى