السبت ٢٤ تموز (يوليو) ٢٠١٠
بقلم فلاح جاسم

الدخول إلى الجحيم

لم أتخيل الجحيم يوماً، ولم أفكر في ذلك، نظرتُ إلى الساعة في معصمي فإذا بها تشير إلى السابعة والربع صباحاً بتوقيت مقاطعة الرماد. ناولتُ الموظف جواز سفري، ليمهره بختم أزرق كدماء النازيين، يمكنني من العبور إلى بيتي بعد غربة دامت لمدّة أربع سنوات عجاف، من ناحية المشاعر، وكلّ ما يمتّ إلى القلب بصِلة.

أدخل الموظف رقم جواز السفر في الجهاز الذي يقبع أمامه، وقد اتسخ من سوء أفعال من تعاطى معه، وتلوث من الخارج ملطخاً بسواد لكثرة ما تعاقب عليه من أيدٍ.سمعتُ طقطقة الأزرار تحت أصابع الموظف الذي يعمل بشكل روتيني لا يعبأ بشيء، وأنا كذلك، لكن توجستُ خيفة عندما فغر فاهه، وحدّق واقترب من الجهاز أكثر، ووضع جواز السفر جانباً، وقال:

أستاذ، ممكن تتفضل " لعندي بالداخل؟ " .
نظرتُ إليه مستغرباً ومستفسراً،

لماذا ؟؟؟
لاشيء، مجرد إجراء روتيني، يبدو أن هناك تشابه أسماء.
تشابه أسماء ! هذا أكثر ما يخيفني في حياتي...
ماذا قلت؟
لاشيء، أنا آتٍ إلى الداخل.
تفضل.
دلفتُ إلى الداخل من باب حديدي متسخ من آثار الأيدي وما تلطخت به... قلت في نفسي: تشابه أسماء ! اللعنة.. إنها نهاية قاتلة.. أتكون تلك هي القاضية؟؟؟

تشابه أسماء، تشابه وجوه، تشابه أفكار، تشابه أقلام، تشابه أحلام...المهم إنه تشابه من نوع ما!!! ما أكثر الذين يقبعون تحت التراب بسبب " التشابه"، التشابه كان سبباً في تفجير رؤوسهم برصاصة غير طائشة، أو دقّ المسامير الفولاذية في جماجمهم.. والتهمة هي " التشابه"،كان ذلك من باب سدّ الذرائع، أو باب سدّ الأفواه، إن كانوا مجرمين فقد نالوا جزاءهم العادل، ويستحقون ذلك، وإن كانوا غير ذلك فسيكون حسابهم في الآخرة على قدر أعمالهم،وهذا هو قانون الدار الآخرة، والحسنة بعشرة أمثالها،وبذلك يكون ما لاقوه من عذاب هنا كفارة لهم، ربما لأن الله يحبهم فقد سخرنا،- نحن عباد الله- لتعذيبهم لينالوا مكانة مرموقة في عليين.
قدمني الموظف إلى شخص يجلس إلى طاولة رمادية اللون، ليست بأحسن حالا من الباب وجميع ما في الغرفة من أثاث، نظرتُ إلى الشخص الجالس؛ شاب في الثلاثينيات من العُمر، حليق الذقن والشارب، عريض الجبهة، ذو أنف طويل، منتفخ العينين مع هالات سوداء تحتها، ربما هي آثار إرهاق أو غيره، هناك أثر لجرح غائر في خده الأيسر، وقد فتح أزرار قميصه حتى بدا شعر صدره كثــّاً، على الرغم من برودة طقس ذلك الصباح. أشار لي أن اجلس على كرسي بجانب الطاولة، ثم أشار بعينيه للموظف الذي رافقني،آمرا إياه بالانصراف، جلستُ على الطرف الأمامي من الكرسي، ليست لديّ الرغبة بإسناد ظهري إلى الخلف بالرغم ما عانيته في رحلتي ووعثاء سفري هذا،خشية سوء المنقلب بعد تلك الجلسة. بدا لي أمر خروجي من ذلك المأزق بعيدا جدا؛ كولوج فيل هندي في سمّ الخياط، لا أدري ما الذي ذكرني بالفيلة، ربما لأنني تخيلت الدنيا في تلك اللحظة غابة بأوراق خريفية مصفرّة.

رفع رأسه، ونظر نحوي قائلا:

ما اسمك؟
في هذه اللحظة تخيلت شعره الكثيف علامات استفهام، تشرئب برؤوسها، نظرت إلى الجدران والأفق البعيد فإذا بها جميعا تبدو كعلامات استفهام. خاطبني بصوت آمر:

ألم تسمع؟؟؟ ما اسمك؟
رددتُ كمن استفاق من غيبوبة:

حسان.
قال بصوت آمر أيضا:

ماذا تعمل يا حسان؟
أستاذا جامعيا؛ دكتور في الإدارة.
أستاذ جامعي !!! غريب ..." الخط الأعوج لا يأتِ إلا من الثور الكبير "، قفزت إلى ذهني " النظرية الثورية"؛ أقصد "نظرية الثيران"، لو كنـّا ثيرانا كما قال، لحسب لنا الجميع على شاكلته ألف حساب،إذ أن إفلات الثيران في أسبانيا، إيذانا ببدء موسم مصارعتها يثير الرعب في نفس من يدبّ على وجه تلك البقعة، ويركض الجميع أمامها، حتى أن بعض الحشد المتراكض يقضي نحبه.نعم لسنا ثيرانا، كما قال، ولكننا ربما نكون فئرانا، أو ديدانا. رجعت إلى عالمه، حين سألني:
حسب جواز السفر إنك تمكث خارج البلاد منذ أربع سنوات. رددتُ:
نعم هو كذلك.
قال مستفسرا ومتهكما:

لماذا لم تأتِ في إجازة طيلة تلك المدّة؟ ألا يشرفك قضاء الإجازة في الوطن؟؟؟

قلت بنبرة فيها استعطاف، علّ الأمور لا تأخذ منحا آخر:

بلى، يشرفني، لكن ظروف المعيشة والعمل لم تسمح بذلك. ردّ عليّ، وهو يقلـّب في جواز السفر:
لكنك سافرت إلى دولتين أجنبيتين خلال تلك المدّة.
نعم، صحيح، لكن ذلك كان إيفاد من الجامعة التي أعمل فيها، لحضور مؤتمرات وورش عمل.
ورش عمل!جميع من يتعاملون مع الغرب يقولون ذلك
لم أحاول الدخول في نقاش، أو التمادي في الحديث، لأني خشيت أن أنبس بكلمة تجعل مجرد الشكّ أو "التشابه" حقيقة قائمة.

فتح زنزانة في الركن؛لا تنطبق عليها مواصفات السجون في جميع مقاطعات الرماد؛من حيث الشكل والإنارة والرائحة،حتى الباب كانت قضبانه الحديدية الطولية مدهونة، أدخلني في جوف تلك الزنزانة،كان هناك شخصان يجلسان متحاذيان،وأظنهما قد أدمنا السجن، أو هم ممن لهم خبرة طويلة في ذلك العالم،نظرا إليّ باستغراب، حيث أنني ارتدي بذلة رمادية وربطة عنق، سلمت عليهما وجلست في أحد الأركان، كان شيء داخلي يفصلني عنهم، على الرغم من كوننا "زملاء" في هذه اللحظة، رمقني الأول بنظرة فاحصة،جازما بأنه شخصني وعرف دواخلي،فقال مستفسرا:

محكمة اقتصادية أستاذ، أنت مستثمر كنت خارج البلاد؟
رددتُ بغير اكتراث:

لا، لست مستثمرا.
إذا ما هو عملك؟
أستاذ جامعي، دكتور في الجامعة.
ضحك الآخر، وقال:

حتى الدكاترة فيهم مجرمون، فالجريمة والأفعال غير القانونية ليست حكرا على الأميين.
ردّ الآخر:

ما هي تهمتك إذا؟
تشابه، " تشابه أسماء".
بسيطة يا رجل،موضوع بسيط،أنا وهذا الرجل جريمتنا تهريب مخدرات والمتاجرة بها،سُجنـّا في الدولة المجاورة؛ التي قـُبض علينا فيها لمدة سبع سنوات، ثم تمّ ترحيلنا إلى بلدنا هذا اليوم، قبل مجيئك بنصف ساعة، قبضوا علينا هنا لإجراء بعض التحقيقات، عملية روتينية "كلها كم شهر ويطلقوا سراحنا"، نحن تهمتنا-ولله الحمد- اتجار بالمخدرات وليست تشابهاً،أو تآمرا،أو تخاطرا...
كلام ذلك الرجل جعلني أفكر بأني سأحال إلى التقاعد بعد الخروج من السجن-بعد عمر طويل-، أصبحت تلك الفكرة وغيرها تنزل على رأسي كمطارق الحديد الثقيلة.
أشارت الساعة على الثانية عشر ظهرا، جاء احد الحراس بسلسلة غليظة، من الحديد، وأشار إلينا بالاقتراب منه ليضع أيدينا فيها، استغربتُ؛ كيف سيوثقنا جميعا بسلسلة ذرعها أقل من ذراعين! قلت له مترجياً:

عفوا، يا أخي، أنا أستاذ جامعي، ألا يوجد لديك "كلبشات" فردية؟
كيف تفضلها، "ستانلس ستيل"، أم ألمنيوم، أم مطليّة بالفضة؟
وامسك بيدي بهمجية، قائلا:تعال، تعال.. بلا فلسفة، ربطنا جميعا في تلك السلسلة، وقادنا إلى "باص" مظلل باللون الأسود كان ينتظرنا في الخارج، صعدنا إلى "الباص" مقتربين من بعضنا بعضا كي لا تـُشد السلسلة، جلسنا في كراسي تشكل صفا واحدا وراء بعضنا البعض،تحرك " الباص"،لا نعرف إلى أين وجهته،أحسست في تلك اللحظة أنه لا يوجد شخص طليق في هذا العالم؛ كلهم سجناء، كلهم لديهم "تشابه"من نوع ما، وصلنا بعد رحلة لا أستطيع تخمين مدتها؛ لأنهم عصبوا عيوننا بمجرد مغادرة نقطة الحدود، لكني أدركت بحدسي، إننا اقتربنا أكثر من قلب الوطن. نزلنا نصطدم ببعضنا، استقبلنا من قبل أصحاب المكان بوجبة من السبّ، والشتم، واللكم الترحيبي كما قالوا لنا. فصلونا من " الحبل السريّ الحديدي" الذي كان يربط بيننا، واقتيد كل منا إلى مكان ما، وجدتُ نفسي في غرفة معدومة الإضاءة إلا من لمبة يتيمة تتدلى فوق رأسي، حيث تمّ إجلاسي إلى طاولة، يقابلني عليها شخص بلحية سوداء، حسب ما أعتقد، لم أتبين كامل ملامحه بجلاء، سألني قائلا:

لماذا كنت تسافر للخارج يا دكتور حسّان؟
للمشاركة في مؤتمرات وورش علمية، ليس إلا.
قام من وراء الطاولة،وبادرني بضربة كادت أن تكون قاضية،لا أعرف ما نوعها،لأني لأول مرة في حياتي أتلقى مثلها، أحسست بألم في شفتي السفلى، فلعقتها بلساني، فأحسست بطعم الدم في فمي، فعرفت عندها بأن الضربة قد سببت لي جرحا في فمي. أمسك بي من شعري الأشيب الطويل وجرّني بكل صَلف، وغمس رأسي في حوض من الماء البارد، وثبتني فيه، حتى شعرت بأني على وشك الموت اختناقا، ثم رفع رأسي إلى أعلى مرددا نفس السؤال:

لماذا كنت تسافر للخارج، يا كلب يا حسان؟
ما كدت أنطق حتى أعادني للماء ثانية، فأحسست وقتئذٍ كأن الماء نارا تدخل في خياشيمي،وأخذ يكرر هذه العملية مرات عدة، لا أعرف عددها، لكنها متكررة، لأنه لم يعد يسألني، ولم أكن أنا بحاجة إلى أن أجيب.

منذ ذلك الحين، أصبحت أغرق في " شبر ماء"، وأكره أن يكون وجهي إلى الماء، حتى أنني ذعرت هذا اليوم عندما تظاهر حفيدي بالغرق وهو يسبح أمامي في النهر، فاستنجدت بمن حولي، فهبّوا كلهم لإنقاذه بلا تردد، مع أن النهر عميق، عندها تساءلت: لماذا لم يحاول أحد مساعدتي عندما كنت أغرق في ذلك الحوض من الماء، وكدت أهلك مرات عدة؟؟؟

مازال هذا السؤال يحيرني، ويحيّر كل من أخلي سبيله مثلي، بسبب عدم توفر الأدلة الكافية لـ"التشابه".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى