الاثنين ٩ آب (أغسطس) ٢٠١٠
سماويّات:
بقلم حسين سرمك حسن

مفاتيح الرؤيا والرؤية

كنت قد كتبت في أكثر من كتاب ودراسة ومقال إن على الشاعر المقتدر أن يمسك بمفاتيح الإجابة على سؤالين مركزيين هما: سؤال الرؤيا (لماذا أُبدع؟ أو ما هي الجدوى من كتابة الشعر؟)، وسؤال الرؤية:

(كيف أبدع؟ ما هي طريقتي في التعبير عن رؤياي؟). والإجابتان متماسكتان بقوة، وقدرة الشاعر على الإحاطة بهما، والغوص في أعماقهما توفّر له المدخل الذي سيسم منجزه الشعري بالأصالة والتفرد والتعبير عن إنشغالات إنسان بلاده وصولا إلى تجسيد هموم الإنسان في كل مكان . مثل الشاعر الذي لا يمتلك الإجابة على سؤال الرؤيا كمثل رجل خرج متمنطقا بأشد الأسلحة مضاء لكنه لا يعرف إلى أين سيذهب، وما الذي سيحاربه ؟ أما مثل الشاعر الذي لا يمسك بالنظرة النافذة إلى عمق سؤال الرؤية فهو كمثل رجل خرج وفي ذهنه أهداف مواجهة رهيبة وهو يتمنطق بأسلحة صديئة ومتهالكة. على الشاعر المقتدر أن يتسلح بالأدوات التي تناسب ما يحمله من أفكار وطموحات ونظرة إلى مديات فعل الشعر. شاعر يرى إلى الشعر وسيلة للتفريج على الطريقة الأرسطية

عن صراعاته الشخصية وإحباطاته الدفينة، هو غير الشاعر الذي يؤمن بقوة بأن في الشعر قدرات كبرى على تخفيف معاناة الإنسان ومعالجة المعضلات الوجودية الكبرى. ويمكن القول إن الشاعر المبدع "يحيى السماوي" قد أمسك، وبقوة، بجوابي السؤالين المهيمنين .. وقد عبر عن مستويات هذا الفهم العميق وتفصيلاته الدقيقة في الإهداء الذي افتتح به مجموعته الشعرية الرابعة عشرة "قليلك لا كثيرهن" والتي جاءت – وهذا أيضا يعبّر عن حذاقة فهمه لأبعاد العملية الشعرية الإبداعية – في صورة قصيدة استهلها بقوله:

(للطفلِ يحبو فوق أرصفة الكلام) – قليلك لا كثيرهن، ص 13- وحين نراجع المنجز الشعري للسماوي بأكمله – بمعنى المجموعات الشعرية السبع عشرة التي أصدرها حتى الآن – فسنجد أن الطفولة .. استعادة ذكرياتها البهية .. الطبيعة الفردوسية الآسرة في العيش في الرحم الأمومي المنعم .. تمظهرات القدرة الكلّية التي لا تجد أفضل من سماوات الشعر تحلق فيها و .. تؤسطر .. وتحيي وتميت .. أقول سنجد هذه الطفولة موضوعة وثيمة ورمزا أساسيا في بنية القصيدة "السماوية" .. وقد جاء هذا البيت الاستهلالي دقيقا جدا في توصيف ما قلناه .. فهو لا يستهدف معالجة الطفولة كمرحلة عمرية فيها البراءة رغم أنني لا اصدق بأطروحة "براءة الأطفال " فالطفل هو أشرس كائن أناني في الوجود، وذو طبيعة حيوانية .. هو "الهو" اللذّي الحيواني الذي لا يعرف تأجيلا لرغبة ولا تعطيلا لغريزة .. يحيى يستهدف المعنى الشعري للطفولة.. الطفولة كعملية شعرية ولهذا حددها بـ (للطفل يحبو فوق أرصفة الكلام) هو الحبو الذي يخرق حدود الموجودات المادية وينفذ بـ "براءة" إلى لبها .. هي نظرة الراشد الشاعر البريئة والمفعمة بالدهشة إلى الكون والحياة والموجودات .. ويقول "بابلو نيرودا" في مذكراته "أعترف بأنني قد عشت" إن صديقه الشاعر "روخاس خيمينيث" قد أسس مدرسة شعرية جديدة باسم «آغو»هذه الكلمة، كما كان يقول، هي صرخة الإنسان الأولى، أول بيت شعر ينطق به الوليد). وحين يذكر الشاعر الطفل فإنه لابد أن يطرح طرفي مثلث العلاقة الوجودية الكبرى في الحياة: الأم والأب:

(للأمّ تحضنه .. تزقّ مكارم الأخلاق

للأبِ

عائدا بحصاد ساعده الحلال

معطرا بندى الجبين) –الصفحة نفسها-.

فلا تتأسس علاقة أصيلة وحقيقية إلآ في ظل هذا المثلث الذي اعتدنا على أن نسميه في التحليل النفسي "المثلث الأوديبي" .. وسنرى – من جديد- أن للأم أساسا وللأب بصورة ثانوية حضورا مهيمنا في المنجز الشعري للسماوي . فحسب الناقدة الدكتورة "فاطمة القرني" فإن (للأم وجودا في سبعة وعشرين نصا من إجمالي نصوص هذه الدراسة، منها أربع وعشرون قصيدة وثلاث رباعيات) ونقصد بـ "الدراسة" بحثها الأكاديمي الموسوم "الشعر العراقي في المنفى – السماوي نموذجا" والتي يهمنا أن نشير إلى أنها اشتملت على مراجعة وتحليل خمس عشرة مجموعة شعرية فقط ليحيى ولم تتضمن المجموعات الثلاث اللاحقة: البكاء على كتف الوطن، شاهدة قبر من رخام الكلمات، ومسبحة من خرز الكلمات، التي كان فيها للأمومة المعطاء حضور بارز أيضا. ويوحي تعبير (للأم تحضنه) بالدور الأنثوي الإخصابي المعطاء المرتبط بالطفولة .. بالخلق الإلهي .. وبتعزيز الطهر والرفعة الخلقية في نفس النتاج الإخصابي .. أما الأبوة فهي الذكورة التي "تحصد" بعنفوان وعزم لا يلين. ومن عطايا نهري هذين الطرفين يتشكل نهر البناء النفسي والشخصي الأصيل للطفل- شاعر المستقبل. هذا البناء الذي لا يعني أنه سيأتي نورانيا سماويا كما سنرد على أطروحتي الناقدة القرني والأديب عبد المقصود خوجة في حلقة مقبلة. إن الطفل النوراني السماوي ينتج حكما لا شعرا . الطفل الشاعر هو ابن الطبيعة التي يلتحم بها ويتراسل بحواسه مع حواسها:

(وللينابيع

البساتين ..

الحمام ..) –الصفحة نفسها –

هذه الطبيعة ببعديها الكوني والمحلي ستكون مرتكزا متينا ومتكرر الحضور في منجز السماوي الشعري ؛ كونيا: هناك صراع – ولنقل تكامل- فعل النور والظلام .. الريح .. الوردة .. الماء .. وغيرها .. وفي البعد المحلي هناك أولا النخلة الأم – لاحظ حضور الأم – والرافدان ومنهما الفرات أولا .. والبئر والناعور والخيمة والراعي .. وغيرها .. وهذه الرموز لا تطرح بوظائفيتها المادية رغم أهميتها في بناء الإيحاءات .. فهذا عمل العالِم .. لا الشاعر الذي يستثمر دلالاتها المادية ويتلاعب بها برهاوة لكي يمرر موقفا وجوديا أو رؤيويا أو اجتماعيا:

(للصبحِ يغسل بالضياء الدرب َ
من وحل الظلامْ
للّيل ينسج من حرير نسيمه
بُردَ المسرة للأنامْ
للريح قادت للثرى العطشان
قافلة الغمامْ
للبئر والناعور
للمحراث
للوتد الذي شدّ لخيامْ
لغزالةٍ برّية ٍ أنِستْ بها الصحراء
للراعي
الربابة
للخُزامْ ..) – ص 14 و15 –

ومن المستحيل أن لا نجد شاعرا لا تكون واحدة من قوائم معمار مشروعه المتينة .. بل هي في الواقع القائمة المحورية التي تتناسل منها كل رموز نصوصه وهي: الأنثى المباركة حتى في حضورها المغوي المبارك المُسقط من الذكورة في ترسيم ملامح "دراما" الخطيئة الأولى .. وفي بيانه الأول هذا وقد تمثل أيضا في مجموعاته السابقة بطريقة أوقعت بعض النقاد في مصيدة الـتأويل "الدفاعي" – كما سنرى- لموقف يحيى من المرأة، " موضوع الحب – love object " مؤكدين على تعالي الجانب الطهراني الروحي من هذا الموضوع وترفّع الشاعر عن دجوانيته الحسّية "المدنسة".. في حين أننا سنرى أن لا قداسة في الإبداع ولا إبداع مع القديسين كما يقول "أندريه جيد" وأن مهمة الشعر الأساسية هي أن يشكّل بأنامل روح الشاعر الماكرة هذه الخلطة العجيبة التي يلوب فيها المدنس في أحشاء المقدّس ويمر أمام أعيننا فلا ندركه .. وهذا جوهر التحذير القرآني من الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون .. والأهم أنهم في كل واد يهيمون .. طبعا ليست وديان الحجاز:

(ولذائدٍ عن ظبية القلب المتيّم
بالصلاة وبالصيامْ
لحبيبة زانت بتبر عفافها
جيد الهيامْ ..) –ص 15-

وفي رؤيا الشاعر لا يمكن أن تكون تلك الصلاة وذاك الصيام الذي يذود به عن حبيبته هي ذاتها التي يؤدي فروضها في حياته اليومية .. هنا سنتساءل عن الدلالات الروحية والدينية لهذه "الظبية" .. وهل يُعقل أننا ندافع بالصلاة وبالصيام عن مرموز حيواني؟! .. هنا سنستكشف أبعادا رمزية باذخة للحضور الأنثوي .. سنتعلم الطريقة التي يصنع فيها الشاعر عقدا من تبر العفاف يطوق عنق هيام العاشق .. لعبة شائكة!! لكن العاشق لا ينظر بعين واحدة كما يذكر التعبير الشائع الساذج .. ولا بعينين كما تؤكد وقائع الحياة البليدة، بل بعين بصيرته .. العين الثالثة التي تشبه عين ذاك الكائن الأسطوري التي تكمن في رقبته فتجعله ينظر إلى الخلف .. فبعينه الثالثة ينظر يحيى إلى "خلف" الظواهر وحركة الموجودات وتشابك العلاقات .. لا يمكن لشاعر أن يحصر مشروعه برمز واحد أبدا .. إنه الطريق المستقيم نحو كارثة ضمور الرؤيا الشعرية وتجمد مفاصل رؤيتها .. ولا أعلم من هو الشاعر الذي قال مرة إن الشعر هو اليد التي تمتد للعداء الذي يعثر:

(لعصا الضرير
لفارس كبت الصروف به
فقامْ
للحرّ
يأنف أن يُضامْ ) –ص 14-

ففي رؤيا يحيى أن الفن لا يمكن أن ينفصل عن حاضنته الإجتماعية .. ومن المستحيل أن يكون دوره "فنّيا" صرفا محلقا في سماوات المخيلة وتتصارع رموزه المجردة مع ذواتها .. السماوي يؤمن أن للشعر رسالة – حتى لو كانت "شيطانية" – للفن دور اجتماعي .. وحتى عندما يدعي أساطين الحداثة وما بعد الحداثة الأوربية أن الفن للفن فإنهم – في الحقيقة – يؤسسون لـ "دور" للفن .. دور يحاول عبثا الإنخلاع من بنية المجتمع وانشغالات إنسانه .. بمعنى أنهم يحاولون تأسيس دور "جديد" يصبح فيه واجب الفن "الإجتماعي" أن يجلس على دكّة الوجود .. يلعب بساقيه النشيطتين في سماء المخيلة مسترخيا على بساط غيماتها .. لكن يحيى يرى أن هذه التناولات لا تتقاطع مع الهم الأصلي للشعر .. الإنهمام بالحياة .. بصراعاتها المدمرة .. بالكيفية التي تصبح فيها الحياة حياة حقّا وتستحق أن تُعاش:

(ولشاهرٍ غصن المحبة
حين تحتقن الضغينة
للحدائق حين تزدحم الخنادق
للمودة والوئامْ ) – ص15 –

وليس في هذا الوجه الإيجابي المقاوم الذي ينتصر للحق في صراعه مع الشر .. بل في الوجه "السلبي" إذا ساغ الوصف وذلك حين "يتغنى" الشعر ويصوّر – بالعذوبة نفسها- ندم الخطّائين والمارقين حتى بعد أن يقطعوا أشواطا في الغي والحقد والإنتقام .. هل الشعراء ضروريون لتوازن العالم ؟ .. من يستطيع مسامحة مستبد ؟ .. يبدو أن رفيق "نلسون مانديلا" – وليس مانديلا كما نتداول خطأ- الذي رفع شعار "نسامح لكن لا ننسى" كان شاعرا .. شاعرا ليس بمعنى الموقف الرسولي العدالي رغم طبيعته الظاهرة .. لكن بمعنى "غسل الدماغ" الرهيب الذي يجعلنا نتسامى على جراحنا ونحن نرى جلادنا يضعف أو يرتدع ويتراجع:

(للمستبدّ اختار أن يلقي السياط
إلى الضرامْ
للمارق انتبذ الخطيئة
فاستقامْ:) – ص 15 –

.. هكذا طرح الشاعر رؤياه .. ونشر بيانه عبر حرف "اللام" .. هذا الحرف الصغير البسيط الذي كرّره أكثر من أربع وعشرين مرة في قصيدة متوسطة الطول .. من هنا نبدأ بجواب سؤال الرؤية .. لم يحصل ملل في نفوسنا من هذا التكرار الذي لو حصل في حديث يومي لأثار امتعاضنا وتقزّزنا .. يقول سومرست موم في كتابه الرائع "عشر روايات خالدة" إنه يحكم على الرواية من عدد الصفحات التي يقفزها للوصول إلى النهاية .. ولهذا فهو يعد رواية "دون كيخوتة" لسرفانتس التي انسحرنا بها طويلا رغم أنها تشتمنا كعرب – اقرأ كتاب "حسن حميد " "البقع الأرجوانية في الأدب الغربي"- من الروايات السيئة .. لكن أسلوبية الشاعر المقتدر تجعل الإعادة "إفادة" كما تقول الحكمة الشعبية الباهرة .. وفي التكرار متعة .. هذا عمل الشعر .. وهذه أنامل الشاعر السحرية .. إنه التشكيل الصوري المتجدد .. تشكيل خلقي يحمل من روح اللعب الطفلي وسمة الروح الطفلية بقدرتها الكلية التي تكلمنا عليها في البداية الكثير .. وصور السماوي لا تأتي عفوا وتستقر في بنية القصيدة أبدا .. إنها نتاج تخطيط وتدبير واع وصبور .. استهل القصيدة / الإهداء بإهداء مشروعه / مجموعته (للطفل يحبو فوق أرصفة الكلام) .. كتعبير مجرد انتقل منه إلى توصيف شبه مادي عن الأمومة التي "تزق" مكارم الأخلاق، نجده يختمها بعد سلسلة "إهداءات طويلة مقدارها أربعة وعشرون" بإهداء / النتيجة / "رصيف" كلام .. قصيدة .. وعطية شبه مادية هي تنور رغيف محبة:

(أهدي نمير قصائدي
ورغيف تنور المحبة
والسلامْ ..) – ص 16-

وهذا الميل لربط الاستهلال بالخاتمة .. هو ميل أسلوبي ثابت لدى السماوي سنراه بوضوح في الحلقات المقبلة .. هناك أيضا "التوليد الصوري" الذي تحدثت عنه في مناسبة أخرى لكنه هنا يتخذ لباسا مغايرا .. هنا تشتق الصورة التالية من الدلالة الكامنة للصورة السابقة التي هي مكون اسمي مادي محدد لا يبتذل الشاعر قدراته في الإفصاح عنه .. فما هي فائدة "عصا الضرير" ؟ هل من المكنة الشعرية أن نشرح وظيفتها .. أتذكر هنا مقولة "محمود درويش" الرائعة: "الشعر هو فن الحذف" .. لكن من الإيحاءات الباطنة المعروفة لوظيفة عصا الضرير "نشتق" كبوة "ضريرية" يصاب بها الفارس بفعل صروف الدهر الغادرة .. ومن فعل "قام" للفارس تنبني صورة "الحرّ الذي يأنف أن يُضام " والحرية والأنفة ورفض الضيم كلها ذات معانٍ "عمودية" .. كلها نتاج فعل "قيام" عزوم:

(لعصا الضرير
لفارس كبت الصروف به
فقامْ
للحرّ يأنف
أن يُضامْ ..) – ص14-

وهناك – في الرؤية – توليد تسلسلي .. حلقي .. بمعنى أن الشاعر يربط ويشتق الصورة اللاحقة من مفردة تعبيرية .. أو صفة .. أو اسم مجازي أو مادي يختم به الصورة السابقة .. فحين يتحدث عن الصبح الذي (يغسل بالضياء الدرب من وحل الظلام) يستهل الصورة اللاحقة بمفردة (الليل) التي من سماتها الظلام أو هي تجسيده .. وعندما يواصل تصوير فعل الليل الذي ينسج من حرير نسيمه برد المسرة للأنام، فإنه يظفر خيوط حرير النسيم لتصبح "ريحا" تقود قافلة الغمام للثرى العطشان.. ومن هذه "العقدة" الأسلوبية التي عالج فيها العطش والغمام يمضي في إندفاعة "مائية" وخصبية تتحدث عن البئر والناعور والمحراث .. وهكذا .. وفي الحركة الافتتاحية انتقل عبر حركات تصويرية متسلسلة من الطفل الذي يحبو على مائدة الكلام .. فإلى الأم والأب .. وعصا الضرير والفارس العاثر ليصل ذروة التعبيرات المجازية عن الصبح والليل .. فإنه في الحركة الختامية يقوم بما يمكن أن نعده "مقلوب" التصوير التسلسلي ... من المحب والحبيبة .. فإلى شاعر غصن المحبة (تذكرنا بعصا الضرير) ثم سوط (عصا) المستبد .. وللمارق الذي نبذ الخطيئة فـ (استقام) .. عودة إلى البنية "العمودية" أو "القيام" الذي يأتي الآن تكفيريا .. فيه شيء من إنحناءة الإنذلال وكأنها البداية المسترخية من مقترب آخر .. باللام يجمع كل المتناقضات.. وحتى أقصاها .. واشدها تصادما .. وهذه سمة أسلوبية من سمات منجز السماوي أيضا .. وأشدها إبهارا هي التي يجمع بها متناقضات الإيجاب إذا جاز التعبير فيؤجج الوقع النفسي الاستقبالي للصورة:

(أهدي: نمير قصائدي
ورغيف تنور المحبة
والسلامْ ..) – ص16

الماء والنار في قبضة واحدة .. في إطار صورة واحدة .. لكن النمير رجراج مائع غير محدّد فهو مناسب لكيان لامادي مناور ومراوغ كالقصيدة .. أما رغيف التنور الساخن والطازج والشهي والمحمّل بإيحاءات الأمومة فهو مطابق للمحبة المتوهجة .. أما السلام – وهنا تتجلى سمة أسلوبية أخرى للسماوي – فهي تحمل في طياتها فرصة لتأويلين .. لتأويل مزدوج .. وفي الكثير من نصوصه يربكنا يحيى بهذه "الإزدواجية" .. ومع الإرباك يوسّع دائرة التأويل الشعري الثرة .. حيث تتلألأ مفردة الختام البيضاء: "السلام" لتعبر عن هبة المحبة والتصالح والطمأنينة .. وكذلك عن الحركة الختامية .. إسدال الستارة على مسرح القصيدة.. 
قبل الختام – حكاية السمكة الذهبية:

من كتاب "رسول حمزاتوف": داغستان بلادي .. الذي انزرعت في روحي غصة لأن لا كاتب عراقيا أو عربيا قدم شيئا شبيها به رغم أن مساحة داغستان بقدر البصرة وعدد سكانها أقل من عدد سكان البصرة .. اتذكر حكاية السمكة الذهبية التي اصطادها صياد بسيط وانبهر بها كثروة مقبلة فطلبت منه أن يطلقها مقابل أن تنفذ له أي شيء .. أطلقها وطلب منها قصرا وضِياعا وعربات وممتلكات ومناصب "سيادية" .. منحتها كلها له لكن زوجته قالت له: بقي شيء واحد عظيم .. أطلب منها أن تجعلك شاعرا .. فذهب إلى السمكة وطلب منها أن تمنحه الموهبة الشعرية .. فقالت له: هذا مستحيل .. فالموهبة الشعرية لا تمنح .. ولو كنت قادرة على منحها لأصبحت أنا شاعرة ..

تأتي الموهبة الشعرية من خلال العمل المثابر والعزوم .. هي السمكة الذهبية التي تصطادها صنّارة الصياد الشاعر التي ترتبط بخيط متين من الإدراك الحاد لأهمية التحام سؤال الرؤيا بالرؤية .. وعن هذه الطريق فقط .. وفقط .. يأخذ الشاعر كتابه بقوة .. 


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى