الثلاثاء ١٠ آب (أغسطس) ٢٠١٠
بقلم محمود سعيد

الفردوس المسروق.

حين يغفو التاريخ على الجدران.

ابن المدينة، مدينة صغيرة ذات جمال استثنائي مميّز، من يقضي في بعض الوقت يدرك أنّها جنّة لا مثيل لها، تقع على مرتفع من الأرض يطلّ على الساحل الإسباني. وأخالها مسروقة مرّتين، الـمّرة الأولى من الجنّة، والثانية منا نحن العرب. ولست أدري ما سيكون عقاب اللصوص وفق الآية الكريمة: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما. وهل سيغفر الله للإسبان سرقة مثل هذا الكنز الطبيعيّ المفعم بالجمال أم لا!

عندما وصلت مطار مدريد فرحت جدّاً لأن صديقاً عزيزاً كان ينتظرني في المطار، وكانت خطتي أن أبقى أسبوعاً فيها، ثم أذهب إلى ابن المدينة، كما نويت. لم أجد من يتكلّم الإنكليزية في المطار، وكانت الاستعلامات في وقت راحة، فتبعت بعض الركاب الذين كانوا معي في الطّائرة، إلى حزام الحقائب، وانتظرنا نحو ربع ساعة، وذهبت إلى المرافق، وعندما رجعت لم أجد من كان معي، فأخذت أبحث، فرأيتهم بعد نحو ربع ساعة أخرى قرب حزام آخر، لكني لم أجد حقيبتي، وبعد نصف ساعة فتحت الاستعلامات أبوابها، فأُرسلت إلى مكتب وصلته بعد عشر دقائق، فقالوا لي عليّ أن انتظر ساعة كاملة، في خلال هذه الساعة جاءت حقيبتي، وحدست أن أحدهم أخذها خطأً وعندما أدرك أنها ليست له أرجعها، استغرقت العملية ساعتين ونصف، وعندما خرجت من المطار لم أرَ الصديق، عندئذ قدّرت أنه انتظر ورجع وله الحقّ في ذلك. ولما أردت الاتصال به لأشرح له ما حصل وجدت أنني في ذهابي وإيابي الخائبين في المطار أضعت أشياء كثيرة منها قائمة التلفونات. لذا قرّرت السفر إلى وجهتي: ابن المدينة..

لم أرَ على كثرة أسفاري التي تجاوزت خمسة وعشرين قطراً تقريباً أجمل من هذه المدينة قطّ. أجلس في الغرفة فيمتد أمامي على بعد نحو ميلين أو ثلاثة شاطئ رمليّ أسمر رقيق، يأخذ في العرض شيئاً فشيئاً حتى يصبح في بعض الأحيان نصف ميل، يضيق، وينفرج، ليحتضن البحر على شكل أهليلجي، ويحصر ماء البحر الأزرق وشاطئه بسياج من غابة خضراء تبدو من بعيد كأنها خطّ أسود. في هذا الشّاطئ العريض كانت صفوف من مظلّات زاهية الألوان تلامس الواحدة الأخرى، فتظهر على البعد لوحة واحدة ملونة، تمتد أقواساً توازي انحناءات وانبجاسات الماء بينما تزهو المظلّات بتشكيلاتها المنسجمة مع بعضها، في مثلثات ومربعات، وسطوحات هندسية أخرى تجذب ألوانها المميزة العين، فمن مظلات برتقالية مطرزة بالأحمر والأصفر، تبدو شموساً محترقة، إلى زرقة ضائعة بين الخضرة والبياض، وثالثة بنفسجية تتقاسمها نجوم زرق وحمر وبيض، ووو ليستقرّ أمامك مهرجان ألوان دائم لا تنساه العين. حتى البحر يبدو من الأعلى في مكاني متفاوتاً في ألوانه، فما يندفع مع الأمواج أبيض مزبد يسيطير على حافة الرّمال، ثم تسري عليه قتامة رمادية، ليعود أخضر، ثم تأخذ الزّرقة بمدّ أهدابها إليه لتجهّزه بزهور زرق متفرّقة، وفي حالة هدوئه التّي يبدو عليها صباحاً وأنا أرشف قهوتي ينطرح بساطاً أزرق هائلاً يسيطر على المساحة من الشاطئ حتى خط الأفق الدائري حيث يمتزج الماء بالسماء في ألق من ضوء دافئ، فيستحيل تحديد خط الأفق الذي يفصل الفضاء عن البحر مهما دقق المرء في نظره ليشعر أخيراً بوحدة الكون الخالدة.

وإن كانت الآية الكريمة تقول: "وأينما تولوا فثمّ وجه الله" فإن "ابن المدينة." تقول: فأينما تتجه ترجع إلى أصلك العربي، فالاسماء العربية تنثال على رأسك أنى تقع عيناك: بهيّة، طويلة، جزيرة، زيتونة، قميص، قفطان، بقيّة، فالتة، أبن الازهار، ابن العاصي، ابن عيسى ابن، أبن أبن. لكني لم أجد أبو. ربما في مدينة أخرى. أتذكر في السبعينات عندما زرت الموصل في الخريف، وجرى ذكر البطّيخ، وكان موسمه قد انتهى، اقترح أحد الأصدقاء أن نذهب إلى تلكيف، وبطيّخ تلكيف لا مثيل له إطلاقاً في المعمورة كلّها، فمنه المخطّط، الأملس، المحبّب، البرتقالي، الأسمر، الأخضر. كلّ بطّيخة لون وطعم يختلف عن الأخرى، فرحّبنا بالفكرة، وقبل أن نصل القضاء الجميل الطّيب الواسع، رأينا فلاحة كهلة فسألناها إن كان هناك بطّيخ؟ قالت: "في خير الله." تلك اللهجة لم أسمعها في العراق. وبقيت في بالي حتى جئت "ابن المدينة." فسمعت العرب يقولون جئت من "في خير الله." وذهبت إلى "في خير الله." فسألتهم ما معنى "في خير الله." قالوا مدينة قديمة كابن المدينة. أينما تذهب تراهم يتكلّمون العربي، والناس ليسوا بعنصريّين مثل هنا. فابتسمت، لأني لم أرَ عنصريّة، لكنّهم يقصدون أن الإسبان من سكان هذه المدينة و"للغرابة كمدينة سياحيّة" لا يعرفون في الغالب إلا الاسبانيّة، وبالرغم من أنهم يدرسون الإنكليزيّة والفرنسيّة في الثانويّة، لكنهم لا يعرفون من الكلمات إلا حب، نعم، لا، شاطئ وبضعة ألفاظ أخرى، وعندما قلت لرجل سنغاليّ كان يتأفف من العنصريّة: كلمة وحدها كافية فلماذا الترجمة. أخذ يضحك. أقول مدينة سياحيّة مع شيء يحزّ في داخلي، فإن كنت لا تتكلم الإسبانية وأردت الذهاب إلى أيّ مكان كالمرافق مثلاً فستلفّك الحيرة وأنت تقرأ لوحتين تحويان الأحرف نفسها مع تغيير لا يكاد يذكر بالاسبانية على بابين، فستأخذك الحيرة: أيّ الكلمتين تعني الرجال وأيها تعني النساء؟ في بعض محلات بلغاريا يضعون كعباً نسائياً عالياً، وشارباً رجالياً غليظاً، وفي سويسرا شاهدت صورة رجل بيده بندقية، وأمرأة ترقص، وفي ثالث صورة حسناء ترتدي مايوهاً، ولاعب كرة، وفي رابع قبعة رجالية وتنورة نسائية، وفي أحد نوادي تعرٍ في مدينة أمريكية صورة ما تحت الحزام لكل من الجنسين، أما هنا فكلمتان لن تعرف معناهما إلا إن انتظرت حتى يتكرم أحدهم فيدخل قبلك.

أهم شخصية عربية تعتّز به "ابن المدينة. " طبيبنا ابن البيطار، فقد ولد فيها، وكان يهتم بالزهور والنباتات التي تنمو في ربوعها، ليستخرج منها أدوية يعالج مرضاه. وتحمل هذه المدينة الصغيرة اسمه على واجهة أكبر ثانوية مع صورته كما تراها أعلاه، ونبذة عن حياته، ويبدو أن طلاب المدرسة يحيطون علماً به وبسيرته، لا بل يقلّد بعضهم زيّ ابن البيطار في احتفالاتهم كما قال لي معاون المدير "السنيور" أنكل. المدرسة كبيرة جداً وراقية بكل ما للكلمة من معنى، وبناؤها في مستوى الأبنية الأمريكية، ومرافقها أفضل وأجمل. ومع الأسف لم استطع الاطّلاع على مناهجها، لأن السيد أنكل كان الوحيد الذي يتكلّم العربية والإنكليزية، ومستواه في اللغتين كلتيهما متواضع. ولعلّ من يرى اهتمام الإسبان بطبيبنا يصاب بالإحباط من بؤس وتخلف واقعنا، وازدراء حكوماتنا بعباقرتنا فلا توجد ثانوية واحدة في العراق كلّه كرّمت أحدهم بوضع اسمه وصورته ونبذة عن حياته في لوحة فريدة كما فعلت هذه المدينة الصغيرة مع ابن البيطار. أما الأمر الأسوأ من هذا فما عندنا من نصب وتماثيل تجسّم عظماءنا وعباقرتنا جرى تحطيمها بتعمّد، ووفق منهج رجعيّ خبيث، ولعلّ ما ذكرته السيدة فاطمة الحساني في مقالتها (في الزمان) عن تحطيم أسد بابل في البصرة، ونسف تماثيل بغداد خير شاهد.

الجنس والطبيعة في ابن المدينة.

في ساحة عامة صغيرة ملتقى ثلاثة طرق هناك نصب رمزي. تبعد الساحة نحو 400 متراً عن الشاطئ، يمثل النصب صورة من صور المضاجعة الصريحة، لون النصب وردي ليرمز إلى شيء معين، ووضع الأنثى في أحضان الذكر رمز آخر يقود إلى المعنى نفسه. ولعل وضعه هنا في طريق الشاطئ رمزاً ثالثاً للحرية السائدة في هذه المدينة الصغيرة، فعلى شاطئ طوله يزيد عشرات المئات من الكيلومترات، (لم أشاهد منها سوى أربعين كيلومتراً فقط)، تفترش أجساد بشرية عارية وشبه عارية رمال الساحل. لم يكن الوضع كما رأيته سنة 1985 قط. تغيّر عن ذي قبل، آنذاك كان هناك ثلاثة أنواع من المحلات تقتسمه: قسم للعراة لكلا الجنسين. قسم لتعرية الصدر للإناث فقط، قسم للعائمين مع كسوة العوم. وفي القسمين الأولين كان هناك حراس متجهّمون غلاظ شداد، لا يتسامحون ولا يغضّون الطرف عن المتسللين الوقحين، ولا يسمحون لوقفة استطلاع خاطفة. أما الآن فقد ترسخّت "الحريّة" والديمقراطية في إسبانيا. أزيلت الحواجز بين المحلات الثلاث، اختفى الحرس، تبخرت الحدود، من يحبّ التجوال مثلي سيشاهد كماً كبيراً من جواهر ونفائس جمال الله في خلقه، وبديع صنعه كونه خصّ الإناث بكنوز إعجازاته. هنا لا في مكان آخر سيرى آيات الله الحقيقيّة العظمى والوسطى والصغرى متمثلة بجمال خلقه يمشى بغنج على الأرض، آيات تريح قلوبنا المتعبة. ومعجزات واضحات جميلات وضيئات تدخل المتعة إلينا لا أعقاب نخل خاوية يتآكلها السوس والحقد، وينخرها الفساد.

مستوى جمال النساء الإسبانيات (قصراً) في هذه المدينة متواضع قياساً إلى الأمريكيّات، ففي أمريكا تجد في أي مقهىً، أو طريق، أو تجمّع عشرات الشابات فائقات الحسن، أما هنا فلن تجد سوى واحد بالمئة ممن يلفتن النظر، ويثرن التحسر على الشباب، ولعلي لا أبالغ إن قلت إن مستوى الجمال هنا تحت المتوسط، ومن تراها جميلة فسائحة بريطانية، ألمانية، سويدية أو عربية من شمال أفريقيا. لن تجد هنا ذلك البياض السويدي المضرّب بالكاكاو البرازيلي الرائع، أو الجمال الاسكتلندي المطعم بحلاوة يابانية صينية فليبينية، أو بشرة فرنسية شفافة مصبوغة بعصير رمان جزائري مغربي، لن تجد حلاوة المصرية التي يبقى عسلها تحت شفتيك، ولا جمال التركية الخلاب وهي تغرز سكاكين في صدرك، ولا طراوة التايلنديات يذبن تحت الأصابع، لن تجد سوى وجوه ذوات سحنة شقراء موحدة تنخرط من الوجنتين كمثلّث متساوي الساقين ينتهي بالذّقن، مع أنف أقنى طويل بعض الشيء، وعينين عاديتين لكن فتحتهيما ضيقة، فما إن تلتقي نظراتك بهن حتى تصدّ نفسك وتغمض أجفانك. لكن الطبيعة التي بخلت عليهن بجمال الوجه سخت عليهن بكمال الأجساد، فالصدر ناهد، والتناسق بديع، والبشرة ملساء خالية من الشعر، طرية كزبدة لذيذة تحملك على تذكر المرحوم ناظم الغزالي يصدح: "خدّجْ الكيمر وأنا اتريك منا"، هذا على الشاطئ، أما خارجه فالموصلين الشفاف هو السائد في التنورات والقمصان. والموصلين كما نعرف يشِفُّ ويصفُّ ويذبحُ ولا يعفّ.

في ابن المدينة استيقظت لأول مرة بعد سنين طويلة على زقزقة العصافير الموسيقية، ورأيت مهرجاناً رائعاً لأحد أكبر احتفال للعصافير بعد عدة عقود. في الجهة الشرقية الشمالية من الموصل يوجد نهير صغير صغير، نهير خجول "الخوصر" يظهر شتاءً وربيعاً ويختفي صيفاً وخريفاً، ومن يذهب إليه في الربيع يرى أشجاراً على ضفتيه ويسمع عند الغروب زقزقة عصافير لا يستطيع أن يراها، عصافير تحتفل يومياً في مهرجان صاخب، فتصدر صوتاً جماعياً هائلاً لسمفونية طبيعيّة حيّة خلّابة. هنا رأيت شجرة تقيم مهرجاناً أشبه لمهرجان الخوصر وفي ساعة المغيب نفسها، فقرّرت أن أذهب يوميّاً لأستمتع بالموسيقى، وهنا أيضاً سمعت لأول مرة صوت الفاختة التي كان يسمع في شوارع العراق وعطفاته: حيث كنا ونحن أطفال نردد معها: "كوكو أختي، وين اختي" تلك أصوات لا تسمعها في أمريكا ولا تسمع أيضاً صياح الديك، أو صياح الطواويس الذي يشبه صياح الديك على نفس أقصر وأرقّ. هنا تندمج الطبيعة اندماجاً كاملاً بالبشر، فبالإضافة ألى بقع النجيل الممتد طولاً وعرضاً، تجد حدائق ضخمة ببحيرات صناعيّة مليئة بحيوانات داجنة: غنم، ماعز، بقر، عجول، طيور مختلفة، طواويس، قطط، كلاب، حمام، يمام، عصافير، أرانب الخ، تعيش حياة بريّة حرّة، تألف الزوار، ويألفها الأطفال ويلعبون معها.

في البصرة رأيت أجمل طائر في حياتي كلها، "زيطة". طائر بحجم اليمامة، أرشق منها، يتقاسم جسده خطوط بيض ناصعة طوليّة، وخطوط سود أبنوسيّة. زيطة سريع، ذكيّ، رشيق. لا يستقرّ قطّ. لا يستطيع الأطفال صيده لحذره، لم يدرسه أي عالم، لم يصنفه أي كتاب عن الطيور، لم يعرف به أحد سوى الناس الذين يعيشون في محيط البصرة، ولم ينتبه إليه أحد. وضعت اسمه عنواناً لرواية منشورة، هي الجزء الثالث من ثلاثية شيكاغو "زيطة وسعدان."وذكرته في رواية أخرى "فوهة في الفضاء" التي لم تنشر بالعربية بعد، وقبل شهرين فقط قرر د. أحمد صدري. البروفيسور في جامعة ليك فورست أن يترجم "فوهة في الفضاء" وعندما وصل إلى زيطة، قال لي يجب أن تذكر اسمه بالإنكليزية، قلت له إنه لم يدرس بعد من قبل علماء الطّيور، ولم يصطلحوا على اسم له في اللغات الأخرى. قال لا يمكن ذلك. وتوقف عن الترجمة، ثم عاد بعد ثلاثة أسابيع فقال لي إنه وصف زيطة لعالمة طيور مختصّة في الجامعة، وأخبرها بما قلت له، فقالت له: "هذا محتمل جداً." ولو لم يكن الوضع خطراً في العراق لشكّلتْ بعثة لدراسته، ثم كان مجيئي إلى ابن المدينة، ولم أعلم هل قرر استئناف الترجمة أم لا.

في ابن المدينة رأيت عصفوراً يشبه زيطة، عصفور قزم بالنسبة إليه، ليس في جماله، لكن يتقاسمه اللونان الأبيض والأسود، ولم استطع الاهتداء إلى اسمه فبالرغم من أنني هنا لكني لا أستطيع التعبير عن رغبتي.
رأيت أيضاً بعد عقود شجرة التوت الحبيبية. جذب نظري في طريقي اليومي نحو الشاطئ رصيف نظيف ملوّث بصبغة زرقاء، وعندما رفعت بصري رأيت صفاً من أشجار التوت الأسود الناضج، يتساقط فتطأه الأحذية فتلوّث الأرض. فتذكرت التوت عندنا طرياً وجافاً، وطعمه الطيب الفريد، فمددت يدي لأقطف واحدة، لكنها كانت قوية، فانعصرت تحت أصابعي ولوّت قميصي الأبيض الجديد، ودبغته، فاضطررت لرميه. لكني في اليوم التالي جلبت كيساً من النايلون ومقصّاً، وأخذت اقطع الناضج من التوت، حتى إذ جمعت ما يقارب مئة غرام ذهبت إلى البيت وغسلته، فأعادني بضعة عقود إلى الماضي.

يبدو أنهم هنا لا يعرفون طعم التوت أو التمر، فترى أشجار النخيل والتوت تزيّن شوارع عدة، لكن عثوق النخيل تبقى في مكانها تجف، ولا يلتفت إليها أحد كالتوت تماماً ينضج ويتساقط ويلوّث الأرض، ولا يتمتع بتذوقه البشر بل ربما الطّيور فقط.

حدائق الحيوان وحدها تكرّم القطط فقط، أما عند الناس فمكروهة منبوذة. القطط هناحيوان غير محترم من درجة ثانية، كالعرب في إسرائيل. رأيت قططاً جميلة جداً لكنها سائبة، تعيش في الشوارع، وكثيرا ما كنت أفزّ حينما أسير قرب صندوق قمامة إذ يندفع منها فجأة قطّ ويقفز أمامي ويهرب. لماذا هذا التمييز العنصري ضد القطط؟ لا أدري، بينما تتدلل الكلاب في الشوارع، وتمارس حريتها في التغوط في أي شبر من أرصفته من دون أن يضطر صاحبه لرفع مخلفاته، "كما في شيكاغو" فتبقى لتطأها الأقدام، أو لتجفّ في الشمس.

الأسعار، العمل، العمارة، في ابن المدينة.

معدّل الرواتب في إسبانيا: 2800 يورو في الشهر، وتعادل 3500 دولار، وهو مبلغ محترم، يعادل مثيله الأمريكي، لكن مظاهر السكان هنا لا يمكن أن تقارن بمظاهر الشعب الأمريكي قطّ، فملابس المواطن الأمريكي أكثر أناقة وجدّة وتنوعاً وطرازاً وبهاءً فلماذا؟ السبب هو الغلاء الفاحش مقارنة بأمريكا، فكل شيء هنا أغلى من أمريكا بنسبة 50 إلى 100 بالمئة، وربما أكثر. وينطبق هذا الشيء على الدول التي زرتها منذ 2006 "المانيا، السويد، هولندا، بريطانيا". ما يؤلم في ارتفاع الأسعار شموله المواد الغذائية كاللحوم والدجاج، أما الفواكه فيصل الفرق إلى 150 -250 بالمئة كالموز والبرتقال والبرقوق والبطيخ الأخضر (الرقيّ)، والبطّيخ "الشمام" والخيار الخ، وتصل النسبة إلى أكثر من 200 بالمئة في أسعار الأثاث، والبيوت، والعقارات، ولست أدري لماذا؟ فكل هذه الدول بما فيها أمريكا رأسمالية، تستورد من مناشئ رئيسة محدودة كالصين ودول شرق آسيا الخ فلماذا هذه الفروق إذاً؟ لا أستطيع تفسير سكوت نقابات العمال وهي اشتراكية وفيها شيوعية! لكني يجب أن أذكر أن هناك شيئاً واحداً أرخص من أمريكا هو الخمر المحلي "الواين. وبالعربية "الوِين."" والجعة. إذ يصل ثمن اللتر الرخيص من الوِين إلى نصف يورو أي 62 سنتاً أمريكياً، والجعة إلى 53 سنتاً لنصف لتر.
لابدّ أن يذهل المرء لمشاهدة العمارة في هذه المدينة، وكيف استفاد المعمار من التراث الأندلسي والمغاربي ليكوّن مزيجاً تحكم عليه ما إن تراه بأنه عربي متميّز حديث! فالأقواس، والريازة، والنقوش، والألوان تدل إلى مصدر رئيس هو النبع العربي الثّر. دائرة استعلامات السواح الصغيرة التي لا تتسع إلا لأمراة جميلة واحدة تبدو من بعيد كأنها جامع عربي، بنقوشها وقبّتها الصغيرة وهيكلها. حينما تنظر إلى بعض الشوراع تطفو روحك ومشاعرك مع الابداعات المعمارية الجديدة المرتبطة بالقديم، فأشجار الشارع عربية "نخيل" تجعلك تحسّ كأنك في واحة صحرواية، واللون الأموي الأبيض سائد في البنايات، والمرمر المفروش والنافورات المزخرفة بالموزائيك والأسماء والزهور والأصص المعلّقة، ورش الشوارع بالماء، والأبواب المزينة والمنقوشة بالمسامير والنقوش ترميك في أحضان دمشق وحلب والموصل، وترجعك إلى بغداد والبصرة وحمص وحماة. في هذه المدينة رأيت الباب والخادعة، فقد حافظت هذه المدينة عليهما ورفضتهما مدننا مع أشياء أخرى باستهتار وسخف وخزي لا يليق إلا بنا، فما أذكره عن الموصل في دورها وخاناتها القديمة كان هناك بضعة أبواب عريضة جداً (أربعة أمتار) ذات ضلفتين، في الضلفة اليمنى باب آخر صغير يسمى "خادعة"، والباب وخادعته قديمان جداً. أما سبب وجود الخادعة فهو أن الناس في الماضي ينتقلون على الدواب، ويفتح الباب الكبير عند دخول وخروج الدواب والعربات فقط، أما الخادعة فلساكني البيت، لكنك لن ترى الباب وخادعته الآن في أي مدينة عراقية بما فيها الموصل. وفي ابن المدينة أشياء كثيرة أخرى، تنقلك إلى الأندلس ودمشق والمدن العربية الأخرى الشقيقة، مع إبقائك في القرن الواحد والعشرين، ولكي تظلّ المدينة زاهية، فيجب تنظيفها باهتمام يومياً، وبالرغم من كثرة السياح، وعدم انضباطهم، واستهتار بعضهم، وكثرة أطفالهم، إلا أن المدينة تبقى نظيفة جداً، ولا أغالي إن قلت أنها أنظف من لندن وأمستردام وشيكاغو ونيويورك. تبقى المدينة نظيفة حتى من الأصوات المزعجة، فسيارات الإسعاف والمطافئ والشرطة في شيكاغو والمدن الأمريكية تحطم الأعصاب بصوتها المنفّر، وضجيجها المزعج، أما هنا فصوت الإسعاف والمطافئ أشبه بالموسيقى ولا صوت لسيارات الشرطة مطلقاً. أما عن تنظيف القمامة فمنذ الفجر وقبل أن يخطو أيّ كان في الشارع تنتشر سيارات القمامة لتفرغ الحاويات، ثم تأتي سيارة أخرى لتغسل الحاويات بالماء والصابون فتبدو كأنها جديدة، وهذه العملية أراها لأول مرة في حياتي، ففي أمريكا لا تغسل الحاوية مهما بقيت، ثم تأتي سيارات خاصة ثالثة لتنظيف رمال الشاطئ، وتسويته استعداداً لاستقبال المتمتعين بالشمس والماء. وإن كان العرب أحياء في الماضي فهم لا يزالون هنا، ومعظم منظفي البلدية عرب من المغرب والجزائر وتونس وموريطانيا و"الكيان الصحراوي البوليساريو." ويعملون أيضاً في الفنادق والمقاهي والبارات. أما أهم نشاطهم بعد الخدمات المدنيّة فهي البيع في الأسواق المتنقلة، فهناك في ابن المدينة ثلاث ساحات ضخمة جدا تتسع آلاف الخيم، تنصب في كل ساحة يوماً في الأسبوع يعرض فيها الباعة بضائعهم. وفي أحد الأيام التقيت شاباً في الخامسة والثلاثين من البوليساريو "سكان الصحراء" وسألته عن عمله، فقال بعربية فصحى: "الأزبال." فسألته هل يعني عامل تنظيف في البلدية؟ فقال: لا. وشرح لي معناها، وكان يقصد الأشياء المستعملة. وهي تجارة رابحة، يعمل بها مئات الآلاف وربما الملايين. فالساحل الاسباني يجذب نحو 35 مليون سائح كل سنة، ويمّر نحو 15 مليون شخص فقط من أوربا إلى شمال أفريقيا لزيارة أهلهم أو في طريقهم إلى الحج والعمرة، وهذا يعني أنّ مئات الآلاف يأتون، ومثلهم يرجعون. ومن يأتي لابد أن يشتري ملابس، و"كسوة عوم." ومناشف للبحر، ومظلات شمس، وأجهزة شيّ، وإن أجّر شقّة فربما يشتري كراسي معينة مريحة، وأغطية منامات، وبطانيات جديدة، ولما كان عليه أن ينظف الدار قبل خروجه، فيلجأ إلى رمي ما اشتراه في حاويات القمامة، وهذه على أنواع فيها للملابس، وفيها للأجهزة، وفيها للزجاج، للورق، الخ. لذا فإن باعة المستعمل يمرّون يومياً على هذه الحاويات ويغربلونها، وينظفونها إن احتاجت إلى تنظيف وعندما ذهبت إلى سوق المستعمل (الأزبال) رأيت أكثر من ألف شخص "فيه يعرضون أشياء شتى: من أحذية الأطفال حتى الكمبيوترات.

في السنة الماضية زرت بريطانيا والتقيت عراقياً لا يعمل، يعيش على المعونة الحكومية هناك منذ ربع قرن، يسبّ الإنكيز ويلعنهم كل يوم وينتقدهم ويصفهم بالبلادة والسخف والانحطاط ووالخ، لكنه يشيد بمقدرتهم في الإدارة والتنظيم، ولكي أتأكد من قوله زرت جبل طارق مع فريق سياحيّ ينطلق أربعة أيام في الأسبوع من ابن المدينة، فاكتشفت أن البرّ الإسباني أكثر تنظيماً، وأرقى عمارة، وأجمل منظراً وذوقاً ومرافقاً في كل شيء، وأرخص بشكل عام إلا في مادتين هما السيكاير والبانزين فقط.

هذا غيض من فيض مما رأيته في ابن المدينة، ولو يتسّع المجال لكانت المقالة أضعافاً مضاعفة، إذ أن لدي ملاحظات كثيرة حول: الماء. أرصفة الشوارع، ال"كباب"، الزواج المختلط، سبب عدم تغيير أسماء الأماكن، وأشياء أخرى.

حين يغفو التاريخ على الجدران.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى