السبت ٢١ آب (أغسطس) ٢٠١٠
بقلم فؤاد وجاني

إعدام كاتب

جلس أمام شاشة الحاسوب المسطحة ولوحة المفاتيح المزينة بحروف عربية يرقب يديه الأنيقتين وقد شغفتهما رعشة الكتابة. يالها من لحظة ! أحس أنه يتنفس ويحيا كما يجب أن يحيا الإنسان. يالها من لحظة ! لن يستبدلها بأي شيء في الدنيا. إنها متعة قصوى لاتجاريها متعة وذروة لايبلغها فراش النشوة. سيكتب لكنه لايعلم عماذا سيكتب، المهم والأهم أنه سيكتب شيئا ما عن شيء ما، وسيحلق في السماوات السبع ولن يعرج منها حتى تسود صفحات كاملة برحلة ذهنية تحمل الجسد إلى غيابات الروح. لقد قرر أن يشعر شعرا ماردا متمردا عن القوافي يعبر فيه عن حب فتاة ضائع وسط كراسي حافلة ضائعة. تحسر، شهق، انقبض صدره على إيقاع إيحاءات الماضي المراهق، أكان حبا حقا أم هباء خيالا ؟ ذهبت الفتاة لحال سبيلها ورجع قدما نحو المجهول بعد أن تحاورت عيناهما بلغة ملك الصمت المغتال لكل علاقة عشق لم ترزق الولادة ... لا، لا، الحال ليس بأحوج إلى شعر رومانتيقي يحن لأطلال هوى طريق عابر في النفس قد استقر، بل الكاتب ابن عصره ومجتمعه وجزء من التأريخ الشعبي والأموي والوطني، فكيف له أن يتغنى بحبيبة لم ترها عينه سوى سويعات يسيرة والعراق التي لاتكسر عينها تتمزق أشلاء وغزة الغانية بروحها تئن عذابا وأفغانستان المستئنسة برجالها صبغت دماء. لا، لا، سيعود طفلا، وسيلقي كل شيء وراءه ويلعب، ولن يعبأ، وسيخلق أبطاله، ويصقل لهم سيوفا، وسيبني لهم بيوتا، ويشيد جدرانا وأسقفا، وسيصطنع مشاكل ومتاهات وحماقات، ثم يسميها رواية. لا، لا، سيرغم ذهنه على الجري وراء أنامله نقرة نقرة، وبعد صفحتين أو ثلاث أو واحدة سيلقبها قصة قصيرة. لا،لا، سيوقد نارا، وسيقلد الأشباح بظله على ضوء اللهب، وسيرهب ويبهر طالبي دفء القصص والأحاديث، ثم يسدل ستارة المسرحية بعد خمود الفئيد ويشدها بخيوط الشمس. لا، لا، لا يهم إن كانت مقالة أو قصيدة أو رواية أو مسرحية، المهم والأهم هو الكتابة ذاتها ... فلتكن ماشاءت الأنامل.

هاهو ذا يحضر بخورا من موسيقى كلاسيكية هادئة، ويكحلها بقهوة سوداء لعيون طقوس الكتابة ... علها ... علها تذرف عليه حروفا تغنيه بصوتها، وتمتع ناظريه برقصها فوق السطور ... أو ليست الكتابة عبادة؟ هاهو ذا يفك أشرعة السفينة، ويركب يم الخيال ليبحر بعيدا ... بعيدا حسب هوى الريح ... إنها السعادة وإنه ملاحها.
من غرفة النوم، جذبه من إسرائه في السماء الثامنة صوت أنثى مشبع بالشبق الشرقي:

"ياأبا مسعود، حان موعد النوم... تعال للفراش ياعيني !"

تذكر أن له زوجة، فهوت روحه، وتحطمت حروفه من الألف إلى الياء، كتم غيظه في نفسه:

"أبو الزفت ! اللعنة على اليوم الذي فكرت أن أتزوجك فيه !".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى