السبت ٢١ آب (أغسطس) ٢٠١٠
بقلم موسى إبراهيم

غزّة والحبّ

تعاهدا أن يقوما بكتابة قصّة حبّهما معاً بعد أن يتزوجا، يومها كانت السماء تهدي الماء لمحيّاها، كان المطر شاهداً على هذا العهد.

لكن القدر وظروفها التعيسة كونها من مدينة غزّة المحاصرة منذ سنين عدة، وكونها من عائلة محافظة جداً حدّ التعنصر وكراهية العرق الضفّاوي، شاء كلّ هذا أن لا يكملا قصة حبٍ بدأت عبر أسلاك الشبكة العنكبوتية، وانتهت في لحظة غيابها عنه.

كانت تالة فتاة تعيش في إحدى البلاد العربية، بعيدة عن وطنها غزة، أهلها أيضاً يعيشون خارج غزة وبعيداً عن ابنتهم، كانت تكمل دراستها الجامعية، وتحلم بمستقبل جميل مشرق، بعد أن خانها الحلم الأوّل بأن تدرس الطب البشري، ساقتها الأقدار إلى الطب الصيدلي، فتمنت أن تثبت نفسها في هذا المجال.

لها أخوان يشاركانها هموم الغربة، وجميعهم الثلاثة في ذات الجامعة، مما جعلها تشعر بأمان أكثر قربهما، خصوصية العلاقة بينها وبين أخويها، وروعة التعامل كانا من عوامل تقدمها في دراستها وتطوّر شخصيتها للأفضل دائماً.

مرّت شهور على دخولها الجامعة وسفرها البعيد عن أهلها، أمّها الحنون، أبيها وأخواتها البنات. تشعر أحياناً بالسعادة مع أخويها، وأحياناً بالوحدة عندما يغادرون المنزل ليجلسوا مع أصحابهم، يتابعون المباريات الرياضية، ويتدارسون.

إن الوحدة شعور قد يدفع بالمرء للإنتحار كي يخرج من عزلته ولكي يشعر بأنّ حياته لها معنى وأنه يعيش من أجل أحد. الوحدة أقسى حكم قد تتلقاه النفس البشرية، وعقاب قاتل دون موت!

ولأن تالة فتاة متفائلة دائماً، قريبة من الله، تحبّ الحياة ولديها من الأمل الكثير، لأنها تحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب، لم تكن الوحدة لتؤثر عليها أبداً، فلقد وجدت لنفسها ملاذاً من تلك الوحدة، دخلت إلى مواقع الشبكة العنكبوتية، وصارت تبحث عن الكتب، القصص، الشعر .. وهكذا.

وبينما هي تسلّي نفسها وتتحدى الوحدة، إذ لمحت شعراً منشوراً له، كان من أجمل ما قرأت حتى الآن، شعرت بصدقه، أرادت أت تعبر عن هذا الإعجاب، فكتب له رداً باسمها المستعار، واختفت خلف شاشة الحاسب تراقب حروفه المنهمرة وتترقّب جديده، جاء رده كما كلّ ردّ على معجبٍ او معجبة.

هي لم تفهم السبب الذي شدّها إليه، ربما لأنها وجدته بحاجة للأمل الذي يسكن نفسها، للتفاؤل الذي تختزنه روحها المرحة العذبة. كان احساسها النبيل هذا سبب موته لاحقاً.

لم تكترث لعدم اهتمامه بما كتب، وتابعت القراءة في جميع المجالات، ويوماً التقت بشعره من جديد في إحدى المواقع الأدبية، وقد كانت تنشر فيه آنذاك وتحاول أن تقضي وقت فراغها في شيء مفيد.

هل يا ترى هو ذاته صاحب الحرف الحزين؟ أم أنه أحد معجبيه وقد نقل شعره إلى هنا؟ لا بد أن أتحقق من الأمر، لم تكن تفهم هذا التعلّق الشديد بالشاعر الحزين، ولم تكُ تستوعب اهتمامها الكبير به!

حاولت بشتى الطرق ولم تفلح في معرفة هوية الشخص الذي ينشر نصوص الشاعر الحزين، لم تجد إلا أن ترسل إليه رسالة تسأله صراحة عن شخصيته وتخبره بأنها تلك الفتاة التي علّقت على إحدى قصائده يوماً!

كان هو، بشحمه ولحمه، بحرفه الرزين وأسلوبه الراقي، أجابها، نعم إنه أنا وهذا الشعر شعري، وبادر بشكرها على الإهتمام واستغرب من المصادفة الجميلة، لكنه لم يكثر على ذلك وغاب بضعة أسابيع قبل أن يعود بقصيدة جديدة سحرت تالة وأرهقتها شوقاً لقيس، حي في حرية من أمرها، وهو تبدو عليهِ اللامبالاة.

كان قيس جالساً يفكّر ولا يعرف كيف تتسلل كلمات تلك الفتاة الصغيرة المرحة عبر حروفه، استغرب كيف يفكّر بفتاة صغيرة يكبرها بخسة أعوام! إن الحزن الذي يبثه قيس في قصائده ليس إلا نتاج تجارب إنسانية عايشها في بداية حياته وتزامنت مع قصة حب أفقدته الثقة بجنس حوّاء.

في يومٍ من الأيّام، قرر أن يراقبها من بعيد، أن يقرأ مواضيعها وكتاباتها، أشعارها، أن يدرس أسلوبها في الحوار، طريقة تعاملها مع الجنس الآخر. وكان في كلّ يوم يسعد ويفرح بشخصيتها الرائعة، ببراءة قلبها وجمال روحها، بدأ يحبها، يشتاقها كثيراً، يشتاق لقراءة حرفها كلّ يوم، يشعر أنها قريبة جدا منه، كأنه يعرفها منذ زمن، يشعر أنها تفهمه حتى وهو يختبئ خلف الحروف، يشعر أنها تحسّ بوجعه وألمه وإن كان دائم الابتسام في رسائله معها.

لم ينتظر أكث، دخل بعد غياب طويل وأرسل لها رسالة صريحة يدعوها فيها لأن تسجّل باسمها الصريح في إحدى المواقع المرموقة التي كان ينشر فيها. وبهذا ظنّ أنها ستكون أقرب منه.
أجابت بالرفض في بداية الأمر، كأنها خائفة من شيء ما، كان فيها شيء غامض، غريب، ليست كأيّ فتاة، كانت رائعة حين تكون صديقة وزميلة وأخت، ولكنها قاسية جداً ومتحفظة حين تشعر بأن من يخاطبها يريدها غير ذلك. كأنها تحذر الحب، والعلاقات العاطفية.
رفضت الانضمام معه إلى الموقع ورفضت طلب بأن تكون صديقته، فأعجب بها أكثر وأكثر، رغم الغموض والخوف اللذان ظهرا في جوابها على رسالته. أحبها أكثر، وصار يشتاق إليها في كلّ حين.

حاول معها من جديد بعد أن كسب ثقتها، فوافقت لكن بشروط كثيرة منها أن لا تحادثه إلا في الموقع الرسمي، وأن لا يعاملها بشكل يختلف عن الأخريات، كانت تفرض عليهِ شروطها وهو لم يكن يملك إلا الموافقة كي لا يخسر درّة رزقه الله إيّاها بعد ضياعٍ كبير.

شاركا معا في هذا الموقع وفي مواقع كثيرة، بعد فترة طلب منها المحادثة من جديد، لم يعد يصبر، يريد أن يحادثها، يريد أن يعرفها أكثر، إنها بالنسبة له أكثر من زميلة حرف، أكثر من صديقة كتابة، إنها حلم جميل وابتسامة غيّرت مجرى حياته، مواعيده اليومية تغيّرت، احساسه بما حوله تغيّر، كان يرى كلّ شيء تالة ويحبّ كل شيء تربطه علاقة بها.

بعد أسابيع طويلة، أحسّت تالة أنّ هذا الشاب فعلاً يحبها، ويستحق منها بعض الثقة، فأخبرته بعنوان محادثتها، وكانت من صفاتها الغموض والمزاجية الغريبة، كانت لا تثبت على عنوان معين، تغير عنوانها كثيراً، كأنها لا تريد لأحد أن يعلم من هي ومن أين هي، ومن أهلها. غريبة في كلّ شيء، في جمالها وفي عذوبتها وفي طفولتها الرائعة، في شخصيتها الغامضة الغريبة. كانت أنثى ولن تتكرر في حياة قيس.

بعد أن تحادثا وتعرفا كثيراً، استمرت العلاقة هكذا في طور التعارف، لمدة لا تقل عن ثلاثة شهور، بين مدّ وجزر منه ومنها، حب صنعته الحاجة الملحة للحياة، حب صنعته المشاعر الصادقة، الظروف الصعبة التي عاناها الطرفان، كلاهما أحبّ الآخر حباً جمّا، كبيراً عظيماً مخلصاً.

تعاهدا على المحبّة والوفاء، تعاهدا على الوضوح والصدق والبقاء جنبا لجنب، رغم الظروف ورغم البعد والمسافات.

بعد فترة من الزمن طلب منها رقم هاتفها، اشتاق لصوتها، واشتاق لرؤية صورتها، كان مؤمن بجمالها. كأنه يراها كلّ يوم .. كان غريباً أن يحبّ المرء بهذا الكمّ الهائل عبر شبكة الإنترنت!

لم توافق في البداية كعادتها، ولم تتقبل فكرة أن تتحدث معه عبر الهاتف، وكيف تالة بنت فلان وفلانه تقبل على نفسها ان تحادث شاب غريب لا تعلم عنه إلا القليل، صحيح أنها أحبته، لكن هذا ليس سبباً كافياً لأن يهاتفها وبسهولة!

لم تقبل أبداً، وغضبت منه حتى اشتد بينهما الخلاف وغابا عن بعضهما بضعة أيام، بعد مرورها عادا ليتحدثا وكان شيئاً لم يكن، لكن الرجل الشرقيّ لا ينسى أنه شرقيّ! لم يقبل بالهزيمة، وأراد أن يثبت لنفسه أنها ستثق به وسيهاتف حبيبته ولو لثانية، أراد أن يقنعها بالفكرة ولكن بأسلوب رقيق وبحسن معاملة.

وبعد جهدٍ جهيد، وستة أشهر من العناء حصل أخيراً على رقم هاتفها، وكان أسعد العالمين حينئذ. اتصل بها وسمع صوتها الملائكي، شعر بارتباك وشعر بحب عظيم، أفقده اتزانه، كان في العمل عندما اتصل بها للمرة الأولىـ، خرج من عمله، ركب سيارته واستمع لهذا الصوت الرائع، لهذه الطفلة البريئة، لروحها وجمالها وهدوئها وخوفها واربتاكها واهتزاز صوتها. استمع إليها وهي في غاية الحب والسعادة لسماع صوته أيضاً. كانا كالعصفورين في جنّة من جنان الله، يهنآن بحبٍ خرافيّ!

مرّت الأيام وهم هكذا على هذا المنوال، قصة رائعة جمعت بينه وبينها، ويوماً بعد يوم يزداد في قلبه حبها ويزداد في قلبها حبه هو أيضاً. يتعلقا ببعضمها البعض بشكلٍ غريب، يشعر بما تفكّر، وهي تشعر بما يفكّر، تحسّ به ويحسّ بها! مضت سنتين تقريباً على هذه القصة الجميلة، وفي يومٍ من الأيّام، جاءت إليه حزينة منكسرة، أحسّ في صوتها التعب والكآبة! أهذه هي تالة؟؟ ماذا حدث؟؟ ما بها حبيبتي؟! كيف هذه الطفولة تكتئب! حاول أن يعرف السبب منها لم تجب، كانت قد تغيرت، أسلوبها معه، شعر أنها كبرت أكثر، لم تعد تلك الطفلة الرائعة بسذاجتها وبراءتها وحبها الكبير له. لم تعد مدللته الشقية التي تشقيه وتسعده في آن واحد!

لم يعد يفكّر باتزان، وفقد تركيزه في كلّ شيء، حتى تعبت منه الأوراق والقصائد، والحياة، والآمال، وهو لا يعرف سبب تغيرها، كل ما تقوله له: لا يوجد نصيب!
يا الله ما أصعبها على قلبه العاشق الولهان، يا الله ما أصعبها على من أحبّ بوفاء وبجنون، ما أصعبها كالخنجر المغروس في خاصرته، كالرصاص اليسكن صدره دون سابق إنذار!

غابت أياماً كثيرة دون خبر، هاتفها لا يجيب، ولا تظهر على الشبكة، لا يقرأ لها شيئاً، ولا يعلم أين هي، وكيف سيصل إليها، يحاول أن يفهم ول أحد ليفهمه. بعد شهر تقريباً اتصلت به وأخبرته بصوتها الحزين، لقد قرأ أبي فاحتي على ابن عمّي دون علمي حتى، وسأسافر إلى غزّة قريباً، وعندما صارحت أمّي بقصّتنا، كادت تقتلني، لأننا في غزّة لا نزوّج أهل الضفّة لاعتبارات كثيرة، منها أن أهل غزة لا يملكون جواز سفر كأي لاجئ آخر، ولا يملكون حقوق وأنتم أهل الضفة لا تستطيعون السفر إلى غزة، لا استقرار ولا حياة مطمئنة، لقد اغتالتنا الظروف يا حبيبي، كن قوياً ودعك منّي، لستُ لك.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى