الأربعاء ١ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٠
بقلم عبد الجبار الحمدي

طائرات ورقية

خطف من يد طفل في مثل سنه خيط الطائرة الورقية، مبتعدا بها إلى خارج أسوار المتنزه الذي اعتاد أن ينام فيه كل ليلة بعد خروج كل رواده، ليخلد إلى وحدته متطلعا إلى ما خطف من الأطفال وذلك الكم من الطائرات الورقية، وبعضا من أغراض أو أطعمة تبقيه حيا لليوم التالي هكذا كانت أيامه التي فقد عَدها كطفل، وامتهن خشونة وقسوة الحياة في يُتمٍ دَخلَ حياتهُ رغماً عنه، صادف يوما ذلك الصبي الذي خطف منه الطائرة الورقية وقد امسك بعلبة تحتوي أزرارا عديدةً مع عصا تخرج منها موجها إياها إلى السماء، ليلحظ أن هناك طائرة بصوت في صعود وهبوط وتمايل، أخذت أعضاء جسده بالتمايل مع حركة الطائرة، وابتسامة علت وجها فارقته ابتسامات بريئة بعدد ثواني الأحد عشر ربيعا التي امتلكها دون لا يدري منذ متى، يقدم خطوة ويتراجع باثنتين، حتى أحس به والد الطفل الآخر الذي انزوى عن ولده ليراقب من هو الذي خطف طائرة ابنه الورقية وحاجاته لأكثر من مرة، هو أراد خطفها، لكنه لا يعلم ما هي هذه اللعبة.

سار باتجاه الطفل الآخر، تحرك والد الطفل منتظرا الانقضاض على لص المتنزه، كما أطلق عليه، وقف الولد متطلعا ورقبته إلى السماء، فاغرا فاه وتقاطيعَ وجهٍ مبتسم، كأن أسارير الحياة أشرقت ببريق لمعان عينيه، رآه يشبك أنامل طقطقها تهيأً لانقضاض وحركة خطف، هكذا فسر والد الطفل حركاته .. ولكن ... حركته كانت لدرأ ولدٍ من سقوط بعثرة حجر، ممسكا إياه وعلبته تلك، قفز والد الطفل صارخا، هيه أنت .. قف عندك ايها اللص، جفل الولد وحركةً بخفة قفز بها مبتعدا، إلا أنه عثر بتلك الصخرة وسقط ممسكاً برجله، ألم فظيع بغير دموع، فقد علمته الأيام أن الدمع وسيلة العاجزين، وهو يرفض ان يكون منهم، فقال: في لحظة سقوط لست لصا يا عم، خرجت تلك المفردة من فمه رغما عنه، لا يدري لما؟ ولكن كان أثرها مع درئه لعثرة الولد وقعها على نفس الرجل، فقال: لا عليك يا ولدي وأمسك بقدم الطفل الملتوية، ماسحا على رأسه بحنو، أحس الصبي بدفء وعاطفة راحة يد لامست شعره، غمرته رعشة بانتفاضة واضحة، أدركها الولد الآخر جلس بقربه مبتسما له، عارضا عليه بإيماءة المشاركة في اللعب، لكن تدخل والده بإشارة ليس الآن لنعالج قدمه أولا .. هيا معنا، جفل لوهلة مع خوف، لكن تربيتة على ظهر مع تمريرة يد أب حاني أسكنت الخوف على وجه لم يعرف معنا لتلك الحركات.

أراد الهرب ولكن لم تسعفه قدمه، فقال: لكني لست لصا إنما أردت أن امسكه من الوقوع، قال الرجل .. نعم .. نعم .. لقد لاحظت ذلك وأدركته، هيا معنا لنذهب إلى البيت لنعالج قدمك، وإذا أردت الاستحمام وإن شئت فالغداء معنا، فنحن أسرة صغيرة ولدي هذا وأمه وانأ، فإن شئت كنت رابعنا لم تخرج كلمات من فمه، لأنه أيضا تعلم أن الصمت كان توأمه وأعوامه الثكلى حرمانا من حديث ، سوى مع وجوه وشخوص جسدها من ألعاب طفولة، أدخل عالما جديدا، والى مكان أحس انه مرتبط في كل ركن منه بلمسات حنان، علت وجه الأم ابتسامة لاحتضان ولد بعد عودة من تنزه، والى ابتسامة رجل لم يعلم ما هي مكنونات كلمة زوج، لم يرى الاستغراب على وجهها ولكنه تذكر انه قد رأى هذا الوجه من قبل، شعر بخجل من مداراة وتحفظ من كلام، لم تخرج الكلمات من فمه رغم انه حاول إخراجها، لكن الدهشة!! في ما رأى من عناية بحنان واهتمام سلبت مخطوطات لمفردات ذهنية، أسارير فرح بين حنو عائلة يملئها دفء حب وترابط، لم يشعر به ولكنه رآه، لم يعلم ما هو؟! لكن تصرفات أملت عليه أن يتلمسها في عيون أب وأم وولد.

غفت عيناه ولأول مرة بسرعة، دون إحساس ببرد أو خوف، من وحدة تحت سماء وحفيف شجر وصوت ضفادع ومواء قطط وعواء كلاب، فتح عينيه... وابتسامة حقيقية على وجوه مُتَطَلعة نحوه، تطلع هو إلى زوايا البيت الذي ملأ فراغات يُتمً عاش سنينه فيه .... وضحكة ود مع الجميع، وكثيرا ما يتذكر ذلك اليوم حين احتضنه القدر، ووضعه بين أضلاع واحتواء قلوب حانية في غفلة من زمن، ليرى في عيون أب وأم، حين تبنوه ولدا آخر وأخاً لولدهم الأبكم، ليحقق حلماً لركوب خيوط شمس نحو السماء رباناً لطائرة حقيقية لا ورقية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى