الأربعاء ١٥ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٠
بقلم فلاح جاسم

ملك الكمان...

نحن أمة تحتفي بموتاها فقط .. فالح حسن "ملك الكمان"، حقاً نحن أمة لا تعبأ بنجاحات أحيائها، ولا إنجازاتهم، ولكنها فور رحيلهم تُقيم الأمسيات وتجند معظم وسائل إعلامها للحديث عنهم. كيف لا، ونحن من تجسدت مواقفنا في ديواننا، فالشعر ديوان العرب، وقد قال الشاعر: وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر.

يقول عنه العراقيون: "أمير الكمان"، وأنا أقول عنه : ملك الكمان بلا منازع؛ إنه الفنان المبدع، عازف الكمان فالح حسن؛ شابَ شعره الكث واستدارت الهالات حول عينيه، لتكون شاهداً على تاريخ ممتد كامتداد أهوار العراق، وغني كنخيل البصرة، وصافٍ كمياه شط العرب.

فالح حسن لم يُـقدم له النجاح على طبق من ذهب، لكن طريق النجاح بالنسبة له كان مفروشاً بــ "التيزاب"وأشواك"العاقول" كما يقول العراقيون، وخير شاهد على ذلك أثر السنين في وجهه.

منذ صغري، ومنذ كانت الذكريات كأنها صور في ماء، كنت اسمع اسمه يتردد في أشرطة الفنانين العراقيين الريفيين، أمثال : أحمد الإنضباط و ليلى الحلاوي وطالب السامرائي و عبادي العماري ... وغيرهم . فالح حسن هرم، قد يكون من الصعب الوصول إلى قمته، جاب جميع أرجاء العراق من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه، خبر وعرف كل الأطوار العراقية مثل: الطور المحمداوي والشطراوي والحياوي، وغيرها.

أوتار كمانه لم تُشد إلى آلته، بل شُدت إلى قلبه، فأتت إيقاعاته موشاة بنبضات صادقه، تروي بعمق حكاية كل نبته زلّ وحلفا وبردي، والمشاحيف التي تنساب في أهوار العراق.

كانت لفالح حسن شهرة وصيت ذائعين، ربما أكثر من بعض المطربين في السبعينيات، وقد رافق أساطين الغناء عازفاً على الكمان، من أمثال : حضيري أبو عزيز و داخل حسن و مسعود العمارتلي و ناصر حكيم وصولاً إلى حميد منصور و سعدون جابر و رياض أحمد.

ربما يجهل الكثيرون بأن فالح حسن هو من أدخل المطرب سعدي الحلي إلى الإذاعة، عندما كان الحلي سائق سيارة أجرة "تاكسي" بين مدينتي بغداد والحلة، وهو من أدخل الفنان ياس خضر إلى الإذاعة أيضاً، وقدمه مطرباً، حيث كان الفنان ياس خضر يعمل في إحدى مستشفيات بغداد.

وربما لا يعرف جُلنا بأن فالح حسن ملحن يشار له بالبنان، إذ لحّن للفنان سعدون جابر أغنيته الرائعة (خبب يمشي المدلل)، وأغنية الفنان ياس خضر (تواعدنا وعلى الموعد إجينا)، وقد تنكر الاثنان لذلك، علماً بأن فالح حسن صرّح بذلك شخصياً عدة مرات ولم يستطع أحد نفي ذلك.

أيها الأخوة .. دعونا دائماً نستذكر ما حفل به سجل أعلامنا الأحياء من إنجازات، ولا نسارع إلى إقامة الندوات عنهم فقط فور رحيلهم عن الدنيا، فهذا العَلم هو مدرسة بذاته، وقد رضع الكمان من أنامله ألحاناً سائغة صافية عذبة، كيف لا وهو من قال: إني أجعل الكمان يتكلم، أي أنه يستطيع حتى مناداة الأشخاص بأسمائهم من خلال عزفه على الكمان.

بقي أن نقول في هذه العجالة: أطال الله بعمر الفنان فالح حسن، وأسبغ عليه من نعمه ومتّعه بصحته، فبالرغم من فقده لبصره، لم يفقد نور البصيرة، وتفوق على أقرانه المبصرين. لكن ذلك الفنان يعاني اليوم ظروفاً مادية ومعنوية صعبة ليست بأحسن من سابقتها، إذ انقلب معظم الذين تعاملوا معه من المطربين والمغنيين، والذين كانوا يتهافتون لجعله يرافقهم بعزفه، قلبوا له ظهر المجنّ، وربما لا يذكره ولا يشكره معظمهم حتى في لقاء عابر أو بتلميح غير صريح.

رأيت ذلك حزناً دفيناً في تعابير وجهه، ومداعبة أنامله للكمان، في أمسية غنائية رائعة منذ فترة وجيزة مرافقاً للمطرب محمد السامر بحضور مقدم الحلقة الأخ والصديق العزيز إبراهيم مطلق الفرحان .

العراقيون: جزء من أمة تقطعت أوصالها،يتوقون لنور الشمس ورائحة الخبز ، الذي لا تشوبه رائحة البارود.

أهوار العراق: أراض خصبة في جنوب العراق،أصبحت طيورها تنوح للقاء مشاحيفها بدون رقابة دولية،وأصبح ماؤها تشوبه رائحة الدم.

التيزاب: ماء النار، الذي يتجرعه العراقيون كل يوم.

العاقول: هو نوع من الأشواك الحادة ، شجرته أبرية الأوراق،أصبح يسكن قلوب الشرفاء من العرب منذ أن وطأت أقدام الغزاة تراب العراق.

الزلّ والحلفا والبردي:نباتات مائية تنمو في جنوب العراق، فقدت ألوانها منذ مدة.

المشاحيف: زوارق مصنوعة من الخشب، انسيابية الشكل والحركة، تستخدم في جنوب العراق، أصبحت تسير على الرمل بدل الماء.

المجنّ هو الترس، وأن يقلب له ظهر المجنّ تعني :كما نفعل الآن مع بعض إخواننا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى