الاثنين ٢٠ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٠
بقلم ذكرى لعيبي

لا امرأة ولا مرآة

يبزغ الفجر وعيون المدينة غافية على ضفاف الفرات ومواويل الهور وأحزان القصب، نخلات تتسامق بسعفاتها وحبات تراب تعانق رحمها، حب الوطن الجميل وحب الأهل كما لو كنت أحبك منذ الخلق الأول، بل منذ العماء الأثيري البعيد.

سنوات عجاف تمرُّ عليها.. ابنة سحر الأهوار وقمم الجبال واخضرار حقول ولادة..
زوجة رجل راحل أبداً في معالم التغيير ومضاربها.

لم تستوعب حماقة الزمن وبلاهة التائهين في دروب اكتظت بمتظاهرين ضد أحكام الكون.

تجلس القرفصاء في إحدى زوايا الدار الباردة، جدران متشققة، أسقف آيلة للسقوط، أرضية رطبة،لوحة معلّقة تآكل إطارها،لم تسقط رغم بلى الخيط الذي يشدها
وصدأ المسمار الذي يحملها!..لعلها الذكرى الباقية لمقاومة انفلات الماضي من ذاكرة
الدار.

يرهقها التفكير، الأحلام التي لا طائل منها والانتظار الممل..تغمض عينيها وتترك الأبواب مشرعة لخفايا عقل صامت بلا تبرير.

تعود بذاكرتها لسنوات.. في جمرة جرحها براعم خضر،مرايا وعصافير نخل وهواء يتكسر تحت جناح الحمام..

قبائل وماء وشموع وبروق نزيفها..تمد يداً العروق الغريبة تشفق، والأحوال تشهق والياسمين يدور..تبتكر سيد الياسمين هنا،تحت أيقونة الجسد المشرئب، تبتكر البيوت،الأزقة،البحر والأجنحة، الشتاء والمطر والأقنعة،تبتكر الهديل،الخُطى،وأغانِ الرعاة،تبتكر الليل والأحلام وهدأة الخطوات،تبتكر حِداء الحنين،السفر والأشواق،تبتكرالحمائم واليمام والأصدقاء والأمومة،العناق.

تضرب رأسها بالجدار، تتمنى لو سابقت الزمن،لو لم ترضخ لهذا الدوار المرير،لو لم تفتح الباب ذلك اليوم!!لولم تتكلم أو تنهار..لكن بلا استئذان.

وعجلة الزمن تدور،ليل يعقبه نهار،خطوات لم يبق منها إلاّ الخطوة الساهية
التي ستقودها إليه.

دقات متتالية على باب خشب هرم..تنهض لترى من الطارق،تمدُ ذراعاً قصيرة وتفرد كفاً بيضاء كالخوف تمسك بمقبض الباب وتفتحه:

إنها جارتها الودود:

كيف حالك يا سلوى؟

بخير كما ترين، الحمد لله،تفضلي

أوه يا سلوى، أما حان الوقت لتسلخي عنك هذا الثوب الأسود ؟

إن خلعته يا أم عماد، هل استطيع أن أطرد الحزن من قلبي..وهذا النزيف المتدفق من أحاسيسي كيف أوقفه،وعيوني تلك التي صارت موائد تقتات
عليها الهموم..كل شيء بات يصفعني كالنار.

اختفى الفرح وبات القلق زادها اليومي،وبين النقطتين كان لابد أن تعيش وتقاوم..
منذ خمس سنوات وأم عماد تعاود سلوى بالزيارة، تتحاوران وتتبادلان هموم الأيام والأحوال والأوجاع وشح المسرات.

غادرت جارتها، فنهضت تتوكأ على آلامها لتصل باحة الدار، حيث شجرة السدر، تقترب منها،تتنفس رائحة الماضي،تنهدات وتنهدات،لاتريد أن تتعرى
من كينونتها،حياة غرست فيها بذرة الصبر،فثمة قوة ما تبعث دبيب حياة التمرد
على بؤسها.

تمكث عند الشجرة وتجمع إنسكابات سنين بصباحاتها الندية ومساءاتها العطرة،كم من طيور بنت أعشاشها

كم منها تعلّم الطيران وحلّق بعيداً،كم منها سقط..

خريف يُقبل فتتجرد من اخضرارها رغماً عنها،لكنها باقية شامخة لتسابق الفصول وتسترّد حلتها متباهية أمام الجمادات!

كم من صيف قشّر لحاءها،كم من ربيع أزهرها،كم من شتاء تتشهى فيه دفء الشمس ومواقد القلب وكوانينها:

فصول تدور..نهارات وليال..مخاض حياة تولد في لجته أكثر من سلوى!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى