الثلاثاء ٢٨ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٠
بقلم عبد الجبار الحمدي

البهلول

هل يمكن أن تنتهي حياتي مثل هؤلاء؟ وأشار برأسه إلى القبور التي سكن بجوارها بعد أن دفعت به الأيام إلى هوة تدحرج فيها كصخرة ارتطمت في قعر الضياع، جلس على حافة صندوق خشبي والذي كان بمثابة منبر الخطابة اليومي له، يجلس عليه ليسامر رفات فاضت رائحتها الى جيوب أنفه كأنها لفافة أفيون، ما أن يستنشقها حتى يبدأ بالهذيان والبكاء على حاله، لعن الزمن والدهر بمسميات تعودا الاثنان أن يسمعاها من الكثير من الإحياء والأموات، أخرج قدمه من نعال لاكته رجله الميتة من ركود بلا حراك او تنفس تربه حية، تاقت كثيرا أن تطأ تربة شارع او زقاق سطعت عليه الشمس وبخرته من دود وآفات عاشت على أجساد نخرة، حرك أبهامه ليحك مقدمه رأسه بعد أن نمت عليه حراشف أمست كمعاول حفر، ليكتب أسمه الذي نساه في بطن قبور، والذي ما أن خطه حتى تحركت قدمه لا إراديا لمسحه، ضاربة بطنها بقوة على ولادة عقيمة في رحم بيوت أموات، لم يكترث لها وردة الفعل, حملها قسرا ليضعها فوق ساقه الأخرى المتسمرة بحافة الصندوق كمسمار صدأ، خبأ جسده العاري في داخل جسد غريب بعد ن تلقى ضربا بمطارق حديدية على رأسه، كونه يمتلك قدرة في تثبيت وجهة نظر بصلابته وأنه من الأقوياء.

سار اليوم مثل غيره من الأيام التي نسي فيها أهل الأموات زيارتهم، لذا تراه لم يتغير مع أموات في قبور تعودوا النسيان أيضا، إلا من رقد معهم ساكنا ميتا في جسد حي، وها هو تراه أخذاً ببلع دخان سيجارته منهيا الحياة فيها، رماها بعيدا لتتوسد التراب منتظرة طمرها تحته لتموت موتا أبديا، نهض إلى تلك الربية التي وضع عليها أبريق الشاي الذي اسوَدَ حزنا، بعد تلقى العذاب قبل أن يحاسب حرقا بنار دنيوية ، ومياه دأب على غليها ليصبها بعد تلونها بورق شاي كاتباً سيرتهما الذاتية ومعاناتهما، ليشربه هو رغم مرارته، وكونه إنسان فقد أعتاد أن يبلع أي شيء بعد وضع القليل من السكر، ليسهل عليه بلعه دون الشعور بعذابه ونزفه الدموي، مر النهار رتيبا، وما أن جاء المساء حتي جلس على صندوقه الخشبي، مشعلا سيجارته ممسكا بكأس الشاي، متطلعا إلى سماء بعيدة غطت مساحة المقبرة، أرسلت السماء أشباح تعودت النزول لعذاب أٌناس نسوا الآخرة وعذاب قبر، وتساءل في نفسه !!

كثيرا هي الأيام مرت علي ولكني لم أرى من يقترب مني ليحاسبني، لا أستغرب إن نسوني، ولكن كيف لهم ذلك؟ ربما ظنوا أنني حياَ، وهاجس يقول له إنك فعلا حي، أبتسم ابتسامة مرهقة متسائلا وهل أنا حي؟؟؟ رد هاجسه أ ه ه ه ... طويلة ثم قال: لقد مللت تلك العبارة، أنظر حولك هل ترى من أحياء؟ أومأ برأسه كأنه يجيب بلا ... إذن سيأتي دورك، وما أن عب بعض الشاي في بطن فمه مع سحبة دخان سيجارة وبلع الاثنان، حتى شهق بقوة، مطلقا كحات أنتفض جسده رعشاَ واهتزازا، مخرجا من عينيه دموعا رغم عنها من سبات طويل، فجأة! ومن خلال غشاوة عيناه وامتزاجها بدموعها, تراءت له وجوه استيقظت من ضجة عارمة، كلً جلس على حافة قبره، صاماً أذناه من صوت أزعجه، أطبق يديه على فمه رامياً بكأس الشاي والسيجارة، محاولا خنق كحاته التي سحقت أنفاسه، كادت تزهق روحه التي قطنت جسده الضئيل، رجع الى الوراء سقط من على صندوق الخشبي، ألتصق بجدار السرداب مثل المسمار، لم يحاول الكلام، كان همه إسكات نفسه الثكلى، مع بقاء عينه على تلك الأشباح التي تجسدت له، بعد ان رحبت ببعضها البعض, متسائلة عن سبب الضجيج، ترامت الرؤوس نحوه فقال أقدمهم موتا: ما لك يا أنت ومن تكون؟؟ جمد الدم في عروقه تصلبا في شرايين، هاجسه توارى خلف كواليس مظلمة، أستنجد به أستحضره ليسمعه يقول: أنهم أشباح موتى، لعنه وقال: يا غبي وكأنك جئت بما لا أعلم به، إنما أردت تخبرني ما أصنع؟ لم يتلقى جوابا، وكزه بخاصرته قائلاً: هيا أخبرني ماذا أصنع، سمع هاجسه يهمس له تكلم معهم لنرى ماذا يحدث، لم يجد مناص من تجربة، حرك لسانه الخشبي من جفاف وفزع وسأل من أنتم؟

دوى السرداب بالقهقهات القوية، صم أذنيه طاويا رأسه بين أرجل متيبسة، ثم سمع أقدمهم موتا يقول .. سؤال غريب تسألنا وأنت من شاركنا منزلنا دون إرادة منا، هيا أنهض وأقذف بنفسك بالخارج وإلا ....، قال: من وطأ الأرض قبرا حديثا .. لا .. لا تفزعه وترمي به الى الخارج فقد أنست به في بداية سكني معكم، لقد كان كثيرا ما يحدثني ويتألم على فقدي الحياة وصغر سني، أرجوك دعه فقد ماتت أيامه قبل عمره، ولعله يسكن بجوارنا الى الابد، فأنا لا أعتقد أن من يملك عقلا يسكن في القبور مع الأموات، ليحيا الموت مرتين أستغرب لكلام ذلك الشبح، هاجسه قال له: هل سمعت يا من أسكنتني بداخلك ميتاً دون شعور بنبض حياة، وقتلت بذلك كل حواسك إلى الأبد، حتى بات لا يتعدى شعورك إلا تذوق دخان وشاي وفتات طعام من نذور أموات، شعر أن منغصات ذكريات قديمة أخذت تطرق أبواب ذاكرته، هي ذكريات الآن .. هرب منها في حياة، كانت تلك الذكرى فيها أصدقاء وأحباب في الحي القريب، حاول ان ينزع جِلدهُ ليتمازج معهم، ولكن نظرة إلى فقر حال وعمل يعد حقيرا، إضافة لقلة تعليم جعلت منه بهلولاً للآخرين، لذا جاء ودثر نفسه مع من هم على شاكلته في قبور وسراديب، فالأموات لا يكترثون من تكون، الجميع سواسية في الميزان، حتى وإن اختلفت أشكال قبورهم، نهض من جلسته ووقف أمام أشباح موتى وقال: لست مختلفا عن غيري من البشر، فكل واحد يبحث عن قبر ليسكنه، بعيدا عن عيون وألسنة الآخرين، قد تختلف القبور في شكلها للأحياء ربما تكون فارهة، وربما تكون مثل قنن الدجاج، فالنتيجة واحدة هي قبور دنيوية يعيش فيها الإنسان متلذذا بما يستطيع نيله من مغريات الحياة، دون الشعور بالآخرين من الناس، ومنهم من يعيش مستلذا بما يأخذه من ملذات المغريات ليعصر أناسا عملهم توفير ما يتلذذ به ساكني قبور دنيوية مرفهة، أما متلذذِ المغريات فتراهم يعيشون ليرموا ببقايا ملذاتهم الى من هم على شاكلتنا، هي دنيا متلونة كالحرباء هكذا أراها، فليس ذنبي أن خلقني الله من أب كان والده قبله حفارا للقبور، ليورثني قيد رقيق الى من سيكون بعدي، لذا قررت أن أحيا الموت معكم، علِ حين أموت أحيا الحياة معكم بغير ألقاب ولا بهلولاً.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى