الأحد ٣ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٠
بقلم ماهين شيخاني

عينا روزا..؟

كانت روائح شتى من الأطعمة تتسرب إلى داخل ذاك المنزل شبه الأثري في حي قديم يسكنه طالب جامعي مع أخته التي تصغره بعدة أعوام، والتي قامت بدورها لحظتئذٍ بتحضير بعض حبات من درنات البطاطا في طبق صغير تسمى (المفركة) بجانبه صحن تحتويه أقراص من الفلافل مع أبريق من الشاي المكرر. الباب مفتوح على مصراعيه كالعادة للتهوية لعدم وجود نافذة لاستقبال نسمات الهواء عوضاً عن التكييف. تفوح من جوارهم ألذ وأشهى أنواع الأطعمة، حتى بات بإمكانهما معرفة ما أحضره كل منزل سفرتها للفطور في شهر رمضان المبارك.

فجأةً, أقحمت هرة صغيرة هزيلة منهكة تجرجر ذيلها الخامل هدأة سكونهما ومزقت صمتهما, فنظرا لبعضهما ومن ثم إلى تلك الهرة باستغراب. تمتم بنبرة أليمة: سبحان الله تركت كل هذه البيوت واتجهت إلينا, لبيت لا تملك لقمة تفتخر بها أمام هذا الروح, حتى رائحة لحم لن تحصلي عليها أيتها القطة, لو كنت بجانب مطعم الآن لكنت على أحسن حال من هذه الزيارة, ولوفرت عناء التعب والمشقة, على الأقل كنت ستحصلين على رائحة شواء أو بعض من العظام المرمية في الحاويات. أما عندنا يا للحسرة حتى الخبز يابس, عليك نقعها بالماء لبلعها؟

أرادت أخته بذكاء وفطنة أن تخفف من محنته فقالت: يا ألله ما أجمل عينيها؟ انظر إلى عينيها الزرقاوين , كم تشبهان عينا (روزا)!

 ارتسم على شفته ابتسامة ساخرة وقال: ومن روزا هذه؟ ثم أستأنف: أوه تذكرت, تقصدين جارتنا بنت البلد أم عيون صافية كزرقة السماء؟

 تماماً, لون عيونها وجسمها الهزيل المائل إلى لون البرتقالة, توحي لي بأنها ماثلة أمامنا, سبحان الله, الخالق الناطق, كأنها تحولت إلى هذه القطة.

نظر إلى القطة بشفقة, سبقته أخته بما يجول في خاطره لتقديم شيء ما للقطة بالرغم من أنه لا يملك سوى بعض النقود القليلة وقالت:

أخي ..! لم لم تذهب إلى المحل وتشتري لروزا قطعة لحمة أو علبة (مرتديلا). إنها ضيفة.. وإكرام الضيف واجب, أليس كذلك؟

 حك بأصابعه القلقة رقبته, فكر بما في جيبه من نقود. قال: كذلك. أختي. كذلك والله فكرة حميدة, لأبأس بها لكن دقائق قليلة سنسمع دوي المدفع وتغلق المحال أبوابها حتماً وجميع المحال موصدة في هذا الوقت – ثم استطرد ـ مع ذلك لن أخذلك أمام ضيفتك, سأسعى للبحث, ربما أجد محلاً فاتحاً, تكرمين أنت وروزاك هذه. كرمال عين تكرم مرج عيون.

خرج الشاب والهرة تنظر إليه بتودد وكأنها فهمت ما دار بينهما من حديث عن الطعام والواجب.

لحظات قليلة وكانت في يده علبة صغيرة من المرتديلا, فتحها ووضعها على جريدة قديمة وقدمها وجبة للضيفة, أكلت الوجبة بشراهة, لم تبقِ على شيء وصارت تلحس بلسانها قاع العلبة ثم تتلمظ شفتها وجسمها, جلست على مقعدها, مدَّت رجلها الأمامية إلى رأسها مسدتها وحكتها, كأنه لمس منها الرضا والشكر, ثم تركتهما واتجهت نحو الباب وهي رافعة ذيلها.

كم كان إطعام هذا الحيوان الأليف مصدر سعادة لهما, تسلل الفرح إلى روحهما كتسلل تلك الروائح الشهية من الأطعمة إلى داخل غرفتهما، بالرغم من أن بطونهما الفارغة تلتهب جوعاً وعطشاً, وهما بانتظار الدقائق القليلة المتبقية للمدفع.

لم يجد قط إحساساً رائعا ًسيطر على حالته كهذه, حتى إنه وجد من الصعوبة تفسير وشرح مدى وعمق هذه السعادة بل النشوة العارمة التي حظي بها كإنسان راق يرفق بحيوان أليف, أحس بكثير من الغبطة والسرور وهو يرى هذا الشعور المماثل على ثغر أخته، وهي تلوح بكفها مودعة القطة وتقول: باي روزا المدللة, أنا ذاهبة للمطبخ.

بعد الإفطار بفترة وجيزة, دخلت القطة مسرعة باتجاهه وهي تموء مواءً غير طبيعي, كأن كارثة ستحصل وهو ممدد على فراشه للاسترخاء بعد حشو معدته بـ (مفركة) كالوحل وبعض أقراص الفلافل الباردة, اصطدمت ذيلها بكأس الشاي التي بقربه ولم تأبه لذلك, بل تقدمت ونطت على الوسادة وأصبحت تبحث عن شيء ما. انتابه شعور بالقلق والخوف من تصرفها الغريب, كونه يعلم أن بعض الحيوانات أحياناً تحس بأشياء قبل حدوثها كالزلازل مثلاً.

أثارت القطة حفيظته فرفع الوسادة بهدوء يشوبه الحذر, انتفضَ وقفز في الهواء لاشعوريا حين وقعت عيناه على عقرب داكن اللون, هرع نحو الحذاء, أما هي فانقضت عليه بسرعة البرق وأخذته بمخلبها جانباً, تصارعه بكل ما أوتيت من قوة وبعدما تخلصت منه رآها تترنح كأنها فقدت توازنها ثم تمددت وهي تموء وتئن كلحن حزين, حينها أدرك أن العقرب قد سارع بلسعها.

ظل جامداً في مكانه بدون حراك, ليس بوسعه فعل شيء لإنقاذها أو تخفيف الألم عنها سوى دموعه التي انسالت على خده البارد وهو يودعها بنظراته الممتنة, أغمضت عينيها الجميلتين وانقطع مواؤها. 


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى