الأربعاء ٦ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٠
بقلم محمد نادر زعيتر

حب بلا جنس



هل ثمة حب بلا جنس أو مصلحة، بل حب من أجل مجرّد الحب !
هل كان آدم نقياً تقياً إلا قبل أن يعرى وينتهك الحب العذري !
هل إلا الشيطان الذي أغواه وزوجه، فأبعدا من جنة الفردوس !
أليس ثمة حب، إلا ذاك الذي يتلاقى فيه أحط ما لدى إنسانين !
أليس قديساً حقيقياً ذاك الذي يسخر حبه في سبيل الإنسانية فحسب!
أليس (أو أليست في من أعرف) من أكابر الحب من يحيل هواه إلى أبجدية رائعة ولا أروع، فيكون إبداع ويحظى بالألق!
أليست السماء والأرض يتعاشقان، فيكون دجى ليل وفصح نهار يتداولان؟ أليس بأنسام الحب تتمايل الأشجار في محاريب الغابة وتتقاصص حكايا الهوى !هل الأبوة والأخوة والصداقة إلا حب خالص، سداه وداد ولحمته وفاء !
أليس حباً سماوياً عندما تتفقد الكواكب أمها الشمس، وتداورها في شغف! أليس النرجس وأهل جنسه من النبات إلا أمثال حب لا دنس فيه ولا دونية!

حب من أجل الحب وحتى الموت وما بعد الموت، تلك هي القضية في اللوحة التالية :


حبيبان لا زوجان

غير صالح للزواج

كانت تلك خلاصة تقرير طبي من جهة مختصة بفحص المقبلين على الزواج، فقد تبين بنتيجة الفحص والتحليل أن (منار) مصاب بفيروس كبدي كامن غير قابل للشفاء، وينتقل بالعدوى في حال التلاقي الجنسي ويؤثر على الإنجاب. ويتأثر ويصبح خبيثاً قاتلاً إذا تعرض المريض لهزّة عاطفية، منار طالب في كلية الآداب في السنة الأخيرة، تعرف على زميلته (جلّنار) وتطورت مسيرة التعارف حسب قانون الشاعر أحمد شوقي المعدّل:

"نظرة فابتسامة فسلام وكلام فموعد فلقاء ثم سعي بالزواج".
توقفت المسيرة عند المرحلة الأخيرة عندما تصاعد الحب إلى هوى ثم هيام. وترسخ هذا المقام بإجراء عقد ديني (عرفي) تمهيدا للإجراءات الرسمية في تسجيل الزواج في المحكمة المختصة.
وكادت أن تهم به ويهم بها لولا أن رأيا برهان القدر، هو ذلك التقرير الطبي المفاجئ ! الذي كان من أحد الثبوتيات اللازمة لمعاملة الزواج، لم يقتنع منار بهذه النتيجة المريعة، توجه إلى أطباء اختصاصيين بقصد التأكد والمعالجة، والنتيجة ذاتها، المعالجة صعبة، وتحتاج إلى وقت طويل وكلفة عالية،.
كانت جلنار ترافق منارأً في تحركاته لدى الاطباء، وسكناته بينه وبين ذاته. "عليك بالذهاب إلى أوروبا فإن فيها التقدم الطبي الشافي"... كانت تلك نصيحة جلنار وأبدت استعدادها للذهاب معه وان تبذل كل ما يحتاج من مال في سبيل علاجه.....
"عليك بالأعشاب الطبية إنها تفيد في مقاومة الفيروس والقضاء عليه، وثمة حالات تم فيها الشفاء" كانت تلك نصيحة بعض الشيوخ من المقربين لذويه، استعن بالله، وتزوج في بلد آخر لا يخضع فيه الزواج لقيود الاختبار الطبي، ثم قم بإجراءات نقل معاملة الزواج إلى هنا، أو ثبته في المحكمة كأمر واقع، لا تهتم بما يقول الأطباء، إنهم واهمون ويوهمون، إن من قبلنا تزوجوا دون المرور على الطبيب، ومشي الحال، ورزقوا ذرية، الله هو القادر المقدر ولا راد لقضائه" كانت تلك نصيحة أبويه ..وأضاف والده "ربما يكون فيني هذا المرض حين تزوجت ولم يؤثر على حالتنا أو ذريتنا،"خيارات ثلاثة، رابعها وهو الأدهى والأمرّ، أن يتصنّم هذا الحب، و وتنطلق جلنار إلى حال سبيلها، وتنتظر نصيبها، وتتابع مسيرة الحياة كزوجة لآخر. ويبقى منار في معاناته إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا.لكن ذلك لم تقدم عليه جلنار.


تمر أيام وأشهر وسنوات... فلا منار غامر في الذهاب لأوروبا لعدم قناعته مع الآخرين أن ثمة أمل، ولا أفادته الأعشاب الطبية المختلفة الأسماء، ولا فكر في التحايل على القانون بزواج واقعي في بلد آخر كما هي نصيحة والديه، على الرغم من أن جلنار لم تمانع في ذلك.

جلنار لا تفارق مناراً، بل هي ظله، كانت تقول له: أنا لك إلى الأبد... ...."حبيبان لا زوجان" تصبّره وتصابره، تواسيه وتسامره، في معظم أوقاتها كانت عند أهله ومن حوله، كانت هي السمير وهي الوصيفة، يحدوها الأمل حيث لا أمل، وقد منع عنها الطبيب أن تعاشره معاشرة الأزواج، ولذا رغب ذووها أن تبقى في عهدة بيت أهلها، لكنها هي هنا لدى منار وهي هناك لدى أهلها، وهو، بل وهما حائران فيما العمل.

ورد كثير من من يودون خطبة جلنار، كانت ترفض بإباء، وتقول إني خطيبة مناربل زوجته شرعاً، ، ولا يجوز خطبة امرأة تعد زوجة!انقطعت جلنار عن منار عدة أيام، ثم ورده الخبر أنها في المشفى تجري لها عملية القلب المفتوح، أسرع حيث هي، فإذا هي في غرفة العمليات منذ ساعتين.

جلبة واضطراب في أروقة المشفى، والممرضات غاديات رائحات في عجلة من الأمر، وصمت إذا سئلن ما الخطب؟ ما الأمر ؟
خرج الطبيب من الغرفة، يتصبب عرقاً وهو محتقن أسى، وبعبارة تكاد لا تسمع: "البقية في حياتكم، توفيت جلنار"، وغادر الموقف المهيب، ليس في معرض قصة قصيرة أن توصف فظاعة المشهد، وأن يفاض في استبيان المشاعر الأليمة، فقد كان الحاصل مأساة، الوالدان هجما على النقالة يندبان و يهذيان، أما منار الذي اغتسل محياه بالعبرات الساخنات، وكاد يغور في الأرض،فقد تقدم حسيراً كسيراً من قامة الحبيبة يودعها آخر القبلات "وفي الحياة ما لثمت فاكِ * فلتسمحي بقبلة المماتِ"
ذهل منار، أن لا علم له بشأن جلنار، حتى صيرورتها قيد العمل الجراحي الجسيم، وعلم من أمها فيما بعد أنه ذات يوم شعرت جلنار بألم في الناحية اليسرى من صدرها، وفي يدها اليسرى كذلك، توجهت إلى الطبيب الذي قال بعد طول معاينة، لديك مرض خطير في القلب، ويلزم إجراء عملية القلب المفتوح على الفور، وأوصت جلنار قبل خضوعها للعملية أن لا نخبرك كيلا تتأثر، حيث الحزن والمعاناة يفاقم من حالتك الصحية التي كانت في حرص شديد عليها.
شوهد تحت وسادتها في المشفى ظرف رسالة موجهة إلى الحبيب منار. وحين استلم الظرف، كانت فيه الرسالة التالية: "الحبيب منار
أنا ماضية إلى غرفة العمليات، إلى كنف الله، قد يعيدني إلى الحياة أو أتابع الطريق مع الملائكة إلى عالم الأرواح، فإذا ما كانت الثانية، أناشدك أن لا تتصاعد بالحزن، أما قال الطبيب: إن الانفعال يفعّل الفيروس ويقضي عليك"
الحبيب منار شاء الله أن أساير مشوار البؤس معك، وودت لو تابعت، لكن تجري الرياح...والآن كن عاقلاً، كن مدركاً لحالتك، إن روحي تناجيك من العلياء إذ تذكر جلنار، أنا معك، فكن معي بأن تحل محلي في العناية بنفسك، كم لا أكون سعيدة إذ أراك ببصيرة الروح أنك تنهار، ويقهرك الموت، حبنا أقوى من الموت يا منار.
أوصيك أن تنصب على رمسي شعار الحب، سارية في أعلاها راية بيضاء يتوسطها قلبان أحمران داميان يشعان نورا أبدياً، وأوصيك أن تحتفل كل عام بعيد حبنا كما كنا في الدنيا قبلاً، من يوم أن تعاهدنا على الحب والزواج، استمر الأول واستحال الثاني. لا بد أن نلتقي في أعلى عليين، حيث تتقارب أرواح الأوفياء، ألله المحبة يبارك الأحباب هؤلاء، اسلم لي يامنار، وأناشدك أن تعتني بصحتك، إلى لقاء خالد لا وداع بعده."

منار يهيم في الآفاق، منار تبدده الكآبة وتباريح الأسى. منار ينحل ويهزل، ها قد أوفى بالوصية إذ نصب راية الحب على مثوى الحبيبة كما أوصت، منار يذوي ويؤثر العزلة مع بقايا الراحلة: صورهما معاً، رسائلها حين لم يكن الهوى معلناً، حقيبتها وبعض من حوائجها، كان زاده هو كل هذا التراث ، وكان التذكار هو المهماز، منار يكتب، ولا يعرف أحد ماذا يخط يراعه؟
ويعلن الطبيب لأهل منار أن حاله قد تفاقم، وأن النهاية المحتومة قد دنت، و قبل أن يحتفل منار بعيد الحب الحالم الأول، قضى، ومضى نحو سبيل الله..وكان آخر ما نطق به: ادفنوني بجانب جلنار شهيدة الحب بلا دنس.

بعد رحيله، شوهدت في غرفته الخاصة آثار الحبيبة. وفي صدر المكان صورة مجسمة لجلنار وقبرها العتيد، وشوهد تحته كلام منظوم نسخه منار بدمه على أوراق من دفتر المرحومة:

بعد ما كنا بدنيانا سواءْ داهم الحتفُ وصرنا غربـاءْ
 (قد انتحى كلٌ إلى غايته لا تقل شـئنا فإن الله شـــاءْ)
م ا بعدك يا جلّنار بقـــاءْ عزّ اللقاءُ، أين أنت يا قضاءْ


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى