الخميس ٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٠
بقلم مصطفى أدمين

رحلة كورْسِيكا

حدَّثني أبو ضِياءٍ؛ قال:
كان يوم عيد دامٍ يوم زُرتُ أسْتاذي أبا جِنانٍ لأُطْلِعَه على نِيَّتي في زيارة بلاد عبدة الكراسي المُطِلَّة على البحر الأول. وحملتُ إليه فَخِذَ "حَوْلِيٍّ" ليقْتاتَ عليه، ولِعِلْمي أنه ـ كما في كلِّ عام ـ لن يعمد إلى ذبح حيوان وديع بسبب أن أحدهم حلُم بذلك في غابر الزمان. وكنتُ في طريقي إليه أتحرَّزُ من رفْضِه هديتي، وأفكِّرُ في ذلك الشاعر النادر الذي آتوه بديكٍ مُحمَّرٍ فبكى أسَفاً عليه حيث استباحوا دمَه ولحمَه لِضُعْفِه، فقال لهم:"والله لو أتَيْتُموني بأسدٍ مشويٍّ لأكلته؛أما هذا المستضعف فحرامٌ عليَّ". ولمّا كنتُ غير جدير لا بهذا ولا بذاك، وغير نِدٍّ لهما في سُلَّمِ الإنسانية، فإنني فعلت ما يفعله عمومُ الناس، واشتريت "حَوْلِياًّ" أقرَنَ، وذبحته لأجل لحمِه وصوفه، مُبرِّراً فِعْلتي تلك، بالعادة والتقاليد.

وكان يوما باردا على الرغم من نيران الشواء المتقدة في كل بيت وناحية؛ فوجدته ممسكا ببادنجانة يشويها على مهل. ولمّا لم يكفه الوقود؛ نهض إلى كرسي مِمّا يحلم جرادُ الناس بالجلوس عليه، وكسَّرَ أضلُعَه ورمى بها في النار، وقال لي: «و الله لو كان البادنجان يُحِسُّ لما أكلته». فخجلتُ من هديتي وواريتُها خلف ظهري، وقلت له: «و ما أدرانا أنَّ البادنجان لا يحس؟» فضحك وقال: «وأمّا الحكمةُ العملية فهي أن نحيى؛ ولكن ليس بالذّبح». فقلت: «أنا مقبلٌ على زيارة كورسيكا... فبماذا تنصحني؟» فردَّ بعصبية:«ألَمْ تَرَ أنّي قد قدّمتُها لك؟ ومع ذلك، فهاك ما تريد: حاذر ألا تجلسَ على كرسيٍّ من كراسيهم لأنهم يطلونها بدهن كالمخدر؛ فما إن تجلس عليه، حتى تَأَلَفُهُ مؤخرتُك وتُمْسي مُدمنةً عليه، وما إن ينتزعوك عنه حتى تظهرَ عليك أعراض الفطام فتمرض أو تموت». وفي الغد، ركبت مركبي رأساً إلى ذاك البلد... وكانت خريطتُه على شكل كرسي تماما؛ بأرجل ومقعد وسند؛ كرسي يُذَكِّرُ بالأسطورة التي يعتقدها «الكورسيكيون» وهي أنَّ أصْلَ الإنسانِ من كرسي مخفيٍّ في طيّات الوجود... حيث أعطى سندُه طبقةَ الكهنة والدجّالين ومُحترفي الوعود الكاذبة؛ وهُمْ حُكّام كورسيكا الفعليين. ومن مقعده خرجت طبقةُ أصحاب السلاح ذات لامتيازات الكثيرة. ومن أرجُلِه الأربعة، طبقاتُ الفلاحين والصيادين والصُنّاع والمُسَخَّرين للسخرات المحتقرة، وكُلُّهم في حال من العيش الصعب.

وما إن دخلتُه حتى ترآى لي كرسي عظيم منحوتٌ من الصخر والحديد، وفئات الناس حول أرجله يتمسَّحون بها ويعبدونها كما لو أنّها تمنحهم الحياة. حول كل رجل فئة من الفئات التي ذكرت لك. وعلى الكرسي، وَقَفَ عددٌ من ذوي السلاح وفي أيديهم سياطٌ وهراواتٌ وحربات يلهبون بها ظهر كل من فرَّط أو أفرط في العبادة. وكان المقصود بها:استمرار المستضعفين في الاعتقاد أن حياةَ الفقر والذلِّ التي هم عليها حقيقةٌ أزلية لا نقاش فيها. وكان الدليل على ما تزعمه قوى القمع والإخضاع هو«وجود الكرسي المعبود»(الذي هم من بناهُ بالعرق والدم والألم).

وفي المدينة، رأيتُ أمراً لا ُيصَّدق: فكل مقتدر على غيره وقف على كرسي من صنعه أو شرائه، وراح يُلْهِبُ ظهر الشخص الذي هو تحت سلطته؛ صانعٌ يجلِدُ تلميذه، زوجٌ زوجتَه، أب ابنَه، تاجرٌ صبيَه، سارحٌ كلبَه... وفي النهاية جلسوا على كراسيهم السلطوية فرحين سعداء بتسلطهم على من هم دونهم ولسان حالهم يقول:«إنّها قضيةٌ عادلة؛ سُخِّرنا للجلد وسُخِّروا لأن نجلدهم» وهاك يا شقيُّ هذه الطرفة:كنتُ في ذاك المجتمع العجيب أتَجَوَّلُ في أزقَّتِه الشعبية الفقيرة فَعَلاَ صُراخٌ من جهة «قصر القيادة»؛ ولِدهشتي فلَمْ يهتمَّ الناس به. وكأنَ الأمْرَ عادِيٌّ تماماً، فسرت إلى جهة العويل، فرأيْتُ «أهل السلطة» يُحاولون قلْعَ أحدهم عن كرسيِّه، وهو يولولُ كامرأةٍ في جنازة، ويبكي كرضيع في الفطام، ويتوسَّلُ إليهم بأن يتركوه عليه. ولَمْ يأبهوا لِتَوَسُّلاتِه، واقتلعوه منه، ثمَّ ألقوا به أرضاً. فراح يتمرّغ ويُمزِّقُ ثيابه. ولما انصرفوا عنه، دارَ إلى أطفال كانوا يضحكون منه، وقال لهم والدمع يجري على خديَّه: «إنه كُرسِيّي ورَّثني إيّاه أبي» فما كان من أولئك الأطفال إلاّ أن انهالوا عليه بالصفع... فعاد - بعد تجربةِ التسلُّط على الناس واحتِقارهم - إلى حقارتِه الأصلية. اقتربتُ منه وسألته:
 لماذا أنت على هذا الحال من الشعور بالضياع؟ " فردَّ وهو يبكي:
 ضاعت الفيلات والزرود و السيارات... والآن لم يبْقَ أمامي إلاّ الموت...
أليس هذا الأمرُ غريباً؟ أن يموت الإنسانُ بسبب كُرْسِيّ هو َمن َصَنعه؟ ولكنَّهُ مرضُ الإدمانِ على الكراسي ووَهْمُ السعادة المادِّية.

وقانا الله وإيّاكم من شرِّ السلطة، والعودةُ دوما إلى «غُرْباتْيا» ؛ البلدُ الذي يُكسًّرُ أهْلُه الكراسي ليجعلواْ منها وقوداً لِشَيِّ البادنجان.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى