الأحد ١٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٠
بقلم ذكرى لعيبي

تركة جلجامش

بين النهرين وعلى الضفاف تولد أمنية بوسع فسحة العيش الكريم، تكبر في ضياء الذكريات مثل الدهشة، تتقصى من جبين الشمس أغنية البوح الرخيم وترنو إلى براعم تزدهر، تتشهّى رغم أنف الوقت ومفاتن يأسه...

شهرزاد.. هو اسمها.. بعيدة تماما عن شهرزاد التاريخ العقيم وقريبة جداً من حكايا العبيد، تترعرع وسط أُسرة كبيرة، الجدان الشيخان المهابان، الأم المتسلطة الشامخة، الأب الملتحف بعباءة الوقار والحكمة، الأخوات التسع، الأخوان الثلاثة.

شهرزاد الكبيرة، والكبيرة في كل شيء مثل ما يقولون عنها، تعيش الطفولة المدللة حتى سن العاشرة،،حيث يموت الجد الشيخ تاركاً مدونة من الوصايا وصندوقاً خشبياً مطعماً بخيوطٍ من الذهب الأصفر!!

هذا الصندوق بوصية منه يكون لشهرزاد...

بعد رحيل الشيخ تدنو كل المنايا... تتفتت صخور الحنو والحنان،، تتشرد الأمنيات القابعات في قلوب الأخوة والاخوات، تطول يد الطمع الحقول والنهر والنخل وحتى العقول.

 كيف المخرج من هذه الهاوية؟

هذا هو السؤال اليومي المتبادل بين أفراد العائلة
شهرزاد تلّوح للجميع بأنها ستكون في البلاد السعيدة،، أو هذا ما أوحى به لها الصندوق.

 سأكبر يا أمي،، ويكون موطني البلاد السعيدة،، التي تنجب أطفالاً من عسل،، والأماني هناك تكون مثل اللؤلؤ المنثور.

 أية بلاد با ابنتي! ما زلت صغيرة على هذا الكلام.

 بلى يا أمي،، مازال أبي يضع عقال الهيبة فوق رأسه،،أذن ستولد أوطان بلون الفرح.
الأم كانت خائفة من الأوجاع القادمة: ماذا لو خنافس الوقت امتدت واخترقت حصون مملكتها ؟!

 لابد أن أنسج بيتي بحكمة..

ولكن هل الحكمة تغير الأقدار،، أو توصد الأبواب بوجه الموت،، هل الحكمة تُحظر القهر المحتم والضيم القادم!!

يمر الوقت،،وتمر السنوات متواليةَ حروبٍ وجوع وخوف وقهر وموت ساكن فوق النفوس..
شهرزاد كانت تعي كل هذا منذ زمن،، لم تفاجئها المنايا القادمة.. (وكيف تصبر على ما لم تحط به خُبراً )

نعم أدخلت المنايا الرديئةُ أنفَها في ذلك البيت الجميل كان الوقت انتصاف الليل حين غُدر الأب برصاصات سبع،إثنتين في العنق وخمسٍ في القلب،، رصاصاتٍ انبثقت من فوهة قريبة،، قريبة المسافة والنسب مزقت الأحشاء وهو في أغفاءته المبجلة،،
لم يكن لديه متسع من الوقت لترك الوصايا والتقبيل:

 أبييييييييي

صرخة موجعة تفطرت من صداها الأراضين السبع

 أبي، ستزهر قطرات دمك أريجاً ومسكاً،، سأتنفسك ثأراً،،سأقبل صدى ضحكاتك نواراً
تهرع الى غرفتها، لم يتبق لها من الدلال والمحبين الاّ الصندوق،، تركتُها التميمة!
أو هكذا تسميها يترجل الزمن كثيفاً بكآبته ويحط رحله على صفحة الأحلام المؤجلة،، كل يوم ينقر زوادة فاجعة،، كل وقت ليقتات على فُتاتها ,,, يتفرق الأخوة والأخوات.. في المنافي،، تحت التراب،، بين القضبان،،على الحدود،، كلٌّ أخذ ما كُتب عليه.
الأم ما زالت متوشحة بظلال ذلك الشموخ الفارع الذي يوازي أشجار النخيل والصفصاف

 أمي طالكِ القهر يا حشاشة القلب

 نعم طالنا يا شهرزاد

 لا لم يَطُلْنا يا أمي،،سأرحل إلى البلاد السعيدة أبحث عنهم

 ستتعبين يا أميرة الدلال

 ربي معي يا أمي.. وتميمة جدي معي، كوني بخير

نعم ستكون الأم بخير ,, فكما قال يحيى بن معاذ ((صبر المحبين أشد من صبر الزاهدين.. وا عجباً كيف يصبرون))

تحزم حقائبها وتمتطي دروب الرحيل والترحال بحثاً عن أولادها الذين انبثقوا من رِحم عطائها الغر.. تتقدم بثقل نحو خزانة الملابس... تتلمس ذلك الصندوق الجميل،، تمسكه بحذر وحب ولوعة وحنين وتفتحه بعد طور سنين...

 ياه،، يا جدي الشيخ ما أنقاك وما أصفى أنفاسك،، رائحتك ما زالت هنا ياجدي، عبقَ بها القلب والمكان.

ترفع قطعة حرير زرقاء،، وتضعها جانباً تنظر إلى هذه التركة.. تقرأ قصاصة صغيرة:

((شهرزاد هذه عصاي التي كنت اتكيء عليها،، إفعلي كذلك وقت الشدائد))

تبتلع الغصة،، تتنهد،، تنحدر دمعة بأناقة الزمرد،، تقّبل العصا والقصاصة اذن هذه تركة جلجامش!! ستتوكأ عليها وربما لها فيها مآرب أخرى.... تخرج شهرزاد من جسدها ودار والدها وأسوار مدينتها وحدود وطنها... وتبحث عن أولاد اليتم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى