السبت ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٥
بقلم ممدوح الشيخ

نادي العشرة ملايين

الدراسات حول "الإبادة الجماعية"، تاريخها وأسبابها وأعداد ضحاياها تشغل الكثير من المؤسسات البحثية والأكاديمية وبخاصة في الولايات المتحدة، وتشكل دراسات جي. آر. روميل الكثيرة عن الظاهرة مدرسة شديدة التشاؤم والصرامة، وفي كتاب موسوعي عن حصاد القرن العشرين قام الأكاديمي الأمريكي جْي. برادفورد دي لونج (أستاذ الاقتصاد بجامعة كاليفورنيا) بتحليل إحصاءات روميل عن المدنيين الذين قتلتهم حكوماتهم بعيدا عن خطوط القتال في القرن العشرين والمقدرة أعدادهم بحوالي 165 مليونا من القتلى!

الإبادة تحت المجهر

وأهمية الموضوع تنبع من أنه يلقي ظلالا من الشك على القول بأن المصالح والأطماع الاقتصادية وحدها هي ما يفسر ما يشهده العالم من تغيرات، فالفكرة في الكثير من منعطفات التاريخ كانت لاعبا أساسيا، ومنذ الصراع مع النازية ازدادت أهمية الأفكار في فهم ما يجري "الآن" وتوقع ما يمكن أن يحدث "غدا"، والسنوات التي عاش العالم فيها مشدود الأعصاب يخاف من كبسة زر في واشنطون أو موسكو تكتب نهاية مأساوية لكوكبنا كانت الفكرة لا عبا أساسيا فيها وبعد انتهاء الحرب الباردة يتحدث الأمريكيون عن أنهم ما زالوا عاجزين عن الفوز في صراع الأفكار بالكفاءة نفسها التي يستطيعون بها حسم الصراعات العسكرية لصالحهم. ومن بين ما تغير إلى حد كبير في عالم الأفكار الموقف من حق الحياة، فعندما نسمع تعبير "الإبادة الجماعية" في ملف مثل دار فور أو مقترنا باسم صدام حسين فعلينا أن ندرك أن الأمر يتعلق بقضية أصبحت مرشحة لأن تثير القدر الأكبر من المشاعر والمواقف السلبية.

وبقدر ما يزداد هذا الموقف مبدأية يكتسي تعبير "الإبادة الجماعية" بظلال أكثر قتامة ويفجر من الغضب أكثر مما كان قبل سنوات أو عقود، والاحتفالات الضخمة العالمية والوطنية بالذكرى الستين للانتصار على النازية حملت دلالات كبيرة في هذا السياق. وخلف المواقف الرسمية تقف تغيرات ثقافية وفكرية لا تنفي أن المصالح لم تزل معيارا مهما لكنها لم تعد المعيار الوحيد.

وقد أسفر إخضاع الظاهرة للتحليل عبر مناهج مختلفة عن نتائج مثيرة، وكان أكثر التفسيرات إثارة ومصادمة لما هو مستقر من أفكار أن ثقافة الإبادة الجماعية ولدت على يد الثورة الفرنسية إحدى أهم الثورات في التاريخ، ذلك أن فلاسفة سياسيين مثل جان جاك روسو كانوا يرون أن أي حزب سياسي يمثل الأمة يخوض صراع حياة أو موت مع العدو فلا يجوز النقاش بشأن وسائل الصراع. ولعلها الصيغة الأولية لشعار لا "صوت يعلو فوق صوت المعركة" وثقافة اللحظة الاستثنائية التي حكمت العقل الثوري العربي لنصف قرن.

وكمثال فإن ممارسات ما يسمى "لجنة روبيسبير للسلامة العامة" خلال الثورة الفرنسية أعدمت ليس فقط الزعماء لكن أيضا أتباع وعائلات معارضي الثورة السياسيين، وممارسات الجيش الفرنسي في إخلاء السكان من المناطق المتململة مثل فاندي (فندييه) الفرنسية الغربية، وممارسة إجراء محاكمات معدة سلفا لإضفاء قشرة رقيقة من "المشروعية" وبناء عليها تنفيذ عمليات قتل سياسي، كل هذه الممارسات تجد أصلها في الثورة الفرنسية. بل إن برادفورد دي لونج يلخص دور هذا الجذر التاريخي الفرنسي لظاهرة الإبادة الجماعية بسخرية مريرة بقصة أسقف كاثوليكي فرنسي سئل: كيف نميز الزّنادقة من المؤمنين الحقيقيين في مدينة تم الاستيلاء عليها حديثا، ويقولون إنه قال:" اقتلهم جميعا! الله سيتعرف على عباده"!.

نادي العشرة ملايين

وقد قام الأكاديمي الأمريكي جي. آر. روميل بعملية تصنيف وضع فيها الأنظمة العشرين الأكثر إبادة للمدنيين في القرن العشرين ثم اقترح تضييق الدائرة تشمل فقط كل من أباد عشرة ملايين من المدنيين فأكثر واقترح تسميتهم "أعضاء نادي العشرة ملايين". ولنتخيل فداحة ما شهده هذا القرن الذي يسمى "عصر العلم" يكفي أن نعرف أن تاريخ البشرية المكتوب لم يشهد قبل القرن العشرين سوى اثنين يستحقان عضوية هذا النادي أشهرهما جنكيز خان. وبالمقارنة شهد القرن العشرون ربما خمسة أعضاء من نادي "العشرة ملايين" وهم بالترتيب الأبجدي: أدولف هتلر، تشيانج كاي شيك، فلاديمير لينين، جوزيف ستالين، وماو تسي تونج. وينفرد هتلر، وستالين، وماو بأن لديهم أوراق اعتماد تؤهلهم لعضوية نادي الثلاثين مليونا بل ربما حتى نادي الخمسين مليونا على نحو جيد!

بل إن اتجاها عاما يزداد قوة في الغرب وبخاصة خارج فرنسا أصبح يدعو لإعادة تقييم الثورة الفرنسية في ضوء هذه الحقائق التاريخية، وقد بدأت الجوانب التي كانت خفية من تاريخها تخرج للنور في الذكرى المائتين للثورة (1989) وعندئذ سلط الضوء على عمل أكاديمي فرنسي أثار لسنوات الجدل هو "إبادة جماعية فرنسية" لرينالد سيشر الذي أصبح ينظر إليه بوصفه أحد المراجع المهمة لتاريخ الثورة الفرنسية، وهو يحكي في كتابه قصة "فاندي" الفرنسية التي أباد جيش الثورة الفرنسية أكثر من ربع مليون من سكانها بسبب عدائها للثورة، وعلى مستوى النتائج طرح سيشر افتراضا خطيرا مفاده أنه بينما كانت هناك محاولات للربط بين الإرهاب الأيديولوجي والحكم الشمولي في القرن العشرين فإن فترة اليعاقبة من تاريخ الثورة الفرنسية يمكن اليوم فقط اعتبارها الفعل المؤسس لسلسلة طويلة ودموية تمتد من 1792 إِلى الوقت الحالي من الإبادة الجماعية الفرنسية في الغرب الكاثوليكي إلى معسكرات الاعتقال السوفيتية (الجولاج) إلى الدمار الذي سببته الثورة الثقافية الصينية".

الدم بين الدين والعلمانية

وإذا تجاوزنا المستويين السياسي والثقافي إلى الدلالات المعرفية لهذه الفرضيات التي تأسست على حقائق تاريخية معمدة بالدم فإن التيار الجديد الناقد للصورة المثالية للثورة الفرنسية ودورها التاريخي الذي كان يبدو للكثيرين مثاليا، هذا التيار يعيد الاعتبار لدور الدين في السياسة فالفصل بين الدين والدولة الإنجاز الأكبر للثورة الفرنسية جعل شعارها الثلاثي يتحول من "إخاء، حرية، مساواة" إلى "إخاء، حرية، وحشية" كما صاغه ساخرا المؤرخ البريطاني المتخصص بتاريخ الثورة الفرنسية.

وقد انتبه إلى دور الدين في منع استفحال ظاهرة الإبادة الجماعية قبل العصر الحديث المفكر الإسلامي المعروف الدكتور علي مزروعي في لفتة ذكية وردت في محاضرة قيمة ألقاها في المجمع الثقافي بأبي ظبي قبل سنوات عنوانها: "الإسلام والديمقراطية الغربية والثورة الصناعية الثالثة: صراع أم التقاء"، حيث يقول: "عادة ما يتم نقد المسلمين بسبب عدم وصولهم إلى الأفضل، ولكن قلما يهنؤن على ما لديهم من معايير أخلاقية جنبت وقوع الأسوأ. فلم يعرف الإسلام مثيلا لمعسكرات الإبادة النازية المنظمة . . . . هل التوحيد درع تحول دون الفساد والفسوق البشري في أوسع صوره؟"

وما لاحظه مزروعي عن دور الإسلام يتسع بلا شك ليشمل الدين عموما وهو متغير فرضته نهاية الحرب الباردة وسقوط الأيديولوجيا لتصعد الهوية وفي مقدمة مقوماتها الدين. فهل يشهد الحادي والعشرين إغلاق باب عضوية "نادي العشرة ملايين"؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى