الثلاثاء ٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٠
بقلم محمد نادر زعيتر

درس نحو من الغيب

بعد أن شاركت في تشييع جنازة أم صديق لي، وبعد انتهاء مراسم العزاء في المقبرة، انعطفت إلى جهة أخرى كي أزور قبر والدي رحمه الله في نفس المكان.

توجهت إلى حيث الضريح، واتخذت من صخرة كانت نحوه مجلساً، كنت وحيداً، بدأت في تلاوة القرآن (سورة يس) وأنا مستغرق في التفكر في الآيات وفي شغل الله وتصريفه الأقدار وأهولها الموت الذي سيطال كل من وما في الكون " كل شيء هالك إلا وجهه".

غمت الدنيا، ورأيت من بعيد بعيد طيف إنسان أبيض الملبس، أبيض البشرة والشعرواللحية، يتقدم نحوي، متجاوزا شواهد القبور، وهو يحث الخطا، وقد كان واسعها وسريعها، إذ اجتاز المسافة بأسرع مما يتصوّر، اقترب مني وحياني:

السلام عليك يا بني!

وعليكم السلام يا سيدي.

لم أتهيب هذا الرجل الذي بدا لي كمن انشرح له صدري، ولم أنكر هيئته، على الرغم من أني لا أعرفه، ولا قط رأيته!!!

نظر هذا الطيف إلى المصحف الذي أقرأ فيه، ولا حظ أنني توقفت حيث أصبعي مؤشرة عند الآية " والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم".

ما بالك لا تتابع القراءة؟ لماذا توقفت عند "حتى"؟

أيها العزيزالجليل: "حتى" هنا وردت قبل فعل ماض، لا أعرف ماذا تعرب؟

أي بني:

يا حائراً بأمر "حتى" إنتبهْ * من قبلكَ حارتْ بها العـُرّابُ

من قبل قيل: إن أحد النحاة قضى وفي نفسه غصَّة من "حتى".

طيب! أرجوك هلا علّمتني كيف تعرب؟

سبق لك يا بني أن تعلّمتها، وهاقد نسيتها، سأورد لك أهم استعمالاتها في بيتين من الشعر:

حتَّى تكونُ حرفَ جرٍّ يا فَتَــــى
وحرفَ نصبٍ لمضارعِ أَتَى
وحرفَ عطفٍ ثُمّ حرفَ الاِبْتِدا
أَرْبَعَــــــــــــةٌ فَكُنْ لها مُقَيِّــدا

ومعلوم بالنسبة لحالة النصب ليست "حتى" في الحقيقة هي الناصبة، بل "أن" مضمرة بعدها.

وسأورد الأمثلة تباعاً:

1) سلامٌ هي حتى مطلع الفجر.(حتى: حرف غاية وجر والاسم التالي مجرور بها)

2) لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجعَ إلينا موسى.(حتى: حرف غاية وجر، يرجعَ: فعل مضارع منصوب ب "أن" المضمرة، وما بعدها في تاويل المصدر في محل جر ب "حتى").

3) جاء الطلابُ حتى خالدٌ ("حتى" حرف عطف، ولاتعطف إلا المفرد)

4) فما زالت القتلى تمجُّ دماءَها * حتى ماءُ دجلةَ أشكلُ.

(حتى: حرف ابتداء لا عمل له، جملة "ماءُ دجلةَ أشكلُ" ابتدائية لا عمل لها). وكذلك إذا جاء بعدها فعل مضارع غير منصوب بأن المضمرة، كقول الشاعر"

يغشون حتى ما تهرُّ كلابهم
لا يسألون عن السواد المقبلِ

وفي الآية التي توقفت عندها في المصحف"والقمر قدرناه حتى عاد كالعرجون القديم" تكون "حتى" حرف غاية وابتداء.

أحييك وأشكرك، أرجوك كيف أعربها في الأمثلة التالية: حتى وإن، حتى هنا، حتى إذا؟

وران الصمت في المكان.

وما أن نظرت لأحدّق في هذا الرجل الكبير، وإذ ا تبدّدت غمة المكان، ولم أعد أرى أحداً!

وانتبهت، وإذ أنا لا أزال جالساً قبالة ضريح والدي، ولا تزال أصبعي ثابتة على كلمة "حتى" التي سبق ذكرها.

وكأنني سمعت صوتاً هاتفاً من الآفاق يقول:

أنا والدك يا محمد، (يسمونك في الدنيا نادر) استأذنت ربي حين اطلعت عليك تستفتح القرآن بالقرب من مهجع جسمي الذاوي إذ تحن إليه روحي، وعلمت أنك تفكر في إعراب "حتى"، ورغبت أن أستعيد مهمتي كمدرس للأدب العربي في الدنيا، وأن أذكّرك بدرس قديم لقّنته لك ولكنك نسيته، لذلك تمثلت بالطيف الذي طلع أمامك، ولا يسعني أن أطيل أكثر....فغادرت إلى كنف الله حيث أنعم بمرضاته.

أما أنا فلم يتسنَّ لي أن أتابع......إذ تبخر الصوت بعد أن غاب من قبله ذلك الطيف، وانتهى المشهد....وغادرت المقبرة.

يرحمك الله والدي العزيز

هذا ما أذكره من الحلم الذي كان مداره كل ما جاء أعلاه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى