الثلاثاء ١٦ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٠

آهِ .. يا أسوارَ عكــــا !!

بقلم: داليـــــــه بشــــاره

أتساءَلُ: أين موقعُ شعر شفيق حبيب في الأدب المحليّ، وذلك لأن شفيق حبيب يجسّدُ هذا التواصلَ وأيضا المفارقة بين القديم والنوستالجيا التي تغلــِّفه وبين الحداثة ِ وما بعدَها.
«آه ِ .. يا أسوارَ عكا!!» .. لا يمكنُ أن يمرّ القارىءُ عن (آه) المسـقرّة ِ على الغلاف ِ دون أن يُمارسَ الزفرة َ
المريحة َ التي يمنحُها هذان الحرفان الحلقيان.

فهذه التنهيدة وحدَها جعبة ٌ من المعاني، أوّلها التعبيرُ عن الحسرة والألم. وفي نفس الوقت عن حسٍّ معيـَّن من الكبت والتستـُّر .. هذه التنهيدةُ، بين ما تبثــّه وما تـُخفيه ترمز ُ إلى الصعوبة والمشكلة التي تكتنفُ عملية التعبير التي هي موضوع ُ الشعر عامـّة، وأساسُ الصِّراع في «آه ِ.. يا اسوارَ عكا!!».

غيرُ عادل ٍ طبعا ً أن أتناولَ جانبا ً من القصائد وأترك أخرى في التحليل، لكن ما أبغي إنجازه في هذه الزاوية المعروضة لي هو أن أخوض في دقائق قصيدة الديوان الأولى «زرقاءُ اليمامة» دون غيرها لكونها ميكروكوزم يجسّدُ عالمَ الديوان كله، بكلمات أخرى ، هذه القصيدة تحوي تلخيصَ وتقديمَ كل المواضيع التي يتصارع الشاعر وإياها في سائر القصائد .
وعليه يبدأ الشاعر قصيدته بـ «عاصفٌ حُزني»، فكلمة «عاصف» تـُباغِتـُنا بإقحامِنا إلى عالم مأهول بالعُنف، فهي على الفور توحي بالدّمار والسخط الشديد، وتهدم، كأول سمات العنف، توقعاتِنا إن كنا قد توقعنا بناءً على (آه) الموجودة في العنوان رومانسية ً هادئة ً وأحزانا ً طوباويـّة، وما يسبب هذا العصفُ من السخط يشرحـُه لنا الشاعر في:

كلُّ ما حولي خريفٌ
وخـُواءٌ ... ورياءٌ ..
وانكفاءٌ ... ودمامَـــه ..
كلُّ ما حولي غبارٌ
وانكسارٌ .. وانهيار ٌ ...

بهذه القائمة من الأسماء المحشورة معا والمترابطة بنقاط بينيـّة يعبِّر الشاعر عن التشرذم والتفكك ، فكأن هذه الكلمات قََِطـَعٌ تتساقط ترمز لزمن يتهاوى، كما أنها تبث شعورا من الجزع وعدم التصديق ، وكلها كما هو واضح تدور حول مركز واحد هو اللاشيء، فالحريق هو انهيارٌ ودمارٌ يولـّد ُ خـُواءً مطلقا، والغبارُ لا حجمَ أو وزنَ له كالخـُواء، وأما الرياءُ فهو غيابُ الصِّدق، والدمامة ُ غيابُ الجمال، والانكسار ُ هو انهيارُ الوحدة ودليلُ التشرذم.
الشاعر إذن ينظر بعين زرقاء اليمامة إلى ما وراء مظاهر عالمه المادي فيُبصر فراغا ً ، وفي هذه الجملة سخرية ٌ كامنة ٌ لأن الفراغ لا يُبصَر لكن غياب نقيضه هو ما يجعله ملموسا ًَ، لذلك يضيف الشاعر «إنه الحمْلُ الذي أفضى إلى الأوهام ..ِ والأحلام ِ في رأس ِ النعامــَــه ...»
هذه الأبيات تشرح خيبة الأمل: « الحَمْـلُ الذي أفضى ..» وكلمة «أفضى» نابعة من فضاء والفضاء هو الفراغ التام لذا يرى الشاعرُ العالمَ الماديّ الذي يتشبَّث به الناسُ وهما ً وهم يصنعونه بأنفسهم ليَحْتموا من وَهـَن ِ الواقع والخـُواء الذين هُم، كالنعامة، أجبنُ من أن يواجهوه، وهذا تماما ما يردّده الماـ بعد حداثيون الذين يسخرون من الواقعية في الأدب، لأنه على المستوى الواقعي لا يوجد واقعٌ موضوعيٌّ واحد، والواقع بالنسبة لهم هو كلمة ٌ عامة ٌ تصف حالات ٍ فردية ً وأحلاما ً شخصية ..

طبعا َ لهذا نرى شفيق حبيب يصف في قصيدته «زرقاءُ اليمامة» وقصائدَ أخرى عالم أبوكالبسي فوضويا ً منهارا ً متقمِّصا ً فيه شخصَ النبي المبشـّر بآخر الأيام والتي علاماتها: «فارسٌ .. حطـّمَ بعد الفرِّ والكرِّ حسامـَه .. شاعرٌ أنكرَ في سوق الشـِّعارات كلامـَـه» والفارس كما هو مألوف من تقاليد الأدب رمزٌ للقِيَم والأخلاق والبحث الدائم عن العدالة، وبضياع سيفـِه يُعلن الشاعرُ عن تقوّض القيم والعدالة التي يذودُ الفارسُ عنها، والشاعر في نفس الأبيات يرمز إلى صدق التعبير، وقوة الكلمة كما يخبرنا تاريخ الأدب العربي، وباغترابه عن لغته نلج إلى عقم اللغة، وموت قيمة الشعر، لكن شفيق حبيب يأبى بيعَ كلماته شعارات ٍ في سوق النخاسة الفكرية فيصيح: ««أيها القوسُ الذي يعشق ُ قبل الشدِّ والمدِّ سهامَــه ْ / هاكَ سهمي .. / فأنا القوسُ الذي هشـّمَ عِشـْق ُ الأرض ِ والأهل ِ عظامَــه ْ» ألقوسُ هنا يستحضر صورة الحرب، لذلك فالكلمات «شدّ .. مدّ .. هشـّم» حاملة ٌ بالعنف وعليه فإن هذه الصورة الحربية تـُجسِّدُ صراع َ الشاعر مع اللغة والفكر الذي أصابه العقم فهو يريد لشعره أن يكون السهمَ الذي ينطلق ويصيب وذلك من فرط عشقه لأرضه وأهله ، هذا العشق الذي أجبره أن يأخذ على عاتقه رسالة َ التبليغ بالوعي ...
لنعد إلى اللوحة الأبوكاليبسية التي يرسمها الشاعر، من علامات آخر الأيام ، على المستوى الفكري لا الديني ، هو قدوم الدجـّالين يروّجون للرياء ، يقول:
 " كلـّـُهم يحملُ في العُنـْق ِ شِعاَرَه .. وينادي: / أحرسُ الفكرَ الفلسطينيَّ / في جَوْف ِ محارَه .. /" ولعلّ هذه الصورة شديدة ُ الوقع في نفس الشاعر الذي يعاني : " كِدْتُ أنسى فارسا ً يأتي من الآلام ِ / كي يفدي حياضَـه / كِدْتُ أنسى اسمي ورسمي / وجذوري وقبوري ../ " كلمة " كِدْتُ " ترسم في الذهن شخصا ً يترنحُ على طرف الهاوية ويتراجعُ بمعجزة ، توحي بمصيبة تـُمنـَعُ في آخر لحظة ، وهذه المصيبة بالنسبة للشاعر هي السقوط ُ إلى فقدان الذات والاستسلام إلى الخـُواء الذي يُحيط به ، ولعل السقوط َ إلى الهاوية مُغـر ٍ جدا لأن البقاءَ في هذا العالم المُنهار ومحاولة َ تقويمه صراع ٌ عسير ٌ فالشاعر يقول بأسى ً : " فإني شاعرٌ أعطى / ولم يأخذ سوى جمر ِ الطهارة " .. والفكرة عينها تتكرر في قصيدة " إحملْ صليبَك !! " التي يتجسّد فيها الشاعر مسيحا ً يُصلب ليحمل خطايا الآخرين :
" إحمِلْ صليبكَ يا شفيق ُ !! فلستَ أفضلَ ممّن اقتسموا ثيابَـــه / ماذا اجتنيتَ منَ الكتابَــه ؟؟ / ماذا اجتنيتَ منَ العقيدة ِ / والقصيدة ِ / غيرَ جوعِكَ والتمزّق ِ والكـآبـَــهِ .."..
أصبحت العقيدة ُ والكتابة ُ التي تحمل لبّ العقيدة صليبا ً يحمله الشاعرُ في مسيرة حياته ويلاقي حتفـَه عليه لأنها الرسالة التي يريد أن يقودَ الناسَ بواسطتها إلى الوعي وينكرُها الناس ، ينكرونها لأنهم أضعف من أن يجابهوا " التمزُّق " ، هذا التمزق الذي يَنتج عن الصراع مع ما تكتنزه الذات ُ من قِيَم في عالم ٍ بال ٍ ، فهذا التمزق نابع عن الإدراك أن مقومات العالم المادّي وهمٌ وزيف .
فكرة التمزق هذه نجدها متجسّدة في حالة الشيزوفرانيا الرمزية التي تصوّرها الأصوات ُ المختلفة في قصيدة " إحملْ صليبَك " وتـَبين أكثر في قصيدة " تـراكـُمات " حيث يقول الشاعر : " أتراكمُ أجزاءا ً أجزاءْ / أطلالي تعلو أطلالي ... أتلاشى مثلَ شعاع الضوء " ..
هذه الأبيات تعيد إلى الذهن قائمة التشرذم والتساقط التي تفتتح قصيدة الديوان الأولى ، وشعاع الضوء هنا يرمز للحقيقة التي بدأت تختفي معالمُها .
عدم التيقـُّن إذن من ثبات وخلود الحقيقة ، حقيقة ِالإنسان ، الكون هو ما يسبب الضياع والاغتراب الروحي الوجودي الذي نبصره .
في قصيدة " الأدوار " يناجي فيها ذاته : " تنجلي صحراءُ أهلي في ضلوعي " ألصحراء وهي نقيضُ الخصب والحياة تقطن وجدانـَه لأن ضياعـَه فكريٌّ أخلاقيّ ، كما أن الصحراءَ ترمزُ لفقدان الخصب على المستوى اللغوي التعبيري ، الذي رمزتُ إليه سابقا ً فاللغة هي ما يصنع الحضارة كما أكـّد فــوكــو ، لكن في الزمن الميت الذي يصفه الشاعر تصبح اللغة ُ ستارَ دخان ٍ يخفي المعاني كما وصف بيكيت ، لأنه كما يقول شفيق حبيب : " قيَّدَتْ شفتيكَ
أحكامُ الرَّقابة ْ ../ شاءُوا مصادرة َ الحروف ِ / وقتلَ فكركَ في السّجون " .. إذن " كيف لا نـُصبحُ في السيرك قرودا ً / وعلى الباب قعودا ً / باسم " إبداع الأدب " ؟؟
ويرثي تراثَ الشعر وبنيـْتـَه الصلبة في " ماذا يبقى من طعم ِ الشعر ِ ونكهته ِ / إن مات المبنى والمعنى / وأضاع َ الشاعرُ أوزانـَه ؟؟ "

وهذه الأبيات ُ في قصيدة " زرياب والخفاشُ الأســود " هي خير تعريف لحركة ما بعد الحداثة في الفن والأدب حيث سَخِرَت من كل القوالب البنائية واحتفت بالفوضوية واللابنائية والتشرذم كأصدق تعبير عن الإنسان ، بيد أن الشاعر لا يقبل هذه الفوضوية واللابنائية والتشرذم بسذاجة ، هو يواجهها بذعر وجزع ، وكل الديوان حلبة ٌ يصطرع فيها الشاعر مع إدراكه أن عالمَه وقـِيَمَهُ تتناثر مع حنينه للقديم للوحدة الجمالية والقـِيَم الفروسية ، ولعل وعيَه وتيقنه من عبثية هذا الاصطراع هو ما يجعله يجد في الصمت بديلا ً شرعيا ً للوقوع في فخ التدجين الفكري ، فالصمت على الأقل يُخفي الانكسار والتمزق الداخلي ويُعلن الرفض : " صمتي السلاحُ ، الزّادُ .. بوصلتي إلى بعث ِ التألـُّق ِ في المجامرْ / صمتي التمرُّدُ كافرا ً / في وجهِ أرباب ِ القوارض " ، هذا الصمت إذن ليس نيهيلِزم لأنه لو كان كذلك لما وجدنا هذا الديوان بين أيدينا ، وحتى صرخته " قمْ حطـّـِمْ عودكَ يا زرياب !! " هي لحظة التأزم الوجودي التي تسبق الالتزام للقضية وللصراع الفكري القومي ، والأخلاقي ...

لـِنـَعـُدْ في هذه المرحلة من التحليل إلى القصيدة الأولى ولنطرح السؤال التالي : لماذا يختار الشاعر زرقاء اليمامة ؟

هل هو حنينه للتراث ؟ أم رغبتـُه في أن ينسب لنفسه قدرة ًَ خارقة ً على رؤية ما وراء الزمان والمكان ليُعطي مصداقية ً للصُّوَر الشعرية التي يعرضُها أمامنا ؟؟

لا أظن أن هذا هو فقط ما في الأمر لأن اختياره لزرقاء اليمامة يلج من المأساة التي يعي الشاعر إمكانية حدوثها ، فقــَوْم زرقاء اليمامة لم يصدّقوا نبأها أنّ قوما سيغزونهم قريبا ً ، فأنكروا ووقعوا تحت وطأة الغزو ليندموا بعد فوات الأوان ، وهذا ما صنع التراجيديا التي لا يريد الشاعر أن تقع في أهله وأرضه ، لذلك نراهُ يقول بسخط : " إنني الناعي .. / وحولي كـلـُّهم أعمى ويدعو .. / إنما العمياءُ زرقاءُ اليمامة " .

مرة أخرى نرى صورة النبي الأعمى الذي يكون المُبـْصِرَ الوحيدَ للحقيقة ، كما في أسطورة أوديبوس التي تتحول إلى مأساة ، لأن إنذار النبي يُنكـَرُ ويُسخـَر منه .

لكن شفيق حبيب لا يبغي الاستسلام لعلامات المأساة ، فهو ينادي بإيحاء رمزي في قصيدة " سأنفخ ُ في البوق "

: " سأنفخ ُ في البوق ِ/ حولَ قلاع ِ وأسوار ِ مهدِ الضّلالْ / سأنفخُ حتى الــتـَّصَدُّع ِ ... /ِ والبوق طبعا بإيحاءاته الشعرية هو الشعر ، وبإيحاءاته الدينية هو إعلان يوم القيامة ، وهذه صورة سوداوية ، لكنّ الشاعر يدمج مجمل الإيحاءات الأدبية والدينية ليخلق بارقة َ أمل ٍ حقيقية ، فهو يريد لشعره ، كبوق إسرافيل الذي يبعث الأرواح من الأجساد الميتة ، أن يبعثَ القِيَمَ والصِّدقَ من جـِيَفِ الرّياء والزيف.

بهذا الانبعاث الجديد الذي يصوّره يريد الخروجَ من العالم الأبوكالبسي إلى عالم جديد حر .
وإذا أكملنا هذه الدائرة نرى الانبعاث مرموزٌ إليه في صورة الحمامة في القصيدة الأولى : " عاصفٌ حزني كأشواق الحمامَـــه " فالحمامة ُ هي الروح ُ القدسُ التي تـُبشـِّر نوحَ بانتهاء الطوفان وولادة ِ عالم ٍ جديد .

حتى أكثر فإني أجدُ فكرة الانبعاث مطبّــقة ً في تلك القصائد من الديوا ن المنظومة بالأسلوب الشعري التقليدي القديم بينما ترثي أمجادَ العرب والحنين الصارخ إلى ما هو أصيل وقديم ، وفي هذه النقطة أريد أن أختمَ هذا المقال لأن شفيق حبيب بصدق ٍ إنسانيِّ يحققُ التواصلَ بين الماضي والحاضر ويصطرع ُ مع حنينـِه وتمزقـِه في كل قصيدةٍ من الديوان ليبث َّ ألمَـــه وفكرتـَه بكثافة ٍ وعُـمـْق .

بقلم: داليـــــــه بشــــاره

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى