الأربعاء ١٧ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٠
عن الحضارة (2)
بقلم محمد متبولي

العدل طريق الحضارة

العالم تسوده القسوة ربما تقع تلك الكلمات موقع الصدمة على من يقرأها، لكن ما يدفعنا لقول ذلك هو حالة الصراع التى اصبحت محور العلاقة بين البشر وبعضهم البعض، ويتلخص ذلك الصراع فى رغبة الجميع فى حيازة أحد او بعض وسائل القوة كالقوة العسكرية، والسلطة، والنفوذ، والثروة، والتكنولوجيا، والعلم وغيرها، فالاقوياء وحدهم هم من يحظون بالاحترام، والاقوى هو من يستطيع حيازة بعض وسائل القوة واستخدامها فى اخضاع الاخرين له وفرض سيطرته عليهم ومعها فرض معتقداته وقيمه، فيصبح الصواب والخطأ والعدل والظلم وفقا لما يراه الاقوى لا لأنهم كذلك، وتؤدى صراعات القوة تلك الى خسارة الجميع دون استثناء، فالاقوياء المنتصرون يكسبون مع القوة حقد وكراهية الضعفاء، ويصبحوا بذلك عرضه لأنتقامهم او طموح بعض الجماعات منهم التى تسعى لحيازة القوة فى الخفاء، وقد يكون ذلك احد اهم اسباب انتشار الارهاب الدولى، وفى المقابل تضعف تلك الصراعات من قوة الضعفاء أكثر وتجعل الحياة شبه مستحيلة بالنسبة لهم، فيلتفتوا للصراع مع بعضهم البعض والذى ربما يتطور ويأخذ شكل الحرب الاهلية او الصراعات العرقية والدينية وغيرها، او تهون عليهم أنفسهم وتعلق احلامهم بعالم آخر مختلف غير متحقق على الارض، فيلفون حول خصرهم حزاما ناسفا، ويضغطون على زر التفجير مع أول فرصة.

وهنا تظهر أهمية فكرة جديدة، هى ان يعترف الجميع بأنهم خاسرون فى تلك المعارك وان يؤمنوا بشئ آخر غير القوة يمكن من خلاله التحكم فى غشم الاقوياء وحفظ الحقوق للضعفاء، فتظهر أهمية العدل من جديد كقيمة سائدة وحامية للجميع، والعدل يتطلب قدرا من المساواة بين البشر، وبالطبع لا تكون تلك المساواة فيما ميز الله به بعض البشر على بعض ولكن فى الحقوق والواجبات، وهنا ينشأ التزام جديد يقضى باجبار كل فرد بالقيام بواجباته اذا لم يقم بها طواعية، وحماية الاخرين من بطشه اذا ما قرر ان يستغل قوته فى ايذاءهم، وهو ما يعرف بأسم المساواة امام القانون- دوليا كان او محلى-، ويتطلب ذلك وجود الجهة العادلة التى ستطبق القانون فردا كانت او مؤسسة، وكذلك ان يقترن العدل بالرحمة فليس من يسرق وحوله تلال الذهب كمن يسرق لحفظ حياته من الموت جوعا، وفوق كل ذلك يتطلب الامر وجود القوة التى سيأخذ بها الحق من الظالم ويعطي للمظلوم، وهنا يظهر السؤال من جديد، ما الذى سيمنع المسئول عن تطبيق العدل من استغلال تلك القوة لتحقيق مصالحه فتعود الدنيا لسيرتها الاولى؟

وقد يقول البعض ان الضمير وقوة الايمان سيمنعان الانسان من استغلال قوته فى الظلم، لكن ربما يخطئ الانسان ويعتبر خطأه سقطة، ثم تتلوها سقطات حتى يهوى، او يغريه البعض بأن يحقق لنفسه جزءا من المصلحة قانعين اياه بأن ما يحققه من عدل اكثر بكثير مما سيحدثه من ظلم، علاوة على ذلك فالايمان هى منحة يمنحها الخالق للانسان وهو يزيد وينقص وقد يذهبه التكالب على مغريات الحياة، وربما يختلف العدل بمقتضى الايمان من شخص لآخر وفقا لما يعتقد، وقد جعل الله العدل حق للجميع سواء أمنوا به ام لم يؤمنوا، وهنا يجب ان تظهر آلية ما تسمح بمحاسبة المسئول عن العدل اذا أخطأ واعادته الى المسار القويم او الاطاحة به اذا طغا او لم يعد قادرا على اداء واجباته، ويجب ان تحفظ تلك الآلية أمن وسلامة المجتمع، وان تكون تلك الآلية سلمية لا تستخدم العنف فى تنفيذها، وكذلك يجب ان يحمى المجتمع ككل تلك الآلية حتى لا يستبد بها طرف دون الاخر، وهنا يمكن القول بأن أنسب آلية يعرفها البشر حتى الان لتحقيق ذلك هى الديمقراطية، والتى يمكن تسميتها الشورى، الا اننا تفضل هنا استخدام كلمة ديمقراطية على اعتبار انها الشكل الاحدث والاكثر تطورا للشورى، ويمكن القول ان الديمقراطية يمكن ان تطبق داخل المجتمعات كما يمكن ان تطبق داخل النظام الدولى بين الدول وبعضها.

الا ان هناك امر يجدر الاشارة اليه وهو ان الديمقراطية هى جزء من مفهوم أشمل وأوسع وهو الحرية، فالديمقراطية تتطلب ان أبدى رأى بشكل حر في ما يدور حولى وعلى أساس هذا الرأى يتحدد موقفى من القضايا المثارة، وهنا تظهر أوجه الحرية المتعددة، فرأى الانسان هو نتيجة مباشرة لما يعتقد، فلو فرض على الانسان ما يعتقد اصبحت حريته قاصره، كذلك يجب ان يتأكد الانسان من ان مواقفه لن تؤثر على ما يملك او تقلل فرصة فى حيازة الثروة اذا ما اراد ذلك، وللأنسان ان يعبر عن رأيه بكافة الوسائل التى يراها مناسبه والابداع فكريا او فنيا او غير ذلك هو أحد الوسائل الفاعلة التى يعبر بها الانسان عن رؤيته لما حوله والعالم المحيط به، كما ان العلم هو أحد اهم الوسائل التى تمكن الانسان من تحديد مشاكله وايجاد حلول أكثر دقة وجذرية لها، وعلى هذا فان للحرية أوجه متعددة أبرزها الديمقراطية، و حرية الاعتقاد، وحرية التملك و ممارسة النشاط الاقتصادى، وحرية الابداع والبحث العلمى، الا ان الحرية على هذا الشكل يلزمها ضابط حتى لا تتحول الى فوضى، وهذا الضابط يجب ان ينبع من الانسان نفسه لا عن طريق فرض الوصاية عليه.

والحرية هى فكرة الاختيار من متعدد وانتقاء ما يراه الانسان أفضل من وجهة نظره، ولكى يختار الانسان من بين معتقدات متعددة او يقيم او ينتج ابداع ما يجب ان يكون لديه قدرا من الوعى عن طريق المامه بالقضايا المطروحه حوله وحصوله على قدرا معقولا من المعرفة يسمح له بالتفكر والاختيار مهتديا بها، ويمكن القول بأن التعليم هو أحد وأهم الوسائل التى تحقق للانسان القدر المطلوب من الوعى، والتعليم الجيد لا يؤدى فقط لزيادة مستوى الوعى العام بل يرفع ايضا من قدرات الافراد ويحسن من فرصهم فى سوق العمل وتقبلهم لفكرة اعمال العقل التى تقلل من فرص الصدام مع الآخر لمجرد الاختلاف، وهو ما يساعد على تقليل الصراع داخل المجتمع وزيادة مظلة العدل، كذلك فالتعليم الجيد هو السبيل الاساسى لبحث علمي راق قادر على تحليل التحديات التى تواجه المجتمعات والتعامل معها بكفاءة عالية.

وربما تؤدى حرية الملكية وممارسة النشاط الاقتصادى الى تكتل الثروة فى يد البعض، فيشكلون بذلك مراكز قوة وضغط يحققون بها مصالحهم على حساب الاخرين فيضيع العدل مرة أخرى، وهنا تظهر اهمية اقتران تلك الحرية بفكرة العدالة الاجتماعية والتى يمكن ان تتحقق عن طريق تكافؤ الفرص، فتكون الكفاءة هى التى تؤهل الفرد للمكانة المناسبة له لا نسبه او ماله، كذلك تشمل تلك العدالة الاجتماعية عدالة توزيع الخدمات، فمن الطبيعى ان تكون فرص الاستثمار و بالتالى العمل أفضل فى الاماكن الاكثر خدمية من تلك الأقل خدمية و هو ما يحرم ابناء تلك المناطق من ان يحظوا بفرص مناسبة لهم، كذلك عدالة توزيع الثروة، فلا يجب ان تكرس ثروات الوطن لخدمة فئة معينة من ابناءه دون الفئات الاخرى، علاوة على ذلك كله يجب ان يكون حق الثراء المشروع مكفولا للجميع وليس حكرا على أحد، كما يجب ان تكون هناك منظومة تكافل اجتماعى تضمن للعاجزين عن العمل والذين لا تسمح لهم قدراتهم على كفاية احتياجاتهم حدا معقولا من الحياة الكريمة، ويجدر هنا القول بأن الممارسة الاقتصادية من المفترض فيها ان تعطى اولوية للأنشطة الاقتصادية الانتاجية على حساب الاستهلاكية منها، فالعملية الانتاجية تحتاج الى تطوير مستمر ومواكبة التقدم وهو ما سيشجع البحث العلمى، كذلك فهى أنشطة كثيفة العمالة نسبيا مما سيساعد على زيادة فرص العمل وبالتالى تحسين اوضاع الافراد وزيادة التنافسية بينهم، مما سيدفعهم لتطوير قدراتهم واكتساب المزيد من العلم، وسيؤدى ذلك كله لزيادة ثروة المجتمع وبالتالى قدرته على تحمل نفقات التعليم والبحث العلمى والعدالة الاجتماعيه والديمقراطية.

ورغم الوعى والعدالة الاجتماعية ومن قبلهم العدل فقد تؤدى الحرية الى بعض الانحرافات التى لا يعاقب عليها القانون او ترتكب بعيدا عن عين العدالة والناس، كجحود الاباء ونكران الجميل، وادمان المسكرات والمخدرات، والانحرافات الجنسية و غيرها، فلابد ان يظهر هنا مستوى آخر من الوعى وهو الوعى الاخلاقى والدينى، وهذا الوعى يكتسبه الانسان من نشأته فيعرف منذ الصغر ما هو أخلاقى وما هو غير ذلك وكيف يميز بين ما ينفع وما يضر، وعلينا ونحن نمارس ذلك النوع من التوعية الا نفرض معتقداتنا على الاخرين حتى لو كانوا ابناءنا، فعلينا ان نرشدهم لما نعتقد انه أخلاقى وصائب وما هو غير ذلك، ولماذا نعتقد ذلك، ثم نتركهم يعملون عقولهم وقلوبهم ويختاروا ما يرونه مناسبا لهم، وربما أدى ذلك الوعى الى تشدد البعض وميلهم الى التعصب والتطرف، او ان يتبع البعض الاخر اهواءهم ويلقون بتلك الاخلاقيات عرض الحائط، فهنا علينا نصحهم وارشادهم ولا يكون ذلك بالهجوم عليهم وتسفيه افكارهم لكن عن طريق الديمقراطية والتى ليست قاصرة على مساءل الحكم فقط بل تمتد لتشمل كافة قضايا المجتمع، وذلك عن طريق الحوار الهادئ المتسامح والنقد البناء وهما ما سيسمحان لنا بتصويب معتقدات الاخرين، او تصويبهم لما يعلق بأفكارنا من معتقدات غير دقيقة، وهنا نكون قد وصلنا الى فكرة الحرية الراشدة، وقد يفهم البعض ان علينا ان نؤجل الحرية حتى نحقق العدل والوعى والعدالة الاجتماعية، وبالطبع هذا ما لم نقصده فقد يأخذ ذلك عشرات الاعوام، فالافضل ان تسير كل الخطوات متوازيه وحتى لو أدى هذا لبعض الكبوات فى البداية الا انه سيحقق المجتمع المرجو فى وقت أسرع.

وعندما تتحقق الحرية الراشدة والعدل سيشعر الانسان بأن القيود التى وضعت على عقله قد زالت وانه اصبح حرا فى ان يفكر كما شاء واختيار ما يشاء، وتتحول وسائل القوة كالثروة والنفوذ والمعرفة وغيرها الى وسائل حياة، وسيكون لكل انسان نصيب من تلك الوسائل وله فرص متساوية فى الحصول عليها، وسيوقن انه لن يستطيع ان يزيد نصيبه منها عن طريق الجور على حقوق الاخرين، وان سبيله الوحيد لذلك هو مشاركته الاجتهاد مع الاخرين دون تحجيم طموحاتهم، فيشحذ الانسان فكره وطاقاته ليبدع فى شتى المجالات الفكرية والعلمية والثقافية و غيرها، وعندما يصل الانسان الى حد معين من الابداع يكون قد حقق قيمة كبرى وهى الحضارة، التى ستكون قائمة على العدل وعمادها الابداع وتحميها الحرية، وكلما تقدمت الحضارة يشعر الانسان بقيمته وتهدأ نفسه ويتأكد لديه تحقيق الحرية، لكنها مازالت حرية خارجية تطغى عليها انانيته، فيغوص فى أعماق نفسه لينقيها مما علق بها من شوائب فيتخلص من حب النفس الاعمى، والحقد والكراهية لينتهى الظلم تماما من العالم ويتحقق الفردوس الارضى، لكن تحقق ذلك الفردوس سيوقف طموح الانسان ويشعره كعادته دائما بالكآبة والملل بعد ان حقق كل ما يحلم به، لتبرز هنا أهمية قيمة أخرى وربما أعظم مما فات كله وهى الايمان، والتى ستمنح الانسان اهداف وطموحات جديدة، فيصبح لديه سببا قويا للحفاظ على ما وصل اليه من تحضر ورغبة أكيدة فى التقرب من خالقه حتى يرضى عنه ويدخله الفردوس السماوى، فتمتد به الحياة الكريمة حتى بعد موته، وربما يقول البعض ان الغرب حقق الحضاره لكنه لم يحقق الفردوس الارضى الذى تحدثنا عنه، وعلينا الاعتراف بأن الغرب حقق قدرا كبيرا من الحرية والعدالة والتقدم لأفراد مجتمعه الا انه مازال يعتقد ان هذه القيم حكرا على ابناءه وحدهم دون باقى البشر، كما ان الحضارة الغربية تعانى الكثير من الانحرافات الفكرية والاخلاقية التى لم تتمكن من السيطرة عليها بعد.

ويدفعنا ما سبق الى تساؤل هام، ماهو موقفنا من الحضارة؟، هل سنكتفى بأن نتابع ما يحققه الغير ونأخذ منه ما يعطى لنا، ام يجب ان يكون لنا اسهام حضارى واضح، وماذا سيكون موقفنا اذا ما نجحت الحضارة الغربية فى التحول الى حضارة عالمية وابدت قدرا من التسامح مع معتقدات الاخرين، هل سنوافق ان نكون جزءا من الحضارة العالمية الجديدة، ام نفضل حينها ان نكون حضارة مستقله، وقبل الاجابة على ذلك يجدر بنا ان نعرف اولا اسباب ضياع الحضارة منا، والنقائص الموجودة فى الحضارة الحالية، ثم نحدد الخيارات الحضارية المتاحة لنا، وهو ما سنحاول ايضاحه فيما بعد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى