الجمعة ١٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٠

قراءة ٌ فنية في «صارخ ٌ في البـرِيـَّة»

الدكتور يحيى زكرّّيــا الآغــا

يقول نزار قباني: "إذا أخذنـا دبوسـا ً ووخزنـاه في يد المواطن العربي فإنه يتدفقُ شعرا ً، بل وهجا ً، "

هذه الرؤية للشاعر الكبير، هل تنطبق تماما ً على الشاعر العربيّ الفلسطينيّ شفيق حبيب، عندما تتدفق منه مشاعرُ فياضة ٌبلون الدم، فيشتعل في داخله، ثم يضيءُ وهجا ً أخضر، يعكس ذاتَ الشاعر عندما يرسله على بياض الورقة أو سوادِها أو عندما يقع ُ على أذن المتلقي؟؟.

الشاعر يمتلك رؤية ً واعية ً لواقع الحياة الفلسطينية، وما تحمله من أبجديات بلون قوس قزح، وإن طغى لونٌ أسودُ عليه نتيجة َ الواقع المُـعاش الذي فرضه الاحتلالُ الإسرائيليّ على الأرض الفلسطينية، أو الواقع العربيّ، فعبَّر عن مشاعره بصدق استثنائي، وبلغة ٍ حيـّة وواعية، وموحية، فحملت قصائدُه زخمًا فكريًا رفيعًا ونقيًا من خلال ثلاث لوحات تـُعتبر نماذجَ من الشعر الجيّد، برزت في ديوانه " صارخ ٌ في البرِّيـَّة".

إن الشعرَ الجيِّد هو الذي نقرأهُ فتتجاوب معه المشاعر، ونسمعُه فتتأثر به الأفئدة، فينعكس إيجابا ً على نفسية المتلقين، أما الشعر الذي ينعكس سلبا ً بعدم الفهم، فليس بشعر مهما بلغ المضمونُ من أفكار، ومهما ارتفعت القيمة الفنية له، وهنا تبرزُ القيمة الحقيقية للشعر من خلال النـَّص، والشاعر من خلال إبداعه، وهذا ما قرأناه في ديوان:" صارخٌ في البرِّيـَّة ".

هذا، ولا يقفُ الأمرُ عند هذا الحدّ، بل الشعر الجيّد هو الذي يواكب المرحلة، ويستشعر بما يكون عليه المستقبل، كما في قصيدة "شاعرٌ وســراب " التي قالها قبل الانتفاضة الثانية (هبـَّة الأقصى).

ثلاثة َعشرَ ديوانا شعريًّا، هي خلاصة تجاربَ متجددة ٍ كان آخرها هذا الإبداع "صارخ ٌ في البرّية " المكتنز بتجاربَ خاصّة وعامّة، فاضت بها قريحة ُ الشاعر على مدى عامين بعد ديوانه المتميِّز "لمـــــاذا ؟؟ " الذي يُعتبر نقلة موضوعية في الأسلوب والأفكار، وإن كان الطريق الذي ارتسمه الشاعر لنفسه منذ أول ديوان له، برز واضحًا في المجموعة الشعرية الأخيرة، وما زال يسيرُ عليــه.

الديوانُ ليس جديدًا في بنيته عن الدّواوين التي صدرت للشاعر، ولكن الجديد هو الموضوعات المتجددة نوعيًّا في العديد من القصائد، ولكن ما استوقفني هو لغة "الترسـُّل " الشعري الذي يمثـِّلُ نقلة نوعية في المضمون، فجاءت قصيدتاه للشاعرة المبدعة (فدوى طوقـان ) شاعرة فلسطين دون منازع، والتي أصدرت ترجمة ذاتية قبل أكثر من ثلاثين عامًا، والشاعرة (أنيسة درويش )، رؤية ً واقعية ً، ليهمس من خلالهما بمكانة هاتين الشاعرتين، ودورهما المتميز في الحياة الأدبية والشعرية بصفةٍ خاصّة، فابتعدت قصيدتاه عن المباشرة، وأتقن – كعادته – لغة الإيحاء، فاكتنز النصـّان بدلالات ٍ ذات قيمة فنية وموضوعية وفكرية تتناسب مع المكانة الكبيرة التي تحظاهما في نفوس كل الشعراء العرب والفلسطينيين على السـّواء.

صحب التجديدُ الأسلوبَ والفكرة والبناء، فلم يعتمد على بناءٍ واحد، وإنما نوّع كعادته في المجموعة، وركب بحورا ً مختلفة من بحور الشعر، وهذا طبيعيّ، أن نجدَ هذا التجديدَ المتنوع في البناء الفني والشكلي عند الشاعر شفيق حبيب، وهذا بطبيعة الحال فرضته طبيعة التجربة التي يعايشـُها بكل زخمها، إضافة إلى محافظته على البناء الأصيل للشعر العربي الذي يعتمد على صــدر ٍ للبيت، وعجْـــز.

ولعلني لا أبالغ إذا قلت بأنه أول ما لفتني وأعجبني في هذه الباقة الشعرية، أن الشاعر ضمَّنَ مجموعته، لوحة متميزة بعنوان "أغاني الرّفراف " تضمّنت ســتَّ قصائــد.

وإذا كانت بعض المذاهب النقدية المعاصرة تحاول الفصل بين شخصية الأديب ونتاجه الأدبي، ولا ترى بينهما توافقا ً أو تزامنا ً، فإن المجموعة التي بين أيدينا تدحضُ هذا الرأي، وتؤكد التلازم بين الفن وصاحبــه، حتى أننا نستطيع أن نستدل بالكثير من القصائد على أن قائلها شفيق حبيب، لما تتضمن من معان ٍ وأفكار، ومضامين، لا يتطرّق إليها أحدٌ سوى الشاعر ذاتــه.

هـــذا وبعـــد دراســـة متأنيَــة للديـــوان، يمكنني القول:

الملاحظـــــــة الأولى:

تتعلق بالعنوان "صارخ في البرِّيـَّة " إذ يُظهرُ ثورة ً داخلَ اللاشعور الذاتي، فهو يقوم بإيحائه على المشاعر والأحاسيس المختزنـة في ذات الشــاعر، المستمَدّة من الواقع المُعاش، وكيف لا، وهو يرى الواقع كل يوم أكثرَ سلبيّة ً من الأمــس، لهذا نجد أن العنوان مرتبط بالزمان والمكان ارتباطا ًمباشرا ً بل ويحاكيه من خلال إيحاء العنوان، بكل ما يتضمّنـُهُ معنى الإيحــــاء.

" الصّراخ " كامـنٌ... يحملُ في النفس دلالات ٍ وربما يتحوّلُ إلى انفجارات أحيانا ً، يُعبّرُ عنها اللاشعور، ويُبـْرزه الشعور، فكان التلاحم بين عالمَين، أحدهما ذاتي له إرهاصاتٌ خفيّة ٌ مستمَدّ ٌ من الواقع، والآخرُ ظاهرٌ، كـَشـَـفهُ العنوان، ثم أبرز أن هذا الصّراخ َ لا صدىً له، ولو كان له صدىً لتحوّلَ إلى (صارخٌ في المدينة)، لهذا فهو غير متفائل من الواقع العربيّ، أو ما يدور على السـّاحة الفلسطينيـّة.

الملاحظــــة الثانيـــة:

اتساع رقعة الموضوعات والقضايا التي تشغل الشاعر، وعلى رأسها قضيته الأساسية وهي الوطن، وهو الجرح الذي لم يندمل حتى الآن، فجاءت القصائد مكثفة، ومعمقة، وترتفع فيها القيمة الأسلوبية، وإن نحا في بعض القصائد إلى الأسلوب الانفعالي الذي يكشف طبيعة الشاعر الثائرة، وهذا ليس جديدا في دواوينه، بل نجده ماثلا ً في ديوانه الأول:

(قناديل وغربان ) الذي صدر عام 1972.

الملاحظـــة الثالثـــة:

ارتباط ُ الشاعر بالواقع ارتباطا ً مباشرا ً، وتفاعُلـُه معه بأشكاله وصوره، كيف لا وهو صاحبُ قضية ما زال يعيش آلامَها المستمدّة من نبض الشارع الفلسطينيّ يوميــّا ً، ومن واقع الأرض التي تتحوّل إلى صحراء جرداء، فترجَمَ هذا مع ما يمتلك من إمكانات لغويـّـة، شعرا ً حاكى تماما ً هذا الواقع المؤلم، فمنح النصّ تجديدا ً فكريا ً وبنيويـّا ً وفنيـّـا ً، وأكسبه بعدا ً إنسانيا ً، حتى أننا نرى اليوميَّ جزءًا من حركة الزمن داخلَ النصّ.

الملاحظـــة الرابعــــة:

أسهمت ثقافة الشاعر المتنوعة في تعامله مع التراث بأنواعه المختلفة، العقيدي والتاريخي، والأدبي، والأسطوري، مما أكسب النص لغة جديدة داخل النصّ الشعريّ، فاكتنز من خلال هذا التراث بالدلالات الموحية والمعمقة، وهذا يدعونا دائما ً على الارتباط بهذا الإرث المعمق، لأنه يؤصِّل للتاريخ تأصيلا جيدا.

الملاحظـــة الخامســـة:

يربط الشاعر بين المستوى الانفعالي الكامن في اللاشعور الذاتي، والمشاعر المثيرة لأي شيء في الحياة سلبا ً وإيجابا ً فيرسله إلى اللاشعور الكلي المتصل بالمتلقي، وهذا يجعل الشاعر في تواصل واتصال دائم بواقع الحياة، وذلك مما يتميز به شعراء فلسطين، وخاصّة شعراءَ المثلث والجليل.

الملاحظـــة السادســـة:

هناك علاقة واضحة بين البنيــة الإيقاعيـة المركـِّبة للزمان والمكان، والبنيـة الدلالية للنص، وهذا يدلّ على وعيه الكامل بالعمل الشعري، وارتباطه الوثيق بالتجربة ارتباطا ً حميميا ً، مما يجعل لغة الشاعر أكثر تأثيرا ً وإيحاءً.

الملاحظـــة السـابعـــة:

امتلاك الشاعر لناصية اللغة العربية، بدا واضحا ً من اهتمامِه بالكلمة وتوظيفـِه لها توظيفا ً متميزا ً، مع حرصِه الشديد على التعامل مع الأبجدية العربية بحرص تام، لذا ندرت الأخطاءُ اللغوية ُ، والنحويّة ُ في الديوان إلى درجة كبيرة، فاكتنزت بالكثير من الإيحاءات والدلالات بما أسهم في رقيّ القيمة الدلالية للكلمة.

الملاحظـــة الثـامنـــة:

لغة الترسّل الشعري ليست جديدة في ديوانه، ولكن الجديد هو التكثيف الشديد في هذا البناء بعيدا عن المغالاة، وكم كنت ُ أتمنى أن أقرأ ردّا للشاعرة فدوى طوقان على هذه القصيدة كما هي عادة الشعراء الكبار، وهنا أذكر قصيدة للشاعرة أرسلتها إلى الشاعر الفلسطيني كمال ناصر، وجاء الرد من الشاعر على نفس البحر،وضمَّتها إلى مجموعتها الثانية " وجدتـُها " إضافة إلى العديد من الرسائل الشعرية التي أرسلتها الشاعرة إلى محمود درويش وسميح القاسم عندما التقيا لأول مرة بعد حرب 1967، وجاءت الرّدود في مجموعاتهم الشعرية اللاحقة.

فلغة الترسّل الشعري، شحَـنـَتـْه بإمكانات فكريـّة وفنية جيدة، لذا جاءت متكاملة ً فكريـّــا ً وتركيبيـّـا ً في القصيدتين،(لفدوى طوقان وأنيسة درويش )وشحنت ألفاظـَــــه بدلالات ٍ وإيحاءات ٍ متنوّعــــة.

الملاحظـــة التاسعـــة:

يعتمدُ الشاعر في بعض صوره الفنية على الرّمز أو الاستعارة المُرَمّزة التي تهيّىء للمضمون عمقا ً وامتدادا ً، وهذا يـُكسِبُ النصَّ قيمة ً دلالية ً وأسلوبية ً عاليــة.

الملاحظـــة العاشـــرة:

إن أخصَّ ما استرعى انتباهي في هذا الديوان، أن ما فيه من شعر يشعّ بالوفاء للوطن، وللقصيدة الشعريـّة، وإلى الانتفاضة الفلسطينية الثانية، حيث ينطقُ النصّ بالوفاء لكل الشهداء الفلسطينيين، والوفاء للعراق بكل ما يزخر من أصالة وعدالــــة.

الملاحظـــة الأخيــرة:

تتمثل في قصيدة (لوحات) " انكسارات حادّة " حيث طغى الأسلوب الخطابي على كل لفظة منها، وكان الشاعر فيها يعيش مرحلة من مراحل الألق الفكريّ النابع من واقع يـراه هو مؤلما ً ويراه بعض الشعراء ( الذين يعنيهم ) واقعا ً يجب التعامل معــه.

البنية الفنيـّة في الديـوان:

الديوان يجمع ثلاث لوحات:

الأولى: ( انكســــاراتٌ حـــادّة ) والثانية: ( وردتـــان فلسطينيّتــان ) والثالثة: (أغاني الرّفــــراف).

على المستوى النصّي، اعتمد الشاعر في كثير من قصائده على البنى الحوارية بصيغة المخاطب، ولكنه في معظمه جاء حوارا ً ذاتيا ً، وأعتقد أن سبب ذلك يرجع إلى رغبته في ممارسة الحرية الخاصة التي يجب أن يمارسها في النص الشعري، حتى يمنحَ لنفسه القدرة على التعبير عما يريد، كما نرى ذلك في مجموعاته السابقة، فيصوغها بالصورة التي يريد.

كذلك اعتمد الشاعر على الرّمز الشفاف الذي يكشفُ طبيعة َ الشاعر الواضحة، وبرز ذلك في رمزية العنوان، ورمزية النص، ورمزية الصّوَر، والتراكيب، مستعينا ً أحيانا ًبمعجم لغويّ يحاكي فيه هذا الترميز، حيث وظـّفـَه بما يتناسبُ مع الموقف الشعوري، وقد برز هذا في معظم القصائــد الوطنيـّـــة.

هذه قراءة متــواضعة في ديوان جديـد لشــاعر كبيــر من شعــراء فلسطيـــــن.

الدكتور يحيى زكرّّيــا الآغــا

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى