الاثنين ٢٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٠
بقلم خير الدين بن الطاهر جمعة

سارقُ الجوكاندة

أعترف أنني سرقتُ ........كان ذلك منذ أكثر من عشرين سنة ....ولكني لم أكن مسؤولا عما حدث فالقدر هو الذي ساقني إلى ذلك ....فأنا السارق رغم أنفه......و الساحر رغم أنف الجميع ..!

لقد سرقتُ الجوكاندة.. نعم سرقتُ الجوكاندة في لحظة جنون..و مغامرة ..ولن يصدّق أحدٌ أني خرجتُ بها يملأني شعور الظفر والزهوّ و دون أيّ رهبة تسللتُ بها إلى الشارع الذي كان مكتظًّا برجال الأمن و مزدحما بسيارات الشرطة والكلاب البولسية و خانقا أيضا من أثر القنابل المسيلة للدموع..

وها أنا أروي الحكاية لأول مرة في حياتي غير نادم أو متردد أو خائف ..

الحقيقة أن العدوى لفحتني من صديقي الذي كان مهووسا بالجوكاندة إلى درجة الجنون وكنتُ أدرك أنه لن يتجرّأ على دعوتي للذهاب لرؤيتها إلا في حالة واحدة: أن يكون ذلك نهاية العالم!

كنت ُ أعلم أن معجزة ستحصل في ذلك اليوم الشتوي البارد و لكن لم أتصور أن سرقة مثل التي ارتكبتُها ستُلوّن كياني بعبير الماء و تُسطّر أيامي بذكريات من عشق الفن و جنون الاشتهاء خاصة عندما اكتشفتُ في لحظة أسرار الجوكاندة الغامضة الساحرة.
فطور الصباح :

بدأتْ ملامح المعجزة تظهر منذ اليوم الذي دعاني صديقي المعتّق "رؤوف" إلى الذهاب للقاء " الجوكاندة" والغريب أن صديقي وهو شريكي في السكن الجامعي لم يكن مُحباًّ للفنّ، كان يعشق المال و يحبّ الطعام الفاخر و يكره الفتيات و الإنفاق بشكل عام ورغم أننا كنا على طرفيْ نقيض في أغلب الأحيان إلا أننا كنا نكوّن ثنائيا فريدا، فأرجعتُ دعوته تلك إلى حرَجه مني لأني قد كنتُ معه بالأمس حين استلم مبلغ المال الذي أرسله والده من مكتب البريد في مدينة صفاقس، أمضيتُ الليل أفكر في ما سيحصل يوم غد من معجزات نتيجة لهذه الدعوة ...

و صادف في الغد أن كانت أول محاضرة لدينا عند أستاذ مادة الحضارة العربية الذي كان يمقت أي تأخر عن الدروس بعد الساعة الثامنة صباحا فنهضنا باكرا و أخذ رؤوف يعد السحلب ( الدرع) على الموقد الكهربائي و ظل يحرك الملعقة داخل الإناء مرات عديدة دون أن يتخثّر السائل، لم يبق إلا بضع دقائق و لكن ما من فائدة، وقفتُ بجانبه مستغربا و أنا أعدّ نفسي للخروج، في تلك اللحظة رفع رؤوف الإناء و إذا بالتيار الكهربائي مقطوع، وضع رؤوف منديلا على الإناء و هو يسب ويلعن ذلك الصباح السيّء وخرجنا نركض بسرعة إلى الكلية، وصلنا متأخرين يقتلنا الجوع و كما كنا نتوقع خصم لنا الأستاذ درجات ( أعداد)، أما أنا فلم أحزن لأني اعتبرتُ ذلك من تبعات دعوة رؤوف التاريخية.

الغداء:

الساعة الحادية عشرة ونصف كنا أمام كافتريا الكلية نترشف قهوتنا وندخن بتوتر ننتظر تلك اللحظة الأسطورية: أن يحين الوقت لنذهب و نرى الجوكاندة، كان رؤوف صامتا و لكني كنت أعرف بماذا كان يفكر، في تلك اللحظة مرَّت أمامنا فتاة بخطوات واثقة سريعة إلى درجة أننا لم نر وجهها، بدتْ من الخلف مبهرة قاتلة، لقد انسدل شعرها الكستنائي حتى أسفل ظهرها، مرْجًا من خيوط الشمس الزاهية و صوتا أقرب إلى بدء زخّات المطر، كان أكثر من خصلات شعرٍ يموج راقصا في دلال الغمائم، نواسيّ الهوى منسدلا في كبرياء، مزهوًّا بلون الندى و صمت الجمال، كانت تضع بنطالا (سروالا) من الجينز الضيق و حذاءً شتويا (بُتيون) يصل حد الركبتين و سترة جلدية زرقاء غامقة و بيدها حقيبة جلدية سوداء ..كانت موسيقى من جمال و بحرا من الفتنة و هوَسا من الفن والجنون ..كانت ترافقها فتاة أخرى ..وجدتُ نفسي منساقا وراءهما في الطريق إلى المطعم الجامعي يدفعني عنفوان الشباب وجنون المغامرة المزمنة..أمسكني رؤوف وهو يقول:

أين تذهب؟؟ ..و الجوكاندة ؟؟!

قلتُ له و نظري معلّق بها أتابع رقص خطواتها:

الجوكاندة ؟! الجوكاندة هاهي تمشي أمامنا ..

فتبعني وقد امتزج وجهه حزنا بسعادة.

في المطعم الجامعي لم نعثر لهما على أثر، كان لديّ شعور أني أعرف رفيقتها ولكن مرورهما السريع و كذلك كثرة الطلاب المتوجهين إلى المطعم حال دون تتبعهما، بحثنا عنهما دون جدوى ، أخذنا طبقيْ الطعام و جلسنا و كل واحد منا يفكر في " جوكندتِهِ"، و نحن منهمكان في نهش قطع الدجاج بوحشية الطلاب الجوعى ونفكر بنقمة في أستاذ الحضارة الفذ، حضر جنون الصدفة مرة أخرى ودون أن أتوقّع مرَّت أمامنا من جديد، كنا جالسيْن في رواق تصطفّ فيه الطاولات على الجانبين فيتقابل فيه كل اثنين وجها لوجه و حين أحسَسْنا بهما تمرَّان لم نرهما جيدا و لكني هذه المرة لم أترك الفرصة تفوتني لقد عرفت رفيقتها التي كانت تتبعها ، إنها "عائشة" ابنة حيّنا في قريتي الساحرة الغافية بين خضرة الجنان وزرقة البحر، ناديتُها فتوقفتْ مندهشة، سلّمتُ عليها وسألتُها عن رفيقتها المنفلتة بكبرياء، لقد قرأتْ في عيوني إعجابا ملحّا وولهًا مجنونا فقالت بابتسامة خبيثة:

 إنها صديقتي من قسم اللغة الفرنسية ...سأعرِّفك عليها ...لكن ليس الآن..
سألتُها بإصرار:

متى إذن؟؟!

فردّتْ بدهاء أعرفه:

حين تحين الفرصة.

كانت تستدير لتلحق صديقتها حين قلتُ لها:

سأنتظركما هنا حتى تُتمَّا تناول طعام الغداء ..

لم يقل رؤوف شيئا ولم ألحظ تبرما في نظراته غير أنه لم يمانع في الانتظار و لكن حدث ما لم يكن في الحسبان فقد قامت مجموعة من طلاب كلية الطب بالدعوة إلى اجتماع عاجل ليعلنوا فيه عن تسجيل حالات تسمّم في صفوف الطلاب لأن الدجاج الذي قُدّم اليوم كان متعفنا وانتهت صلاحيته فعمَّتْ الفوضى و تحوّل الاجتماع في لحظة إلى حلبة للصراع السياسي بين التيارات المختلفة و أخذتْ بعض الطالبات في التقيؤ و كثر الهرج والمرج، قيل إن فِرق مقاومة الشغب (البوب) ستداهم المطعم الذي تحوّل إلى مسرح للصراع والفوضى طلب مني رؤوف أن نسرع بالخروج ولكني كان لديّ رغبة في البحث عنهما، فتّشنا في كل الأرجاء ولكن لا أثر لهما، خرجنا من المطعم وقد تحوّل إلى مزبلة و حلبة ملاكمة فقد سُكب الطعام على الطاولات و أصبحت الكراسي و الأطباق طائرة في سمائه الغائمة.

و هكذا خسرنا الجوكندتيْن معًا وربحنا غداء مسموما.

في الطريق إلى المبيت قال لي رؤوف:

لن نمرض لقد تعودنا على هذا الطعام لا تخش شيئا فالليلة ستنسيك الجوكاندة كل شيء ...

بعد أن رمينا ما رمينا في بطوننا كان لابد من قدح من الشاي الأخضر وسيجارة حتى نبقى على قيد الحياة ..استلقينا على العشب الأخضر في حديقة المبيت ندخن صامتين نتأمل زرقة السماء وأكاذيب البشر. و فجأة شابَ صفاء السماء سحبٌ من الدخان،استندنا على مرفقينا وقد استغرقتنا المفاجأة، رأينا خيوطا من الدخان تنبعث من إحدى بنايات المبيت، لمحنا بعض الطلاب يتجمهرون في الساحة و البعض الآخر يتجه إلى البلوك 3، قال رؤوف باستغراب:

أيّ حمار هذا الذي أحرق غرفته؟

فأجبته بصوت متردد:

رؤوف إن الحريق في العمارة الثالثة البلوك 3؟!!

فردَّ بجزع:

و إنه في الطابق الثالث...؟؟!

تراشقنا بنظرات جزعة وقد اجتاحنا الرعب و لا أدري كيف نهضنا بسرعة خاطفة نركض صوب العمارة، صعدنا الدّرج لاهثين، وجدنا الطلاب يملأون الرواق، كان بعضهم يحاول فتح غرفتنا عنوة ،أبعدتُ الطلاب و يداي ترتعشان بعنف وقد غطى الدخان الرواق، أخذ بعض الطلاب ينصحني بضرورة الاتصال بالحماية المدنية، تركتُه يهذي وفتحت الباب، أدرتُ المفتاح ثم دفعتُ الباب بساقي فانفتح، لفح وجهي دخان حارق منعني من الدخول، لكنني أسرعتُ إلى النافذة أفتحها رغم أن السواد كان يلفّ الغرفة، استطعتُ في تلك اللحظة أن ألمح الفِراشيْن و قد تفحّما تقريبا أما الطاولتان فمازالت ألسنة النار تلتهمهما على مهل، حمدتُ الله أن خزانتيْ الملابس لم تصلهما النار،أصابتنا لحظة ذهول و لاوعي، لا أتذكر إلا بعض الطلاب وهم يحاولون إطفاء الحريق، أفقت على حزن و مرارة تخترقاني في مكتب المدير و هو يأمرنا بدفع مبلغ من المال تعويضا عن الفراشيْن اللذين احترقا و حديثه التافه عن أن استعمال الموقد الكهربائي ممنوع و أن الإدارة ليست مسؤولة عن ...تركتُه يلوك كلماته العفنة و خرجتُ يتبعني رؤوف يعدّ ما بقي عنده من مال و هو يكاد يبكي ..

كنا في الغرفة نتفقد ملابسنا عندما قال رؤوف بحزن مرير:

يا له من يوم! بدأ بحريق وانتهى بإفلاس، ماذا سنفعل؟ نعود إلى الطعام المسموم؟؟ أيُّ يوم هذا؟! خسرنا المال وخسرنا الجوكاندة ...

فأجبتُه مازحا في محاولة للتخفيف عنه:

حقا إنه يوم لن يُنسى ، خسرنا المال وربما نربح الجوكاندة ...

العشاء:

كانت الشمس تميل إلى الغروب ، شعرنا بالاختناق فخرجنا إلى المدينة هائميْن مفلسيْن، كنت أفكر في لقاء تلك التي رأيتُها اليوم و كيف أن القدر يريد أن يبعدني عنها أما رؤوف فكان يفكر في المال الذي خسره و لم يتمتع به أما ما كنا نفكر به معًا فهو ماذا سنتعشى متمنّين أن ينتهي هذا اليوم على خير ....

كنا نتمشّى و لم ندر كيف قادتنا أقدامنا إلى الطريق المؤدي إلى "الجوكاندة" فسألت رؤوف مستفزا:

لماذا يسمونها الجوكاندة يا رؤوف؟

أجابني بتبرم :

لأن فيه صورة عظيمة للجوكاندة ..

و بينما كنا نسير على مهل يملأنا الغثيان ليس بسبب الدجاج المسموم الذي قذفناه في بطوننا و لكن من قوة الرائحة المنبعثة من ملابسنا والتي كانت أشبه برائحة الحطب المحترق و لكن الغريب أننا وجدنا أنفسنا في حريق من نوع آخر إذا نحن وسط جموع من المتظاهرين، أمواج من الناس قادمين من طريق جانبي واسع أغلبهم من أعوان الصحة يرفعون اللافتات التي تندّد بتجويع الشعب العراقي و تطالب بفك الحصار، كانت فرصة لنسيان كل ما حدث و الانغماس في المظاهرة بلا هوادة فالصراخ يريح الأعصاب و اندفعنا وسط المتظاهرين نصرخ متناسين حُرقتنا اليومية المزمنة و نلوّح بقبضاتنا في الهواء،حاولتْ الشرطة تفريق المظاهرة بالقنابل المسيلة للدموع بلاجدوى، كنتُ أحاول إيقاف زحف القنبلة الخاطف على صفحة الإسفلت بحذائي في حين يحاول رؤوف إمساكها بيده الملفوفة بخرقة قماش و رميها بسرعة قبل انفجار دخانها الحارق على رجال الأمن في الجانب المقابل و لكن تحت تأثير غريزة الانفلات والتمرد التي تعوي في داخلي منذ الطفولة ناديتُ رؤوف وأشرتُ له أن نلوذ بالفرار فتبعني في خضمٍّ من الفوضى والهرج والمرج إذ سرعان ما تدخلتْ الشرطة بشراسة هذه المرة لتفريق المتظاهرين بالهراوات والخيّالة والكلاب المدربة و هكذا وجدنا أنفسنا نركض لاجئين إلى مكان واحد لم يكن بعيدا عنا ....

إنه هو بعينه إنه مطعم الجوكاندة الذي كان في نهاية الشارع ، كنا نلهث أمام الباب عندما استقبلنا النادل بابتسامة مطاطية شاحبة، كان وجودنا هناك مفلسيْن محظ عبث و لكن المعجزة الربانية حدثت أو ربما هي الصدفة الساخرة التي جعلتني أتسمّر في مكاني فقد لمحتُ عائشة تتجه ناحية الباب الرئيسي ، ساقَها حب الاطلاع لترى ما يحدث في الخارج، ولما رأتنا أقبلت مبتسمة، سلّمت علينا وكأنها نسيتْ الهدف الذي من أجله أرادت إلقاء نظرة على الشارع، بدتْ متوتّرة عرفتُ أنها كانت بصدد التفكير في الطريقة التي ستخرج بها من المطعم المحاصر و لذلك أدركتُ أن لقاءنا كان معجزة، أخذتنا إلى طاولتها وهي تحاول مداراة توتّرها و هكذا في لحظة خاطفة لم أكن أتوقعها شاءت الصدف الساخرة أن أجد نفسي وجها لوجه مع صديقتها، لقد ساقتني إليها الأقدار والحرائق ولهاث المظاهرات والعبث، سلّمتْ علينا، إنها هي بشعرها الكستنائي المنسدل و جلستها الملائكية الأخّاذة، صافحني أريج عطرها الهادئ المُسكر و ابتسامتها الناصعة اللذيذة، جلستُ على أريكة مواجهة لها، أتلو أدعية الحب في هيكل الوله والتيه، انهمك رؤوف في نكاته مع عائشة وهو يلتهم الطعام بنهم لينسى تعاسة ذلك اليوم في حين ظللتُ أنا صامتا مأخوذا بالشفتين القرمزيتين و العينين الجريئتين بسوادٍ هو قطعة من الليل ينضح ثلجا من البياض و سكونا من الروعة و حقولا من الفتنة، شعاعا من الفجر كانت و موجا من الروعة و قبَسا من التيه و بحرا من العواصف.

واجما ظللتُ، بقيتُ أتذكر ما حصل في ذلك اليوم فما حدث سيظل محفورا في ذاكرتي لأنه كان مضحكا حدَّ البكاء، لم أبحث عن صورة الجوكاندة لأن هذه الأخيرة كانت ماثلة أمامي، تشاركني أثير الصمت و صخب النظر ....بالفعل معجزة كان لقاؤنا...و مصيرنا كان رياحًا من القدر...!

في ذلك الأصيل لم أخرج من المطعم كما دخلتُ مفلسا بل إنني سأخرج برفقة الجوكاندة نفسها ....

تلك التي ستكون رفيقة عمري إلى الأبد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى