الخميس ١٣ كانون الثاني (يناير) ٢٠١١
بقلم فؤاد وجاني

بورك الجسد التونسي المحترق

قال الحكيم سقراط وما فتئ يقول: لا شيء قبل العدل. والعدلُ عندنا اسم من أسماء الله الحسنى. وقد حرم الله الظلم على نفسه وجعل العدل أساس الملك والرعاية. ولنا في الفاروق عمر بن الخطاب مقياس عدل نحكم به على الحاكم، ألا وهو القائل: «لو ماتت شاة على شط الفرات ضائعة، لظننت أن الله تعالى سائلي عنها يوم القيامة»، ألا وهو الخليفة الخاطب في الناس وعليه رداء فيه اثنتا عشرة رقعة. ولنا في منهج الإمام علي بن أبي طالب نبراس الثورة على الظلم: «عجبت لمن لا يجد قوت عياله أن لا يشهر سيفه أمام الناس».

ولنا في ثورة الحسين وهج ساطع ينير ظلام الحكم الظالم: «لا بَيعةَ لِيَزيد، شارب الخُمور، وقاتِل النَّفس المحرَّمة»، وفصلٌ فاصلٌ يخيِّرُنا من يحكم ومن لايحكم فينا، فإمَّا الحكم بما شرع الله وإلا استقر الذُّلُّ فينا: "هَيْهَات مِنَّا الذِّلَّة، يَأبى اللهُ لَنا ذَلكَ وَرَسولُهُ والمؤمنون".

ذاك زمان السؤدد قد ولى في أمة قد خلت، العدل أو السيف في حديه، لاثالث لهما. لايُؤَلَّه فيه إنسان سيداً كانَ أم مسوداً. الناس فيه يفِرون من مناصب السيادة إلى أركان العبادة خشية السؤال يوم الحساب.

وإني لأعجب من أناس يفاخرون بثورة الخبز الفرنسية، ونحن أمة لاتحيا بالخبز وحده. فمتى جاعت الشعوب لجوعِها ثأرتْ، وعلى الخوف تمردتْ، وكأنما القمحَ والشعيرَ دون الله عبدتْ. ومتى توَفّر لها ذلكم، العيشَ المريءَ المريعَ استمرأتْ، والعدلَ الواجبَ المستقيم تناستْ. ولطالما نجحت ثورات خُبْزٍ، فظالماً آخرَ على سُدَّةِ عرش الحكم نصَّبتْ، وجوراً أشَدَّ من سالفِ الجور على رقاب الناس سَلَّطتْ.

وَرُبَّ جسد احترق في تونس الخضراء، في زمن أصمَّ الناس فيه آذانهم عن الصياح، وأخرسوا لسانهم عن شهادة الحق، وأجبنوا قلوبهم عن درب الشجاعة، وإني لطالما عذرت الحجاج وبن علي ومن نحا نحوهما وهم كثير منذ وُلْد آدم الأُوَّلِ إلى الأُخر لِما رأيته في الناس عن اتباع الحق من تقاعس.

تلكم اليوم أجراس الحرية في تونس الحقة ترن مدويةً بالنهوض من هوان الاستراحة، تلكم طبول الحرب تُقرع في تونس الكرامة على ذلة الاستكانة ، تلكم قضية الإنسان الأولى والأخرى عليها نفسُه جُبلت وعليها تموت وبها تحيا دون المهانة.

وقد تنجح ثورة تونس فتتحرر، وقد تخفق فيصمد بن علي والقائمون معه، وقد تأتي بظالم آخر قد غرف من مستنقعات الجور فيستبد بالبلاد والعباد. والميزان في ذلكم اتخاذ العدل شريعة واعتبار القسط منهاجا، فليست هنالك حرية مطلقة، أو ثورة من أجل الثورة، أو إسقاط نظام من أجل شخص أو شريحة ما، أو تغيير حكم من أجل استفراد طبقة بالحكم.

لقد أحرق تونسي جسمه ليختزل كل المعاني في شعلة، وكأنه يقول لنا إن الأرواح التي لاتتمتع بالحرية لاتستحق سوى النار، نسأل الله أنها كانت بردا وسلاما عليه، وذلك أبلغ مما خطته كل الأنامل وعقلته عقول كل الفلاسفة في شأن الحرية.

وقد حاول الداهية بن علي سحب البساط من تحت أقدام الثورة واعدا الثوار برغد المستقبل ووفرة الشغل تخديرا لصحوة الضمائر أحيانا، واصفا إياهم بالإرهابيين والعصابات الملثمة والمشاغبين وبالمأجورين المناوئين للتقدم أحيانا، ملصقا تهمة الثورة بكيد أطراف خارجية أخرى، مستنجدا بالقذافي وبرجال الأعمال أخيرا، مستهلا قبل هذه النعوت وتلك خطابه ب"ايها المواطنون، أيتها المواطنات"، كالتائه بين خضم ماحدث ومايحدث.

لقد كشف خطابه المتخبط الأخير عن أيامه المعدودة على عرش تونس، وعن محاولات يائسة تريد لمَّ كيْل قد طفح، كمن يلقي خطابا وسط الطوفان بدل الفرار بجلده.

هذه تونس تمطر غيثا من شباب ورجال، تنثر وردا من شابات ونساء، هذه تونس تثبت أن الأرض خضراء خصبة رغم سنوات التجفيف والإعدام للناس والتراث والأخلاق والدين.

احصد يابن علي مازرعته أياديكم المستبدة ضد من حسبتموه شعبا مقصوص الجناح. إنها لعنة سجناء الرأي الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا، إنه أذان المآذن الذي منعتموه يخترق آذانكم، إنها الشُّعُر والأفخاذ التي عريتموها تلاحقكم لتعريكم، إنها هوية أحفاد طارق بن زياد التي طمستموها جاءت لتحاسبكم، إنها قناديل العقول التي أخمدتموها تلتهب نارا لتحرقكم، إنها سياط التعذيب التي جلدتم بها خيرة الناس تئن لضربكم، إنها مقدمة ابن خلدون تُسطَّر لتؤرخ خوارَكم، هاهم قد أتوا من كل حدب وصوب حبا في العدل وأهله، من سيدي بوزيد إلى المزيد، يرثون المظلوم ويبغضون الجور وذويه.

لن ينفعكم تجنيد الإعلام المرئي والمسموع الكاذب، ولن يفرق رصاص جندكم صفَّ الثوار المرصوص، ولن يخيف جلادوكم جِلْدَهم الجلَدَ، ولن يغررهم زيف وعودكم بالغد المشرق الخادع، لقد جاءكم أمر الله وليس لأمر الله من راد سواه، فهؤلاء قوم يفضلون الموت واقفين بدل العيش لأمثالكم راكعين، واليوم معركة وغدا المستقبل لهم. وقد تذري الرياح بركة رماد الجسد المحترق شرقا، وقد تذروه غربا، فاحذر الظلم يامن بات جالسا على مقاعدَ قد صنعت لأهل العدل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى