الاثنين ٧ شباط (فبراير) ٢٠١١
بقلم محمد الزاكي

الليلة الكناوية

محمد الزاكي

دخل الزقاق يعانق حضن ليل صيفي رطب ، تلطف جوه بعد نهار أفرطت شمسه بحرها ، سحق سيجارته بقدمه لما توقف عند عتبة " الزاوية " ، ألفى نفسه فجأة منغمسا في طقس روحي ، أرهف سمعه ، فتتابعت الايقاعات نافذة في أذنيه ، متداخلة بالكلام الكناوي ، وبالألوان ، والنغمات الهجهوجية لمقام " الكويو " .

للمرة الأولى بموغادور يصل إلى زاوية " سيدي بلال" ، سمع بغثة
" مقدم الكناويين " ينشد: " الباشا حمو.. سيدي حمو..." . توقفت عيناه كالمجذوب ، فتوقف المقدم عن إنشاده وداهمه مفتطنا لأول زيارته : " هي
الزاوية بعينها ...والليلة ليلة الدردبة." . غالبته الرغبة لمواكبة هذه الليلة ،
فاقترب مجاوزا الباب قليلا .. أصابته قشعريرة ، فبرز صوته الداخلي مخنوقا، استسلم لصمت قصير، ثم مالبث أن نفذ عبر أذنيه صوت امرأة...
كان صوتها تطغى عليه الثقة بالنفس والخبرة المكتسبة ، أراد أن يقول للمقدم شيئا ، فانطبقت شفتاه بعنف وعناد ، راقب خلال صمته ما يجري عن كثب بالداخل . قال له المقدم راصدا تردده وصمته : " ادخل ، لا تردد
أو تخجل..." .

اندفع بدون ارتباك إلى الداخل ، دبت في أعصابه روائح البخور ، فترنح
كالمخمور مشبعة خلايا دماغه باحتراق الجاوي المتراكم على المحرقة الفضية البارعة النقوش . لم تتضايق المرأة بخيوط البخور المتصاعدة في
اتصال ، تخترقها وتحفها من كل جانب . سمع بعضهم يناديها باسم مثير ،
فعلم بأنها تحضر في شخصية هذا الاسم .
" مولاتي دادا " . هكذا ناداها أحد رجال الفرقة الكناوية بهالة من الهيبة
والتأدب.
تجلت الزاوية بعتمة غير داكنة ... الهواء مشبع بروائح البخور وأنفاس
رجال الفرقة ، تتراقص أجسامهم ببشرتها السوداء ، وترشح ملتمعة بالعرق، تشتربه ألبستهم الخضراء والحمراء والزرقاء المنمقة بالأصداف
المتناسقة . أيقن بحلوله في طقس كناوي خالص ، وعندها داهمه مرأى فتاة
مثل وردة طرية يختنق صفاؤها بمسحة باهتة من الشحوب ، تختفي تلك المسحة وتظهر في تيار جاذب من الاكتآب والتوتر العصبي . نظر إليها بإمعان ، فغار في بريق عينيها ، صادفت عيناه عينيها ، فتراقصت أمامه أطياف من البسمة كالماء الزلال ، وبدت أسنانها ناصعة تحاكي صفاء ثلج مطهر. مرق بسرعة عنه البريق ، فاتضح أن دعابتها مجهضة بعارض من
الشحوب يصارعه حسنها القاهر ، لم ينل بقوة سوى من أعصابها وأصواتها الداخلية المحترقة .
تصلبت بعد صراع مرير من تأثير " الجذبة " ، فاقتيدت الفتاة إلى "دادا"، كانت في زهرة عمرها ، ترددت وهي مقتادة إلى المرأة ، رقصت الفتاة طويلا على إيقاعات " الكانكا " و " القريقبات " ، وشطحت روحها مسحورة بنغمات آلة " الهجهوج " .
حدق في يديها الناعمتين والمزينتين بخضاب الحناء في أشكال من التفنن.
فتنه عنفوان شبابها وقوامها الممشوق بجمال وجه متمرد على الشحوب ، ظل العزف على الهجهوج متواصلا ، اشتدت نغماته على أعصابها ، تحاوركل نغمة تصلبها ، تجلى ارتعادها في تصعيد النغمات ، فغرقت روحها في شعور بعيد المهوى ينز بدموع قبل أوانها .
مازال وجهها يفيض بملاحته ، يتناغم مع شعرها الأشقرالملتمع . قال عنها منتشيا بنشوة الهجهوج : " حسن يرقص لسكرة النغمة ! " ، ثم تساءل:" ما الذي جاء بهذه الجميلة إلى هنا ؟ ." .
انتابه حزن غريب ، شرد ذهنه لحظة ، فاستفاق قائلا: " موغادور جميلة
وساحرة في كل شيئ!..." .
تعبت الفتاة من رقصها ، فتهاوت كفراشة صريعة إلى الأرض، وقعت بين أحضان " دادا " ، شرع جسمها البض يتقافز كله مثل يمامة مذبوحة .
ازداد حزنه عليها وهو يرى " دادا " تحكم ذراعيها بقبضة يديها . قال لنفسه باشفاق شديد : " لن تحتمل هذه الوديعة المسكينة " .
اشتد حزنه عندما استعانت المرأة برجلين من الفرقة ليتسنى لها أن تطلي الحناء على قدميها اللينتين . كان ايقاع القريقبات يتواصل ، ونبرات الهجهوج ترسم بوتيرة صعودها وهبوطها مقاومة الفتاة لمن يمسكها بعنف ، والكلمات الصوفية تنبع بشجن آسر ، مرددة أسماء كريمات من النساء:" للا عيشة الكناوية السودانية .. للا مليكة صاحبة الحناء .. للا ميرة ... للا رقية..." . هدأت الفتاة شيئا فشيئا ، فاختلت ب" دادا" لتكاشفها وترشدها . استأنف رجال الفرقة طقوسهم ، كانت ضربة واحدة من " الكانكا " ترج أعماقه ... ألسنة لهب أصوات مختلفة تزلزله .. سكنت الأصوات وخفت درجة تزلزله . نظر الى سقف الزاوية وإلى كل جدرانها ، كل شيئ حوله يسري به الى عالم من الألوان ، أبصر مقدم الكناويين اصطراعه في عالم الألوان ، فسأله : " ما اللون الذي يأسرك الآن ؟ " .
أجابه مستريحا: " أجدني مجذوبا باللون الأزرق " .
انشرح المقدم قائلا : " أنت اذن مملوك سيدي موسى البحري .. ".
امتلأت روحه بجاذبية الشموع البيضاء والحمراء والخضراء والزرقاء ، وقال مبتهجا : " أنا كذلك بحري ، أحب الاختلاء بنفسي متأملا زرقة الأمواج ، ونسيم البحر المنعش ... " .

خرجت الفتاة من عند دادا مرحة مسترجعة لبريق حسنها ، كاشفت دادا فوجهتها وزودتها .. اتضح بأن الكل يطمئن ويحتاج لإرشادات دادا . نال الألم من ركبتيه بعد جلوسه مدة غير قصيرة على السجاد ، ظهر له وجه الفتاة ساعتها كقظعة نقدية سكت لتوها . ودعت أسرة الفتاة الزاوية بسعادة تتساقظ عليها كثمرات جنية يانعة ، شكروا دادا وكل عناصر الفرقة ، اتجهوا إلى خارج الزاوية يغمرهم تفاؤل غد مشرق لفتاتهم . ترك هو كذلك
الزاوية شاكرا أفضال المقدم في مواكبة التجربة الكناوية .
انعطف جانبا باتجاههم ، وجدهم جاوزوا الزقاق واستقلوا سيارتهم الزرقاء ، لم يستطع اللحاق بهم . كان الليل ما يزال مختالا في استطالته .. جاب المدينة مستمتعا بليلها الرطب .. أصوات الألوان والمقامات والمملوكين تقرع أذنه ...أراد أن يتخلص منها ومن صورة الفتاة والمرأة دادا ، فلم يستطع .

سلك إحدى شوارع المدينة متغنيا بغير الألحان الكناوية لعله ينسى ، فعادت الألوان تداعب رأسه .. فاستسلم لها ، وتغنى بالمحفوظ من الكناوي
الذي تلقاه بالزاوية ، ولما اقترب الى آخر الشارع أدرك بأنه ابتعد عن الزاوية وعن عالمها ، فاستعدت نفسه لتنعتق بعد لحظة من أغلال "الجذبة".
تبخرت بعد هذا الاستعداد النفسي كل الألوان والأصوات والصور عبرنسيان خامد إلى أجل قريب ، فقد يعود لاحقا ليعيش تجربة ليلة أخرى .

- سلا - المغرب

محمد الزاكي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى