الثلاثاء ١ شباط (فبراير) ٢٠١١
بقلم فؤاد وجاني

وصفة البقاء للملوك والرؤساء

أثبتت الثورة أن الحكام سواء ملوكا كانوا أم رؤساء أم أحزابا ليسوا مخلوقات سامية منزهة، وأنهم ليسوا كائنات خيِّرة ملائكية، فهم يخافون كما يخاف الشعب، ويضعفون كما يضعف الشعب. وقد يتخلى عنهم الحلفاء لظروف اقتصادية ومصالح حيوية. وقد تتخلى عنهم أدوات سلطتهم في أي وقت وحين لأن عُمال شرطتهم وعسكرهم ليسوا مخلوفات فضائية، فانتقاؤهم كان من الشعب لإرتداء البذل الرسمية، ولهم إخوان وأخوات وأمهات وآباء يعانون مايعانيه الشعب، وهم يمكلون كما المدنيون قلوبا مجبولة على العدل.
وفي عصرنا لم يعد الحديث عن مجتمع مدني وآخر عسكري ممكنا في ظل حكم نخبوي مستبد يسيطر على الجيش كما الحكومة كما سائر اقتصاد البلاد وإعلامه ودينه وسياسته، لذا فإن حراك الشعب بمدنييه وعسكرييه بات أمرا ضروريا لابد منه لتبقى الحياة ممكنة على أرض ما في زمان ما.

وقد كان للعسكر الدور الرائد أيام غفلة الشعوب وقلة مثقفيها وحسور إعلامها وقلة حيلتها، وقد كان دافع الانقلابات العسكرية في مامضى شعور بالحيف وحنين إلى العدل من منظور عسكري، لكنها فشلت في تحويل الحاكمين الجدد إلى عادلين لأن الغاية النبيلة ذات الوسيلة المهينة لاتفيض إلى نجاح، فالقوة من أجل بسط القوة كالعضلة دون عقل يحكم بطشها وحكمة تضبط ميولها، وحسن النية دون نهج الحق لايؤدي إلى طريق عدل.

إن الأجيال السابقة لم تكن أجيالا خامدة واهنة بل سعت إلى التحرر بشتى وسائل، فكم من معارض تم اغتياله سرا وعلنا، وكم من سجن آواه فوق الأرض وتحتها، وكم من مجروح أحدثت فيه أدوات البطش عاهات مستديمة، ومنهم من قضى نحبه دون أن يعلم به أحد سوى الله، ومنهم من قضى زهرة شبابه تحت وطأة التعذيب وراء القبضان، ومنهم من لايزال ينتظر الفرج من السماء. لم يكن ذنب كل هؤلاء سوى أنهم عبروا عن حرية الرأي المكفولة لكل إنسان لأنه إنسان قبل أن تختزل القوانين الموضوعة كينونته في كلمة مواطن، وتستأصل حقوقه المشروعة تحت غطاء حفظها.

إن الصراخ أول علامات الحياة، والشعب الذي لايثور كالمولود الذي لايصرخ، كلاهما ميتان. وإذا لم يصرخ الشعب ضد حكامه إن هم ظلموا لم يستحق الحياة، لأن الحرية والحياة أمران متلازمان. لذا فإن ثورات الخبز تخمد بتوفره، أما ثورات الحرية فأبدية حتى حصولها وإن أخذت في طريقها الحياة. والحاكم المستبد القابض على رقاب الناس بيدين من حديد لاينظر إلى وسخ يديه، ولايؤمن بفعلي الصدأ والأكسدة، وليس محيطا بفعل عناصر الحياة من ماء وتربة وهواء وشمس ونار، ولو أنه راقب تقلب الطبيعة وحركتها لأدرك أن في العدل بقاء لملكه وفيه حفظ لدولته. ذلك أن خراب ملكه يكون على يديه من حاشية ورؤساء دوواين ووزراء وعمال وولاة وقادة ومدراء. والناس لايرون الحاكم إلا من خلال هؤلاء، فإن هم عدلوا ظنوا بالحاكم خيرا وكنوا له حبا يعلنوه صدقا، وإن هم بطشوا أضمروا له بغضا وأظهروا له حبا فزعا ونفاقا. والبغض يتكدس في النفوس حتى يبلغ مبلغا لايحتمل بعده تصنعا أو رياء، وحين يحين الوقت المعلوم تفرغ الصدور سنوات من الحقد والنقمة، وتنتقم النفوس من حكامها.

وقد يكون الحاكم بريئا مما ينسب إليه من جور لجهله بظلم أعوانه ومعينيه إما لثقته العمياء بهم أو لتقاعسه عن رصد أمورهم وتتبع نهجهم مع الرعية، لكنه يبقى ظالما أمام الله والناس لأن المتهاون في الرعاية كالمشارك في الظلم. وقد يغفل الحاكم عن الرعية، ويوكل أمورهم لغيره دون رقيب أو حسيب تفرغا لتجارته ومصالحه أو لهوه ورفاهيته، والحري بالحاكم التخلي عن أموره الخاصة لفائدة العامة، والخليق به التضحية بنفسه ووقته لوطنه، والأولى له التفرغ لمصالح شعبه. ولابد أن يراعي في اختيار الولاة والأعوان مبدأ التقوى، فمن رجا الخالق لم يرج المخلوق، ومن عدل مع نفسه عدل مع غيره، ومن استوصى بنفسه خيرا كان خيِّرا مع غيره، ومن لم يرج ثواب الآخرة طمع في الدنيا، ومن لم يحفظ عهود الله لم يحفظ عهد السلطان.
إن بقاء الملك والرئاسة رهين بالترفع عن الاستبداد على اختلاف أشكاله وألوانه سواء كان نهجا أو كلاما أوعملا أو ظاهرا أو باطنا أو ألقابا. فلابد أن ينزل الحاكم عن رفاهية عرشه إلى ازدحام الأسواق وزحمة الأقدام والاختلاط بالناس وحل مشاكلهم واقتسام معاناتهم قبل أفراحهم، فالحاكم من حكم بحب الناس، والحاكم من سلط جند المساواة على رقاب الناس، وليس الحاكم من حكم بمنطق العصا وإثارة الفتن ولا من ساد بالتفريق بين شعبه. والحاكم من سمع إلى شكوى الناس وأصغى إلى نقدهم ولقي لومهم بصدر رحب، بل الحاكم من يحثهم على ذلك، ويفتح لهم باب داره، وينتصر لهم على الظلم. فمتى آثرالشعب على نفسه وفضل العدل على الظلم، حرسه الناس بأعينهم، وضمنوا بقاء ملكه لما في بقائه من نعم لهم ولزواله من نقم. وقد بات التواصل مع الناس اليوم أسهل وأسرع لتطور تقنياته وتنوع سبله.

وإذا كان الرفق والحلم من خصال الحاكم الفطن في تعامله مع شعبه، فإن الغلظة واجبة والفظاظة لازمة في أمور العدل على نفسه وذويه وأهله وولاة الأمور أولا، فهؤلاء يعاقبون ضعفين ثم العامة من الناس. والتفريط القليل في ذلك قد يورث التفاوت في المساواة، وإذا وقع التفاوت في العدل شعر الناس بالحيف، وحكَّموا أهواءهم، وفسدوا في الأرض، فارتدوا عن طاعة الحاكم لأن مهمة السلطان تنفيذ سلطة القانون والحرص على المساواة في تطبيقها ضمانا لسمو العدل والأخلاق.

ووجب على الحاكم التبسط في البلاد والسير فيها طولا وعرضا أنما وجدت رعية، والنزول إلى ديار الناس، وتفقد أحوالهم في السر والعلن، ليس رغبة في تلميع صورته أمام الإعلام ليظهر ظهور الحاكم الرحيم المحب للفقراء، بل إخلاصا في العمل الخالص من الرياء، لأن الحكم عبادة يحاسب عليها الحاكم وليس قلادة يلبسها للزينة.

وأولى خطوات التواضع التي ترفع شأن الحاكم في أعين العامة التخلي عن ألقاب السيادة والجلالة والفخامة وطقوس تقبيل الأيادي والركوع والخضوع، فالتواضع للناس والترفع عن الكِبر يلبس الحاكم هيبة حقة لن تمنحها إياه مظاهر الخيول المسرجة والسيارات الفاخرة والطائرات الخاصة والألبسة المزركشة والقصور الوسيعة وكثرة الخدام ووفرة الحاشية. ونفس الإنسان جبلت على العزة فمتى أعز الناس جعلوه عزيزا، وإن أذلهم أخرجوه ذليلا. فإن بايعه الناس بايعوه لحكمته وعفته وحسن سياسته، فيكون رضاهم به حرا وخضوعهم له طوعا. وإن بايعوه لقوة جبروته وشدة عصبته وشرف قبيلته فاختيارهم له يكون قسرا واتباعهم له قهرا، وقد يخضع الظاهر ولايمتثل الباطن فيكون حُكم الحاكم كالبنيان الشاهق ذي الأساس الهش.

ولابد للحاكم من الحث على العلم ورفع مكانة العلماء والفقهاء والمثقفين وأهل الحكمة والفن والأدب والدين، ولابد أن يوفر لهم حظوة في مجلسه فيعرضون عليه ماتوصوا إليه في ميادين الاختراع العلمي والبحث الديني والفكري والإبداعين الأدبي والفني، فالعلم روح الدولة والدين حصنها والتجديد نهجها والأدب لسانها والفن جمالها، وهكذا مجالس تحث العامة كبارها وصغارها على التعلم وينهض المجتمع وتقوى الدولة بين الأمم، فالجهل أشد الشرور على الدولة هلاكا بعد الفقر، وقد يُحارب الفقر بالمال في وقت وجيز لكن الجهل يلزم أعواما.

ووجب على الحاكم صحبة أهل المشورة الصالحة، الناصرين لله دون أحد من الناس، الأشحاء على هوى الأنفس، الزاهدين في ملذات الحياة، الراغبين في لقاء الله، العالمين بأحوال الدين والدنيا، المتصفين بالحكمة وسداد الرأي، الخبيرين في تيسير شؤون الناس والبلاد، مَن رأيهم كالسيف في الحق نصرة للمظلومين، وحلمهم كالماء في الغضب رحمة بالجاهلين، فرب شورى حسنة واحدة خير من ألف حرب، وبضع أهلها خير من جيوش جند. وإن شر الاستبداد استبداد الحاكم بالرأي، والأحمق وحده من يظن أنه أعقل الناس.

قد يتغير الدهر وتتبدل وسائله، وقد يكتشف الإنسان الفضاء ويخترق الأرض ويغوص في البحر ويتطاول في البر ويتواصل تواصل البرق، وقد تتعدد الأدواء والدواء واحد، والعدل واحد والظلمات أنواع. إن العدل سر بقاء الملك، وماهَوتْ إمارات ومملكات وصلت حدود الشمس إلا لسقوطها في الظلم. والظلم إساءة وخلط ومنع حقوقٍ ونقص وتفريط وتبذير ووضعُ الشيء في غير موضعه بل وشرك لأن الله عدل، فمن ولي أمور الناس ولم يكن عدلا فقد ظلمهم وظلم نفسه. والعدل غاية لاتدرك تماما لكن السعي إليها عدل. وأما الناس فلايسعون إلى الحكم في زمان العدل إلا ابتغاء شرف يوم القيامة لأن اعتلاء مناصب الحكم في الدنيا ابتلاء، فإن طلبوها فلظلمٍ وإن طُلبوا إليها فلعدل. والله أعلم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى