الخميس ١٠ شباط (فبراير) ٢٠١١
بقلم هند الرباط

مفهوم الدولة العادلة عند أفلاطون

يُعد أفلاطون (427- 347ق.م) هو مؤسس الفلسفة السياسية في التاريخ، فبعد إدانة أستاذه سقراط وإجباره على تجرع السمّ الزعاف راح أفلاطون يطرح العديد من التساؤلات: كيف يمكن لحكومة منتخبة ديمقراطيا أن تقتل أفضل البشر!؟ ألا يعني ذلك أن هناك مشكلة في تصورها للحكم ثم بشكل أخص للخير والشر؟، أليس من الشر أن نقتل الفيلسوف الحكيم الذي كرس حياته لتوعية البشر وتربيتهم وتثقيفهم؟، ألم يكن قلب سقراط مفعما بحب الخير للدولة والمجتمع وكل أبناء الشعب دون استثناء. فلماذا قتلوه إذن؟.

هذه الأسئلة وغيرها هي التي قادت أفلاطون إلى الاهتمام بالسياسة. ويعتبر أفلاطون هو أول من وضع نظاما سياسيا فلسفيا صاغه في الجمهورية وفي النواميس لاحقا. إذ حسب تصوره أن المشكلة الفلسفية الحقيقية إنما هي مشكلة سياسية تقع في صميم المجتمع وحياته المدنية التي تحتاج إلى إعادة بناء جذري بغية قيام نظام مثالي، وهذا التصور الفكري له صلة بحياته وخبرته سياسيا واجتماعيا وفنيا وأدبيا وعسكريا أيضا. فهو سليل أسرة عريقة عُرفت بالمجد والشرف السياسي والاجتماعي من جهة، وقد مارس من جهة أخرى نظم الشعر وتأليف المسرحيات ونبغ في الرياضيات والبلاغة والموسيقى، وشارك في حروب البلوبونيز من 431 إلى 404 ق. م. ونال جائزة لشجاعته. يضاف إلى ذلك سفراته ورحلاته لطلب العلم والمعرفة ومنها ذهابه إلى مصر. علاوة على المرارة النفسية التي ذاقها منذ إعدام أستاذه سقراط بدوافع سياسية، تلك الأمور والقضايا خلقت عند أفلاطون رؤية سياسية فلسفية مميزة قدم من خلالها الحل الأمثل لمشكلة السياسة داخل المدينة (أو الدولة) الفاضلة Utopia وبما أن الفيلسوف يحيا فقط بهذا النوع من المدن وليس في مضاداتها، وبما أن الحياة السياسية عبر كل العصور فيها شرور وبطش وفساد، لذا شيد أفلاطون جمهوريته النظرية القائمة على أسس العلم والمعرفة من ناحية، والمحكومة بقيادة العقل والفلسفة من ناحية أخري.

ولكي نفهم تركيبة التفكير السياسي عند أفلاطون، علينا أن نفهم أيضا بنية تفكيره الأخلاقي، لأنها متضمنة ومتداخلة فيها. فالسياسة ليست أكثر من امتداد طبيعي للأخلاق. وهذا النهج اتبعه أفلاطون ثم أرسطو وبقية فلاسفة اليونان قاطبة.

ومن هنا كان أفلاطون يدحض مزاعم السوفسطائيين القائلين بإنكار قوانين الأخلاق وقوانين الدولة، بدعوى أنها من اختراع الضعفاء من أجل حماية أنفسهم من جبروت الأقوياء. فالسلطة حسب رأيهم هي حق شرعي للأقوى دائما، بينما يرى أفلاطون أن إحراز السلطة إنما يكون بقوة العقل لا بقوة الغاب الوحشية، وهذا الرد رفع أكثر من شأن السياسة ككونها علماً متصلاً بالأخلاق وقوانينها.

وكانت مسألة العدالة في صلب الفلسفة السياسية لأفلاطون، فهو لا يريد أن تصدر الدولة قرارا ظالما بحق أي شخص بعد كل ما حصل لسقراط العظيم، إنه يريد دولة تعاقب المجرم لا البرئ وتكافئ الإنسان الخيّر لا الشرير، وإذا لم يتم فعل ذلك فإن المقاييس تفسد في الدولة والمجتمع وتصبح الأمور عاليها سافلها وبالتالي فالعدل هو أساس الحكم عند أفلاطون.

الدولة والشعب:
دولة الحق التي شيدها أفلاطون يعمقها العدل أساسا. إنها صورة مكبرة للفرد، لأن غاية الأخلاق هي الدولة لا الفرد، بمعني آخر أن الفرد عبارة عن صورة مصغرة للدولة، والدولة هي الهيكل الضخم لهذا الفرد، وبما أن (القوة الناطقة) في الفرد تعتبر أعظم القوى جميعا، لذلك يجب أن تكون الفلسفة هي القوة الحقيقية في توجيه الدولة، ويجب أن يكون رئيسها فيلسوفا، لأن العدالة في الفرد وفي الدولة لا يمكن أن تتم ما لم يبسط العقل نفوذه وحكمه.

ولقد قسم أفلاطون الدول التي تضاد دولة العدل إلى أربعة أقسام هي:

1 ــ الدولة الدينية: وهي حكومة الطبقة الوسطى، التي تسمح بالملكية الخاصة وما يصيب النظام من اختلال بسبب ذلك، فتجعل العسكر في هذه الطبقة هم الأفضل. مما يؤدي إلى العنف والحرب.

2 ــ الدولة الإقطاعية: ناتجة عن الدولة الدينية، حيث يعتاد الأفراد على جمع المال بأية وسيلة كانت، وبسبب ذلك تضمحل وتنتهي الفضيلة حيث لا يبقي غير الأثرياء الذين قد يكونوا جمعوا أموالهم بطرق مشروعة أو غير مشروعة.

3 ــ دولة الشعب: وهو الحكم الديمقراطي الفوضوي، حيث يثور الفقراء على الأغنياء، بسبب الحرمان والتعسف، ويصبح الحكم شائعا للجميع، لا نظام ولا قائد مُسيطر، بل الشعب يحكم نفسه بنفسه.

4 ــ الدولة الإستبدادية: وهو حكم الطغيان والمصالح الشخصية. إذ بعد أن تعم الفوضى لحكم الشعب، تفرز هذه الحالة فردا من المجتمع يوهم الجميع على أنه سوف يبني الدولة بلا ضرائب ولا ظلم.

ولقد قسّم أفلاطون أيضا شرائح المجتمع إلى ثلاث طبقات مثلما قسم النفس الإنسانية. فالأولى هي طبقة الحكام والتي تقابلها النفس الناطقة.
والثانية: طبقة الكتلة العسكرية وتقابلها النفس الغاضبة. وأخيرا طبقة العمال: وهي تقابل النفس الشهوانية.

الحاكم والرئيس:
ينص أفلاطون على أن الحاكم لا يصلح ولا يكون إلا فيلسوفا ويسميه المثل الأعلى، والسبب الرئيسي في ذلك هو أن الفيلسوف أو الفلاسفة الحكام هم وحدهم الذين يدركون التصور المثالي للحكم لا سيما وأنهم لا يبغون السلطة من أجل المال أو الجاه أو التسلط. بل غايتهم المصلحة العامة فقط.

النظام والتربية:

يرى أفلاطون أن الإنسان المثالي هو الذي يسيطر بقواه العقلية على قوتي الغضب والشهوة، لذا فإن نظام الدولة يكون مثاليا من وجهة نظر أفلاطون إذا سيطرت طبقة الحكام الفلاسفة على طبقتي الجيش والعمال، ويكون نظام الدولة هو المسؤول عن تربية الأفراد وتنشئة الجيل المتميز بالعلوم والفنون والعدالة، فيأخذ كل فرد منزلته العلمية والعملية في المجتمع حتى يصيروا جديرين بنيل المثل العليا في رئاسة الدولة والحفاظ على نظامها التربوي والتعليمي.
في الختام أود أن أقول أن أفلاطون قد فهم أن السلطة هي وحدها القادرة على لجم السلطة ومنعها من تجاوز الحدود في التعسف والبطش والظلم وبالتالي فلا ينبغي أن نترك نزوات الحاكم تأخذ كل أبعادها وتقود إلى الاستبداد والكوارث، وإنما ينبغي تحجيمها أو لجمها عن طريق القوانين والتشريعات. كما رأى أفلاطون أنه حتى الديمقراطية يمكن أن تحمل في طياتها بذور الطغيان والتعصب والظلم إذا لم تقودها القوانين العادلة والحكيمة.


مشاركة منتدى

  • مقال جيد جدداً . يتميز بالإختصار والوضوح . وهو بالتالي مفيد لطلاب الثاني الثانوي والثالث الثانوي . إذ يعطيهم فكرة واضحة ومختصرة وجميلة عن فلسفة الفيلسوف اليوناني " أفلاطون" وعن أفكاره المثالية في تكوين الدولة. بارك الله جهودكم.

  • بدون مقدمات؛؛ بصراحة موضوع قيم في منتهى البداهة والوضوع وإنه جدير بالقراءة والإهتمام لاطالما يحمل في طياته أفكار قيمة شكلت ثمرة سياسية وأخلاقية في تاريخ الفلسفة خاصة وفي تاريخ الفكر السياسي عموما ؛وشكرا جزيلا وبارك الله فيكم وزاد من علمكم وتألقكم

  • في الحقيقة !كم نحن اليوم بحاجة الى مثل
    هذه الفلسفة وتطبيقها في عالمنا وخاصه
    العربي !وايضا يا ريت وتدرس هذه للاجيال

  • نحن لدينا في العراق دولة أفلاطونية يتم تشكيلها كل عام لمدة عشرون يوماً فقط..حيث تجتمع ملايين الناس حول قبر أبي الأحرار الإمام الحسين(ع) في زيارة الأربعينية التي تبتديء جموع الزائرين بالتجمع بدءاً من الأول من صفر الخير وتبلغ ذروتها في العشرين منه وهذه الجموع : -
    ١-بدون مدير يقوم بتنظيمها.
    ٢-بدون مشرف ولا زعيم يوجه تحركها.
    ٣-بدون ممول يمول لوجستيا حركة الناس ومتطلبات سيرهم عبر مئات الأميال صوب مرقد الإمام الحسين (ع).
    ٣-ليس بدعم الدولة أو الدول ولا الشركات ولا المؤسسات ولا أية جهة أخرى..ولا بدعم زعيم ديني ولا سياسي ولا قبلي ولا تاجر ولا غني ولا قوي ولا عظيم ولا كبير..ولا ولا ولا..الخ.
    ٥-في هذه الدولة كل شخص يعرف واجبه ففيهم من يقدم الطعام والشراب ومن يقدم العجلات لنقل الزائرين ومن يوفر أماكن المبيت ومن يوفر الأفرشة والأسرة لمنام الزوار..وفيهم من يوجه السير..وفيهم من يوفر العلاج وتطبيب المرضى..وكل هؤلاء يقومون بهذه الأعمال بجهد شخصي وعمل طوعي بدون أمر من سلطة عليا.
    ٧-هناك بعض الأعمال والمساعدات التي يقدمها بعضهم للبعض الآخر مما لا يتصوره العقل مثلاً(أحدهم يقوم بتصليح عربات نقل الأطفال..بعضهم يقدم خدمات شحن بطاريات موبايلات الزائرين..بعضهم يقدم خدمات تدليك الزوار..بعضهم يبني الحمامات والمغاسل لقضاء حاجة الناس..بعضهم يقوم برصف الطرقات وتسوية الشوارع لتسهيل مرور الزوار..والله يعجز اللسان عن التعبير عن كل الخدمات فضلا عما لذ وطاب من أنواع المأكولات والمشروبات..وووو ووو. .الخ).
    ٦-وكل هؤلاء يقومون بهذا العمل بدوافع ذاتية وليست أوامر عسكرية أو حكومة مدنية..وهم يقومون بهذه الأعمال حبا بالإمام الحسين(ع)..وليس لشيء آخر.
    ٧-وبعد إنقضاء زيارة الأربعين يعود كل منهم إلى حياته الطبيعية ليزاول عمله المعتاد عليه في حياته.
    ٨- وكل هؤلاء وبعد كل ما يبذلونه يعتبرون أنفسهم مقصرين تجاه الإمام الحسين(ع)وتجاه تضحياته.
    ٩-وكل هؤلاء يقومون بأعمالهم بدون كلل أو ملل أو سأم أو منة على الآخرين بل يستشعر بعضهم تجاه البعض الآخر بالتقصير.
    ١٠-لا يستشعر أي شخص سواء كان خادما في هذه المسيرة أو مخدوم..لا يستشعر بوقوع أدنى ظلم عليه.
    @@وهناك أشياء كثيرة لم أستطع ذكرها للإطالة.
    أليست هذه مثال حي لدولة أفلاطون العادلة..بل دولة ليست فيها حيف أو ظلم أو تقصير أو أي شيء من هذا القبيل..لذا فهي أفضل من دولة أفلاطون.

  • مقالة واضحة أنيقة مركبة ومفيدة لأبناء الثالث الثانوي ، وفي قرائتها توضح كل الإشكاليات المتعلقة حول فلسفة السياسية للعظيم والمثالي أفلاطون

  • مقالة مختصرة ولكنها في المستوى المطلوب من حيث الايضاح وابراز الابعاد المختلفة لفكر افلاطون السياسي حول مفهوم الدولة والمواطن والعلاقات المتداخلة بينهما

  • الشعب يحكم نفسه بنفسه ستعموالفوضي
    والقتل والهلع بين الضعفاء من عموم الشعب
    فعليهم تنصيب حاكم ويجب ان يكون فيلسوفا
    لان الفلسفه لايريدون الا مصلحه الاغلبيه الا وهم الشعب

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى